تمكنت الثقافة السوداء (عن طريق وسائل الإعلام) من تكثيف عمليات اقتحامها للدول والشعوب وثقافاتها القومية، ووجهتها نحو اتجاه واحد هو نسف الوقائع الحضارية والعقلية للشعوب مستخدمة في ذلك الأدوات المادية المتقدمة من علم وتكنولوجيا وتطبيقاتهما وفي مقدمة هذه الوقائع المستهدفة المنجزات التاريخية الروحية لهذه الشعوب، وهي ثمرة التأمل والتفكير والإدراك والوعي والمُثل أو القيم... بغية تمهيد السبيل إلى السيطرة الأخطر وهي ترويض العقل وصولاً إلى تخريبه وبالتالي تفكيك شخصية الفرد وصولاً إلى غاية أعلى وهي تخريب الكيان الاجتماعي للشعوب ومن ثمَّ نسف هويتها القومية وقطع الصلة مع تراثها والماضي أو التاريخ...
ابتدأت الثقافة السوداء بالعمل على تغيير أنماط السلوك البشري. وقد نجحت في هذا الجانب عن طريق وسائل الإعلام Nass - Media وعلاقاتها بالدول والأنظمة في العالم كافة وفي الوطن العربي خاصة. نجحت فيما تسميه تحديث المعارف على أساس "عولمي" أو الانسجام مع الأوضاع العالمية الجديدة وفي أولها التعليم... وذلك لكي تلعب هذه الثقافة الدور الأساسي المرسوم وهو توجيه التاريخ والدراسات العلمية في وطننا العربي... خاصة وأنها مُنيت بهزائم ذريعة في إطار الغزو الثقافي للأمة عن طريق الحداثة التي اقتصرت حتَّى الأمس القريب على الشعر ـ بقصيدة النثر الذي لا لون لها ولا طعم ولا رائحة ـ وعلّقت المشانق لأبي العلاء المعري والمتنبي وزهير والجاهليين، في فترة انطلاقها في الخمسينات من القرن الماضي... ثمَّ لجأت بعد حرب الخليج الأولى إلى تخطي جدار الشعر والتوجه إلى التعليم الذي يدار من قبل أنظمة تعليمية وتربوية تتلقى ولا ترسم، أي أنها تابعة وليست صاحبة قرار ومبادرة، ونذكر هنا أن جهوداً حثيثة بذلت في شتى جامعات الوطن العربي لتدريس المواد العلمية باللغة العربية (وهذا بند أساسي في ميثاق الجامعة العربية) إلا أن تدريس اللغة العربية في كثير من البلدان العربية قد أزيح لتحل اللغة الإنكليزية في المقام الأول حتَّى في المدارس الابتدائية... وهذا برأيي أخطر ما يمكن أن تواجهه الأمة العربية في كفاحها من أجل ترسيخ هويتها، حيث أن اللغة هي الوعاء الثقافي للأمة وأحد الركائز التاريخية التي تشكل هويتها القومية على الإطلاق... وبذا يتضح لنا السبيل الذي تسلكه هذه الثقافة السوداء في مسعاها لتخريب العقل العربي، ونسف اللغة والتاريخ، وصولاً إلى الاحتلال الكامل لإرادة الإنسان، وتحويله إلى سلعة أو رقم، ومن هنا لاحظنا حالات الانقراض والتنميط والتشيؤ في السلوك والتربية والتعليم.
أمَّا في مجال الفكر والأدب فقد أعلن القطب الأوحد عن دفن المنجزات التي حققها النظام الرأسمالي العالمي (الذي يسميه هذا القطب بالتقليدي) وكان قد طبّل لها مفكروها وزمّروا عبر نصف قرن ونيّف، أي منذ هيروشيما وحتى نهاية القرن العشرين ـ الذي بدأ بذبح العرب وانتهى بذبحهم على هذا النحو المأساوي الذي ما زلنا نشهده حتَّى اللحظة، بكل صمت المتفرج اليائس... وتجلّت هذه المنجزات في ظواهر الليبرالية، والنزعة العقلانية في الفلسفة والفكر، والديمقراطية المفتوحة والعلمانية و... الحداثة... وقد أضفت الإيديولوجيا طابعها على هذه الظواهر، كرد على إيديولوجية الآخر، سواء كان هذا الآخر المعسكر الاشتراكي الراحل، أم حركات التحرر القومي التي تصاعدت في مرحلة الخمسينات والستينات من القرن المنصرم وأضحت مركز الثقافة العالمية ثمَّ وبعد التراجعات المتلاحقة في سياسة الاتحاد السوفييتي حيال الثقافات القومية والروحية، تحول ميزان الارتكاز لتصبح ثقافة المركز هامشية منذ ثمانينات القرن الماضي وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي وتابعاته تفرّدت الثقافة الاستهلاكية الأمريكية والقطب الواحد بهذا العالم وشعوبه ومصائرها وثقافاتها وما إلى ذلك...
وشكَّلت هذه الظواهر تقاليدها وفكرها وخصائصها التي تميزت بها مجتمعاتها وترسَّخت فيها، إلا أنه عند نهاية الحرب الباردة وظهور القطبية الواحدية جاء الإعلان عن نهاية مرحلة الحداثة وبدء مرحلة جديدة هي "ما بعد الحداثة" كمنحى سياسي وثقافي شمولي، واقتصادي عالمي يندرج تحت لواء النظام العالمي الجديد... وقد عبّر غورباتشوف عن هذه الحالة حينما أطلق مصطلحه القائل "لا للإيديولوجية ونعم للمصالح" ليعلن بذلك انتهاء التفكير العقلي والوقائع الحضارية وقيام نظام عقلي مغاير... وقد وجدت هذه الحالة مريديها ودعاتها في وسطنا العربي رسمية وغير رسمية... فقد حمل الشيوعيون مبدأ إعادة التغيير التي انتهجها غورباتشوف "البيروسترويكا Perostroika" لتجاوز أوضاعهم الإيديولوجية المتناقضة والتنظيمية المركبة... وكانت هذه أول ردّة فعل (ميكانيكية) تتخذها شرائح إيديولوجية ملتزمة، موزاييكية التنظيم، حيال المصطلح الوافد والثقافة السوداء... فأعاد الكثير من الأحزاب السياسية والأفراد النظر بإيديولوجية الالتزام العقائدي، وتفكك موازينها وهي الآن في حالة عدم توازن في الخيارات، بين أن تبقى مخلصة لروح الماركسية، أو أن تنضوي تحت راية الإيديولوجيات القومية التي ناهضتها فيما مضى. أمَّا الشرائح الليبرالية الحداثوية والرومانسية الفكرية ذات الثقافة الغربية فقد دعت إلى اللحاق بركب العولمة وثقافة السوق، "ليكون لهم موطئ قدم في النظام العالمي الجديد قبل أن ترفسهم الأقدام".
إذاً، فالنظام الجديد (العولمي) هو نظام سياسي ـ اقتصادي وعسكري وثقافي، يسعى لابتلاع الطبيعة والبشر وهضمهم ثمَّ إعادة إنتاجهم على هيئة سلع... وقد ولد هذا النظام الجديد من رحم النظام السابق ـ الرأسمالي ـ ويعرفه الكاتب الأمريكي "توفلر" بأنه الثورة الثالثة أو موجة الحضارة الثالثة "على اعتبار أن الثورة الأولى هي الزراعية، والثانية هي الصناعية، أمَّا الثالثة فهي ثورة التكنولوجيا والمعلومات" التي تجعل العالم قرية كونية واحدة، أو سوقاً عالمية واحدة تخضع للأخطبوط الأكبر