الخرافة ـ مادة الثقافة الراهنة...
لماذا تتوافق الميتولوجيا (أساطير العهود القديمة) ونموذج الإنسان البسيط الساذج، ولا تنسجم وعقلية الإنسان المعاصر؟ في هذا السياق كتب المفكر الإنكليزي "أنتوني هارتلي" في مجلة "النزال Encounter" أن الثقافة الجماهيرية القائمة على الخرافة، هي مرض المجتمع الصناعي.
ويمكن القيام بالتحليل العلمي للخرافة، للحصول على المضمون الأساسي وتركيبه البنيوي ومادتها... حيث لم تزل مستقرة في أذهاننا بعض النزاعات أو الآثار الخرافية وبقايا أساطير الماضي وبخاصة أساطير المجتمع البدائي الأول الذي لم يكن ذا قدرة على فهم التطور القائم من حوله، والعلاقات البدائية الأولى والمسببات الأولى لنشوء الخرافة. فيما تحوّل عقل الإنسان بالتدريج إلى فهم حقيقة العلاقات البشرية على صورة الشكل المطابق لعقله. ومع هذا بقي الإنسان عاجزاً عن فهم التقدم البشري العقلاني لفهم مادة الخرافة.
وأظهر تطور العقل تقدّماً ملحوظاً في هذا المجال، فحصل البحث العلمي على نتائج هامة في تطور الوعي البشري. وليس هذا فقط بل وأننا شهود على التطور الحاصل في الخرافة الجديدة أيضاً وتحوّل الخرافة القديمة الكبير. إذ إن الخرافة تواكب تطور كل عصر وتسير بمحاذاة التحول العام فيه. وعليه فإن كل المحاولات السابقة لبحث الخرافة كانت أحادية الجانب ولم تقم بتجربة علمية لسبر أغوارها بشكل متكامل علمي ميداني، إذ إن هذه التجارب والمحاولات كانت جميعها تتمحور حول معرفتنا أو الإحاطة بأسباب وبنية الخرافة دون الغوص إلى جوفها، ممَّا شكل خرافات جديدة تماشي عصرنا. وقد قام رهط من الباحثين بمساهمة في بحث جوهر الخرافة وتحليل كنه هذا السر الغامض، مثل: فيشر مالينوفسكي، مايير، لوكاتش، فورم، وسوفي. ومنهم من أصاب نجاحاً كبيراً ومنهم من لم يصبه إلا قليلاً. ولعل إيريك فورم والفريد سوفي قد حققا نجاحاً باهراً في هذا المجال.
ففي كتابه "جحيم من الحرية" أوضح إيريك فورم طبيعة الخرافة الجدلية بالقياس مع درجة تطور الوعي البشري، منطلقاً من عالمية الخرافة وانتشارها الكبير عبر كل الحدود الجغرافية... وهي مترافقة مع الإنسان منذ المجتمع البدائي حتَّى المجتمع الحديث وإنسانه المعاصر. وقد سمّاها فورم: "أصل المهيج العاطفي" في حين رأى سوفي، في إطار نظرته للخرافة، العوامل البنيوية للخرافة وأوضح في كتابه Metodologie de notre temps الثوابت التالية:
1 ـ الصراع، أو بالأحرى اختلاف النظرة والخبرة إلى الأشياء.
2 ـ التدخل من قبل الوسيط في نقل الأفكار.
3 ـ دور المنطق وعلم الاجتماع والثقافة المعرفية في كشف السياسة أو النظام الاجتماعي اللذين يقفان وراء انحسار الخرافة أو التأثّر بها وتجسيدها ونشرها (أي الإيديولوجيا)... بمعنى أن انتشار الخرافة تابع للنظام المتسيّد في المجتمع...
وقد أبدت العلوم تقدماً في دراسة الإيديولوجيا التي تشكل العنصر الأساسي لتشكيل الوعي حيال الخرافة. بالإضافة إليها يأتي دور الثقافة الرمزية التي استندت إلى هذه الطريقة في تناول الخرافة وجعلها وسيلة أو رمزاً في مواضيعها المتعددة. وهنا يدخل المهيج العاطفي عنصراً أساسياً في الأعمال الثقافية وأجناسها المتنوعة، بدءاً من الفيلم حتَّى القصة وكتب الجيب الجنسية والتسلوية وتدخل في عملية المهيج العاطفي أيضاً حجوم أو كميات الأعمال المعاصرة التي لا تعتمد على البنية السيكولوجية للشخصية الإنسانية، وأن جميع الظواهر والنظم وكل ما يدخل في إطار البحث المعرفي والفلسفي، والنفساني والاجتماعي للمشكلات المعنية بهذا البحث، تقوم جميعها على المهيج العاطفي أيضاً وبنيته المتأصلة في نفس الفرد والجماعة. ومن خلال فهم هذا المهيج، وهو في نفس الفرد المتحكم بالثقافة، يكون الحب، والحق، والمساواة، والتضحية، وغيرها من الظواهر القيمة ممثلاً للدرجة المعرفية التي توصَّل إليها منطق العصر في فهم هذا العامل "المهيج". وهي تصب جميعاً في ما يسمى بـ"الخاصية الاجتماعية". والتي تنسحب على الإنسان المتوحش وكذلك الإنسان المتحضر أو العصري، وما الفارق بينهما، إلا في حدود المهيج العاطفي، في سياقه التاريخي والاجتماعي أي زمانه ومكانه... والمسألة الهامة هنا هي كيف انعكست هذه المفاهيم والبحوث في الثقافة الجماهيرية... يجيب مورين على هذه المسألة في "روح العصر"، موضحاً بأن "كل خرافة تتبلور وتتأطر حول المهيج العاطفي تطغى على العصر برمّته". وأن دراسة "النوبة الاستهلاكية" المعاصرة توضّح لنا الأسس التي يقوم عليها المهيج المسيطر، بحدوده العليا، وهي تعشق التكنولوجيا، والعلاج الاستطبابي المعافي للنفس وهي "العبادة" أو القدسية لبعض الظواهر مثل الغريزية والماهيوية التي تلتصق بالمهيج الفعال كأداة للنفاذ إلى النفس البشرية (أفراداً وجماعات) ويقع الإنسان البسيط بسرعة فريسة لهذه الأداة المعرفية التي تنعكس على سلوكه بشكل آلي، فيفقد معها حاسية أو ملكة النقد والتبكيت الفكري والوعي في خضم الموج العالي للنظام الصناعي الذي تقوم عليه الثقافة الجماهيرية. ويختطف بسرعة العقل البشري فتصبح حياة الإنسان موزعة ما بين: "حب المغامرة" وخلع النعل ـ العصري والبدوي ـ والسيارة الفخمة والعربة القديمة "الطنبر" ـ والخيمة ـ و"الفيلا" ـ والتلفزيون الملوّن ـ والبراد الآلي ـ والأضواء المبهرجة ـ والطقس المنتظم المنعش ـ كل هذه تفقد الإنسان حياة الانفعال الحيوي والمغامرة الحيوية العقلانية الكامنة في داخله وبالتالي الانفعالات الحية والتوتر الثوري الداخلي فيعكف على التمسك بالجمود واللذة الحسية... وأهم شيء خطير يفتقده الإنسان هنا هو الروح التي هي المرآة الخارجية (السلوك) العاكسة لجوانيته وتركيبه النفسي ومنعكساته.
والخرافة الثانية التي تلاحق الإنسان هي الرؤية، ونظرته للحياة والعالم الخارجي والأشياء المحيطة به (الإدراك) فتعمل في فكره ومسلكه تخريباً هاماً وهي تنقسم إلى قسمين:
ـ الأول ويتمثل في عملية التخصص البحت... أي أن الخبير المتخصص أحادي النظرة (وهذا نتاج تشويه التخصص) ينظر إلى كل أمر يدخل في نطاق مهنته منعزلاً عن كل شيء آخر أو أية ظاهرة أخرى، منفصلاً عن كل علاقة أو رابطة تربطه بالكائنات أو المواد الأخرى، أي ينظر إلى الأمور من الثقب البسيط والصغير... فمثلاً تركز العروض الجماهيرية على إظهار التفوق كأن تعرض أحد النجوم وهو يجيب على أسئلة صحفي، يبتدع الأسئلة تلقائياً وبشكل محرج، وفي النهاية يفحمه النجم ليس بقصد الإثارة وخاصة عندما يتقصد الصحفي التعرّض لحياة النجم الخاصة، وليرفع من حرارة الجمهور بل ليظهر النجم مظهراً معرفياً وشمولياً لأنه يدر أرباحاً كبيرة على متعهديه...
ـ أمَّا القسم الثاني ويتمثل في القناة الموصلة إلى الحقائق والتي لم تكن موجودة في المجتمعات القديمة، وتنمو بشكل خيالي في المجتمع المعاصر. هذه القناة الواصلة ما بين الجماهير ومركز التهيّج، في أداة الاتصال الجماهيري التي تعتمد، أساساً لعملها، على "الخدعة" من أجل تدمير مجاميع الناس، أي جعلهم حلقات دائرية حول مادة ما أو قناة ما. وهذا يعني نشر الثقافة الجماهيرية عبر الوسائط الجماهيرية التقنية.
وبالتالي تكوين جماعات ثقافية خاصة ومنتشرة وهي جماعات البسطاء وغير المهتمين بأي شيء أو (اللامبالين) أو لنقل (اللامنتمين) مع مراعاة تزويدهم أحياناً بمعلومات بسيطة عن ظواهر المجتمع والطبيعة، وهذا ما تفعله كتب الجيب الاستهلاكية أي الانتقال بشرائح الناس إلى تكوين مجتمع ثقافي ملتزم أو المجتمع المشذب أو المسيّس.
أمَّا القارئ المثقف /فلسفياً/ فالأمر بالنسبة إليه غير واضح. فهو يعرف تماماً كيف يرد كل هذه التيارات والتوجيهات الثقافية وتطوراتها إلى العامل الأساسي وهو: الإيديولوجيا. فالإيديولوجيا "هنا" هي "الوعي الخفي" أو الكامن، ولنقل الأرضية التي تقف عليها الثقافات وتوجّه الخرافات الاتجاه الذي تريد... وإذا كان علماء الاجتماع لم يجروا بعد الدراسات الناجعة والشاملة لسبر غور الخرافة ومعرفة بنيتها ـ من الناحية الإيديولوجية البحتة ـ إلا أن تفسير أو ترجمة الخرافة تعزى إلى الإيديولوجية، بعيداً عن التعمّق البنيوي. وبمعرفة جغرافيا (مصدر) هذه الثقافة نتعرّف إلى الإيديولوجية الموجّهة لها، وكما نفسّر الخبر الصحفي أو التعليق السياسي في إطار الصحافة الموجّهة، فإنه بالمستطاع تفسير الخرافة من خلال هويتها الجغرافية أو الفكرية وبالتالي الإيديولوجيا.
صحيح أن الثورة الصناعية هي من صنع الإنسان، إلا أن الإيديولوجيا المعاصرة لهذه الثورة هي التي تستخدم التقدّم الصناعي لتجيّير المجتمع البشري إلى صالح مكاسبها الذاتية... لكن لا يمكن وضع هذه الإيديولوجيا موضع القاهر والرضوخ لها أو التسليم بما يقوله فلاسفة الغرب بأن "الإلكترون قد نسف الإيديولوجيا".
أو كما يقول دعاة الغرب بأنه سقطت الإيديولوجيا وانتصرت المصالح... ولسبب بسيط هو أنه لا يمكن أن تحل الآلة محل الفكر والعقل البشري ولطالما هي من نتاجهما... أي لا يمكن تقديسها طالما أنها من صنع الإنسان، الكائن البشري الحي الذي ربَّما عاد ليتحوّل مرة أخرى إلى حيوان ناطق كما بشَّر به أرسطو في عهده الاثيني... ومع هذا فإن الحديث عن الثقافة الجماهيرية في هذا السياق، هو نموذج للصراع الإيديولوجي، صراع بين الإنسان والحجر... إذن هذا هو فحوى المتناقضات القائمة على الأرض في إطار الثقافة بصورة محددة، أي بين الثقافة الجماهيرية (النموذج المذكور) أو ثقافة الرقم المضاد للبدع والخرافات، وإيديولوجية الإفساد والتشويه، وإيديولوجيا الإبداع الجماهيري والتحوّل الواعي المستند إلى الإنتاج المجتمعي والثقافة الحقيقية الهادفة إلى خلاص الذات البشرية، في إطار المجتمع الجغرافي الإنسان...
وفي إطارنا العربي نجد أن لهذا البُعد التخريبي الثقافي العربي /الذي كانت بيروت مركزاً له نافس الأفكار الأخرى/ نتائجه وأبعاده، فمثلاً إنَّ ما جرى على الساحة اللبنانية هو أحد وجوه هذا الغزو الثقافي التشويهي والمفسد. وقد كان هذا الغزو المستند إلى رأس المال والتكنولوجيا مستهدفاً (من موقعه الفكري والمعرفي الاستهلاكي) النتاجات التحررية القومية بشكل مركّز... ففي الستينات عندما تصاعدت حركة التحرّر العربية وأفكارها (التحرّرية الديمقراطية، الاشتراكية، الوحدوية) دخلت الثقافات الغربية الساحة بأفكارها ونتاجاتها الوجودية والماهيوية منافساً خطيراً وقوياً... فإلى جانب أعمال ماركس وأنجلز ومن لف لفهما، كنت ترى أعمال سارتر ودي بوفوار وكولن ولسون وغيرهم بكثافة "وهذا ما سنمر عليه في بحث عقل الزمن العربي...؟.
3 ـ بين الإبداعي والتخريبي...
يرى مفكرو الثقافة المعاصرة أن هناك تطابقاً بين الثقافة الجماهيرية والثقافة السياسية أو الأولية، من حيث المصطلح، والظاهرة والمضمون، وأنه لا يمكن فهم القيم الأساسية لكل منها، خارج نطاق تأثيرهما. ونظراً لاستيفاء الحديث هنا حول الثقافة الجماهيرية، فإنه لمن الموضوعية الحديث على الثقافة الأساسية، أو الأولية. والثقافة الأساسية هذه، هي الدرجة التي تشير إلى مستوى الثقافة (عالية ومتوسطة أو متدنية). وللتوضيح لا يمكن الجميع ما بين النظرة الفطرية والذوق الرفيع في الفن أو بين الإبداع الإنساني والتخصّص في العلوم، إلا من حيث قيمة الفن ذاته... وبهذا فإن الثقافة الأساسية تشكل الأرضية والخلفية التي تقف عليها كل هذه الاعتبارات أو الدرجات والمستويات... فالثقافة بصورة عامة هي متحوّلة "تقوم بعد أن يكون كل شيء قد نُسي"...
وهذا ما يفسّر مصطلح الخلفية... وهو يعتبر نقطة البدء الدنيا في تقويم أشكال الثقافة والنشاط الفني... كذلك إنَّ المستوى الأولي ليس واحداً في كل المجتمعات، بطبيعة الحال، ولا في كل العصور. فالثقافة الأساسية تشتمل على حدود متدنية وأخرى عالية، في كل المجتمعات وكل العصور، بالقياس مع التطور العام، أو درجة التقدّم المادي والتنظيم الاجتماعي والحرية الشخصية وعوامل أخرى مكملة... وهذه جميعها، بالضرورة، متحوّلة ولعلها تشكل الرافعة لقيام أو إمكانية ثقافة عالية. بمعنى آخر أنه بوجود تطور بدائي ووسائط أولية تقوم ثقافة عاكسة لهذا التطور البدائي، أو إنَّ الفقر المادي يضاف إليه فقر الموروث الثقافي والفكري، يخلق ثقافة واطئة أو متدنية وبالعكس...
وأيضاً إنَّ الثورة ا لتي تتكوّن جرّاء التقدم الإنتاجي في ظل طموطمية سائدة وقدسية سلبية وما شابهها من سمات المجتمعات الاستهلاكية تكون الذوق الفاسد المشوّه لنموذج الثقافة الأساسية، هذا الذوق الذي يحرّض المبادرة الفيزيولوجية والعقلية لدى الرجل والأنثى والشاب والفتاة...الخ.
وفيما أن ذلك النموذج من الثقافة الأساسية متطوّر في المجتمعات المتقدّمة والغنية حيث ينعدم التخلّف والأمية (الكتابة والقراءة)، نرى ردّة فعل نشطة، ونظافة، وحسن معاشرة وسلوكاً ومستوى ثقافياً أعلى، لأنَّ في هذه المجتمعات يوجد أيضاً مستوى غذائي جيّد ومتوازن، وسكني منظم ومتوفّر، وزواج صحي ـ أي تكاثر منظّم وسليم... ومع هذا فإننا نجد في هذه المجتمعات عالية النمو ظواهر وجائحات تاريخية (مثل فقر الدم وفقدان المناعة) "الآيدز" وحقبات من العوز والجوع، وحروباً، وتشوّهات خلقية، وتغريباً ثقافياً، وأزمات اقتصادية، وأنظمة ديكتاتورية، ما يجعلنا نفهم أن الوضع الاجتماعي ـ التعليمي هو أساس للثقافة الحالية في هذه المجتمعات أو أنها النظرة الأولية للثقافة.
ويقودنا هذا الفهم إلى القول بأن هذا الوضع ينسحب تاريخياً على المجتمع كما ينسحب على الثقافة وقد رأينا أن الأساس الذي قامت عليه الثقافة الجماهيرية هو معاداة المدنية والثقافة الدينية. ولعلّ هذا الأساس مرّ في تاريخ كل المجتمعات، لكنه مرّ بطرق مختلفة وأساسات مختلفة أيضاً، ومن هذه المجتمعات ما عرف ترتيب هذه الأساسات جيداً وبطريقة معرفية عالية وإنسانية ومع هذا فإن ثقافة عصرنا بمجملها لم تزل فيها بربرية إنسانية ومتوحشون، وخاصة في ما يخص الثقافة الغذائية والسكنية وقواعد الصحة العامة، وغيرها من طقوس ومستويات الثقافة الأخرى.
هذه هي وجوه التناقضات التي تشتمل عليها حضارتنا المعاصرة وثقافتها الراهنة: جوع هنا ورفاقية هناك، أمية هنا، وتطور تعليمي هناك، حرية فكرية هنا، واستبعاد هناك، عنصرية هناك وضحايا وقمع وإبادات جماعية هنا... كل هذا هو ما يكون ثقافة العصر وبالتالي حضارة العصر.
من هنا يمكن القول بأن تطور الثقافة الجماهيرية يعتمد على الأسس المادية والفكرية والأطر الإنتاجية، في سياق فهم وتفسير الأرضية الإيديولوجية التي تعرضنا إليها آنفاً.
إذن إنَّ الثقافة الجماهيرية المعاصرة هي ثقافة المتناقضات التي تجمع ما بين الوسائط المنتجة المتطوّرة مقابل الوسائط المتخلفة وفي عملية دخولها إلى صفوف الجماهير.
ولا يغرب هنا عن البال دور النقد في وضع هذه الثقافة ضمن فهمها التاريخي والاقتصادي ـ الإنتاجي ـ الذي يقودنا إلى فهم الثقافة المعاصرة وهي الثقافة المخططة أو الموجّهة.
وفي نهاية المطاف ماذا يمكن أن نتوقع من الثقافة الصناعية والثقافة الجماهيرية التي يعالجها المختصّون الغربيون ومن خلال الآراء النقدية الأخرى المتخصّصة في شؤون الثقافة؟
ـ هناك من يعطي صورة قاتمة لمستقبل الثقافة الجماهيرية المعاصرة وأنها ستقتل نفسها، لأنَّ السم القاتل موجود في طيّاتها.
ـ وآخرون يرون أن الثقافة الجماهيرية المعاصرة هي مرحلة انتقالية، كما هو الحال في لعبة الشطرنج حيث يستغنى فيها عن البيادق لضمان حياة "الملك" من الموت.
ـ وآخرون أيضاً، يصرّون على أن التقنية المتطوّرة هي التي تشوّه الثقافة بتحويلها إلى ثقافة استهلاكية، لكنها ليست لتكتسح كل نظرة الإنسان وحياته، فهناك العامل الفكري والذهني أيضاً، اللذان يستحوذان على تفكيرنا. ولأن المجتمع الاستهلاكي لا يمكن أن يعطي الإنسانية كل شيء. وأن التدرج التاريخي للمجتمع هو الذي يتحكّم بلعبة التطوّر العام ومن ضمنه الثقافة بأنواعها وأجناسها وهذا هو المخرج...