ـ الطابع القهري للثقافة الجماهيرية الراهنة:
في الماعتنا القصيرة السابقة قدّمنا بعضاً من المناحي التي شغلت بال المتخصصين في الغرب، وأعطينا صورة مقتضبة للمادة، على أرضية المنهجية السوسيولوجية، لأن هذه المسألة تعنينا كما تعني السوسيولوجيين الذين عنوا بها قبلاً. لذا فإن أول خطوة لتوضيح هذه المسألة تستلزم الإجابة على الأسئلة التي يمكن أن تصاغ في إطار العقل المعاصر لعالمنا ـ (ما دمنا نبحث عن مصير الثقافة الإنسانية بعد التشوّهات التي حاقت بها).
ـ هل نحن نرعى الأمنية الخاطئة، أم يثيرنا الرعب الخاطئ دون حضورنا؟.
ـ إذا كانت هذه الثقافة تنبع من عبادة شيء ما أو شخص ما، أو فكرة ما، فهل الانزلاق الدائم باتجاه عبادة (العصبية والنظام، والكينونة والموت، وأرواح الموتى في الجسد) هي الثقافة الأساسية للبشرية على ضوء ما تقدّمه الثقافة الغربية؟.
ـ ثمَّ أية قيم فكرية تلك التي تحقق إنسانية الإنسان؟.
في هذا الإطار نعيد صياغة أنواع العبادات التي تدخل في تكوين الثقافة الجماهيرية: عبادة العواطف أو المحبين، والنهاية السعيدة، وعبادة الأولمبيين (أبطال الرياضة)، ونجوم الأفلام، والأمراء، والملوك، والأولاد اللعوبين "Play-boy " إلى عبادة المسدس (في أفلام الجرائم والمسرحيات البوليسية) وعبادة الجبابرة على غرار (طرزان)، والحب ـ لأنَّ حضارة هذا الزمان ما هي إلا حضارة أوفرديت آلهة العشق والجمال، واستهواء الجماليات المحببة وأسرها للذات، خاصة فيما يتعلق بالنساء وهيامهن، وطقوسية الصدف السعيدة والنكدة ـ كضرب من الغيب واستحضار صورة مستقبلية تبنى على حقبة سفلية ـ للدخول إلى عوالم الدفء الغريزي القريب إلى الروح وسواها، التي توجه من خلال العقل...! وإن أول ما يقع في العيون هنا، هو حقيقة:
إنَّ هذه العوامل ما تلبث أن تصبح ذات قدسية خاصة، وهذا لا يعني أنها ليست ذات معنى فيما يخص تفسيرات الثقافة الجماهيرية.
وعند الحديث عن "عقل الزمن" يمكن أن نستخدم تعبيراً آخر للثقافة الجماهيرية المعاصرة، ويمكن أن يَعين إلى هذا الحد، في شرح وتفسير الظاهرة أي أنه يجب الاعتراف بأن لهذا الشكل المعرفي قيمة مهمّة، وإن كانت غير كبيرة فهي أقل من الحاجة/ خاصة وأن الموقف هنا يتبدل، بشكل من الأشكال، كلّما اتضحت الرؤية باتجاه معرفة الأشياء والملاحظة المعلنة بالنسبة لقدسية الثقافة الجماهيرية، كأحد أهم العناصر لعقلنا المعاصر /تقترب من فكرة الثقافة الجماهيرية وقد نمت وتشكلت بشكل أساسي كمعارض للدين والثقافة السلفية. ولعل هذا هو الموضوع الذي يصيب عصب مشكلة الثقافة الجماهيرية التي تشكل مسألة عصرنا، وتعتبر أصل هذه الثقافة وفكرتها الأساسية. من هذه الملحوظات، نقول لقد طرحت المسببات والدوافع التي تكمن وراء قيام مفهوم الثقافة الجماهيرية، وحدودها وفحواها الأخلاقي والمعرفي والإنساني والتي جعلتنا نعرّف الثقافة الجماهيرية على أنها "خرافة موضوعية" للتفريق بينها وبين الثقافة الحقيقية.
ـ أمَّا الجانب التسلوي للثقافة الجماهيرية المعاصرة فإنه يغري البشر ويشدّهم إليه أكثر من الجانب الآخر فيها، وهو يتقدّم دوماً عليه... خاصة تلك الأنواع الغرائزية (فرط السلوك البدائي والغريزي، التعرّي، الهبية و... و...الخ). والثقافة الجماهيرية كتيار بركاني منتشر، تميل إلى الجانب التسلوي لدى أصناف البشرية المعاصرة... وبهذا فهي ليست ذات قيمة، وستبقى كذلك ما لم تفجر هذا البركان من داخلها...
ـ أمَّا فيما يخص البُعد الزمني، فإنه ليس للثقافة الجماهيرية علاقة بالماضي الرومانسي... والرومانسية هي خاصتها بقدر ما تهم الواقع الراهن... لذا فإنه يمكن تسمية الثقافة الجماهيرية بثقافة "الحاضر". وقد رأيناها في كثير من الأحيان قد نشفت المستقبل... ولذلك أدارت ظهرها لكل ما يتعلّق بالمستقبل وتمسّكت بحياة اللحظة ومتعتها... ويدافع حَمَلة هذه الثقافة عنها وكأنهم العارفون بكل الأبعاد ويؤكدون بأن الأغنياء وحدهم هم الذين يلتفتون إلى الماضي، وأن المتفائلين يحلمون بالمستقبل، وأن العقلاء هم الذين يغتنمون الحاضر ويتمتّعون به! لماذا؟ لكي يستيقظ في المستهلك ـ المتلقي لهذه الثقافة- الدافع الغريزي...
5 ـ اللذة محور الثقافة الجماهيرية...
ليس من المنطقي التنبؤ بمحدودية الحقائق المتناقضة للثقافة الجماهيرية، لكن ولطالما قدّمت نفسها على أنها التيار المناقض للاهوتية، فإن الطابع المدرحي أو الأبيقوري المكوّن لهذه الثقافة، هو الذي يعيّن محدودية هذه الثقافة.
وبتأكيدها على القيمة الراهنة واللحظوية، فقد أضحت عمياء تجاه قيمة المستقبل، لأنَّ القيمة الراهنة تموت، وتفنى بعد الحصول عليها، وتميت اللحظة ذاتها بمرورها أو بعد استخدامها... ففي إطار الإعلام مثلاً فإن الخبر الصحفي أو التلفزيوني أو السينمائي وغيره من وسائل الإعلام، المساعدة أو المكوّنة للإعلام الجماهيري، تعيش لحظة الإثارة المباشرة ثمَّ تنقضي... لذا فالحضارة الزائفة تشوّه السعادة، وهي نقيض الحب، وتحيا في صراع مع القيم، مجموعة النواميس الأخرى، ذلك لأنَّ عوامل الألم تعيش أكثر من لحظة السعادة، وبالتالي القيمة النقيضة... طالما أن الثقافة الجماهيرية تعيش على الطابع الكينوني الفردي. لأنَّ الإنسان الوجودي يطمع دوماً وبدون تحفّظ إلى إبداع الإنتاجات الغرائزية، الجذابة والتسلوية دون الاهتمام بمحتواها أو مكوّناتها... والثقافة الجماهيرية لا تطلب النقد أو التوجيه لأنَّ جلّ اهتمامها أو رغباتها، وفي أحسن الأحوال، هي أن تحيا اللحظة الراهنة وتغرق في التفاصيل الخيالية الغريبة. ومن الناحية الفلسفية فهي ترفض الجدلية لأنها تزعج الإنسان الغرائزي، ولا تهتم بما سوف يكون، بل بما هو كائن، وبالبرهة القصيرة التالية، وهي مضطرة لأن توازي بين ما سوف يتعزّز في اللحظة، من قيمة وما هو خرافي، لتحصل على ما ترغبه منه. وعليه فإنها تلعب بورقة تمزق الشخصية الإنسانية، عبر العامل الإنتروبولوجي الذي تقيم عليه سيكولوجيا الإنسان، وهذا هو معين الخرافة. ويرتبط العامل الإنتروبولوجي للإنسان بالخبرة الاجتماعية ـ النفسية، التي توصل الإنسان ويلاحظ أن الإنسان يحاول أن يزعج نفسه بهذا السر، بعد طول عناء وجهد، لكي يقرأ أو يفسر سعادة الآخرين في الوسط الذي يحيون فيه، طبقاً لعادات ميكانيكية وبالتطابق مع التبدّل الميكانيكي نفسه يحتفظ بهذا السر المزعج. ولهذا فإنه يقلق ويتوتر ميكانيكياً فتظهر طبيعته الإنسانية. كما يحصل في الأدب والفن (وبخاصة في السينما) حيث تتواتر ثلاث صور متباينة: صورة لصحن شوربة، وصورة لامرأة ميتة، وثالثة لطفل يبتسم... هذه الصور تحرض الجوع في داخل المرء، والمرض، ونزعة الأمومة ـ أو حب الطفولة... فشكل الصحن حيادي، والمرأة الميتة لا تحمل أي نوع من المتعة، وصورة الطفل، لتحريض العروسين على الأبوة والأمومة، لا تعطي التأثير المطلوب لعدم وجود الخبرة الشخصية. إنَّ هذه الألاعيب الحياتية كخدع نفسية تفسر على أنها نتاج لعاداتنا لكي نقرأ الكراهية أو الحب تجاه وجوه متوقعة أو حقيقية لأناس يحيطون بحياتنا اليومية فتصبح هذه الوجوه أو الأشياء وسيطاً لنا، ثمَّ تؤثر علينا...
إذن إنَّ الثقافة الجماهيرية تركّز على ما يمكن تسميته بالإنسان الوجودي، الذي لا تعذبه كثيراً الطموحات، لأنه يعيش من أجل السعادة الروحية، ولا يرتقي إلى مستوى المسائل الراهنة، التي يقابلها بالنعاس.
وهذا النوع من الثقافة هو الثقافة الضيقة (اللامبالية) أو الماهيوية... وهناك نوع آخر للثقافة الجماهيرية هو نقيض الثقافة الضيقة وهو الثقافة المتفوقة، التي تطمح لإيجاد فكرة عن الوجود الإنساني، وتجسيد هذه الفكرة، أي العامل الإنتروبولوجي والاجتماعي الفرعي تستند إليه لتمثل نفسها على أنها ثقافة النموذج الفكري، وتحاول أن تفرّق ما بين الوجودي والغريزي أو الحسي في الإنسان... موضّحة بأن الفرق بينهما هو في النظام القيمي لهما. فالغريزة تعتمد على القيمة الإيجابية، فيما ترتكز الفكرية على القيم الإبداعية، النازعة إلى التجسيد المادي الحياتي حتَّى الإشباع. لذا فإنها منتجة أكثر كما يقول نقادها، وهي باردة، أكثر منها فاسدة تقنياً. وقد كانت الثقافة الكلاسيكية نوعاً من الميتافيزيقية بدون فيزياء، وفي إطار الثقافة الجماهيرية ـ هي فيزيائية بدون ميتافيزيكا ـ هذا ما عبّر عنه "بيتر اندريه"... وهل كان أندريه مخدوعاً؟
ليس بمقدورنا أن نعرف ذلك طالما أن الثقافة الجماهيرية يهمها أن تكون لديها طاقة أكثر من العقل والروح... أو ليس التلفزيون والسيارة والمسجلة والراديو والصحيفة التقنية وغيرها من المواد الأخرى، أليست جميعها مواد نتاج فيزيائي ـ دون الميتافيزيكا ـ نتاج العرض دون الحاجة؟
ولدى نقاد آخرين سبب للحديث حول: "الثقافة الصناعية" لأنَّ الثقافة تبرز المستوى. وقد أرعبنا النقاد بأنه سيأتي الوقت الذي سوف يكون بمستطاع الآلة أن تكتب قصيدة، ومعامل الأنسجة تفصل لنا روايات وقصصاً وأفلام جرائم ونصب.
لما كانت الثقافة توجه وتنمي الإمكانات البشرية, فإن نوعاً منها ينسفها ويخنقها. وكذلك هناك ظواهر مشتركة بين أنواع الثقافة, التي تبدو وكأنها مصطفاة, لكنها تختلف من ثقافة إلى أخرى. أو بكلمة أخرى هناك ثقافة تحدد الكائنات البيولوجية في الطبيعة (الإنسان) بالمعنى الصحيح للكلمة وكذلك توجد ثقافات خاصة بالعصور والمجتمعات عبر تطور الحضارات وهي الثقافة الانتروبولوجية وبنفس الوقت إنَّ كل ثقافة تمثل جسماً من الأشكال المعقدة, والرموز, والقصص, والصور التي تتحول تلقائياً إلى شكل موحد, وتثير الفطرية الغريزية وبالتالي توجه الأحاسيس والعواطف. وتتولد هذه التحولات عن طريق التبادل الفكري, وتوجه هذه المبادلات بشكل رموز قديمة, وصور وخرافات ثقافية, أو شخصيات خرافية أو حقيقية يقدسها الناس (الأبطال, الآلهة, الأصنام). وتتبدى هذه الثقافة بشكل نصف حقيقي ونصف خيالي.
يقول مورين في كتابه روح العصر: "لم تزل الثقافة القومية تعطينا, منذ فترة مقاعد الدرس الأول, خبرات خيالية وحياة عن الماضي, التي تربطنا بالذات الوطنية ومسقط الرأس (فيرسينفتوريكس ـ جوليا أوليانا) وهذه غير مرئية لكنها تجسد ذاتاً منتصرة عبر القرون, تأخذ شكلاً حسياً وطنياً نحو الأهل /مسقط الرأس/ الذي ندين له بالحنين والوجد ونحو الدولة التي نشعر نحوها بالانصياع. فيما تحقق الثقافة الدينية ذاتها عن طريق ربط المحبة بالرب المخلص, والأخوة الممثلة بالكنيسة.. فيما تطرح الثقافة الإنسانية علينا المعرفة والإحساس بالأشكال المعرفية والأعمال الأدبية التي تتضمن أبطال المسرح أو الروايات, وقصائد الشعراء وأفكار الفلاسفة وخواطر الكتاب, الذين يلعبون دور البطولة الأسطورية وجهابذة المجتمعات القديمة".
وبهذا نرى بأن الثقافة الجماهيرية هي, الثقافة التي تصنعها الرموز المجسمة, الخرافة, والصور التي ترمز إلى حياة حقيقية خرافية ونظام تجسيد الذات الخاصة وهي الأسس التي تقوم عليها الثقافة القومية والإنسانية والدينية من هنا بدأت المنافسة التي أدت إلى الصراع فيما بينها.
وإذا كانت المجتمعات الحديثة موجهة ثقافياً, فإن النشاط الثقافي ينقسم إلى عدد من الأشكال: الدينية, والرسمية الوطنية, والتقاليد الإنسانية, وتتباين فيما بينها أو تتفق مع جوهر هذه الثقافات, وخرافاتها, ومسبباتها, في نطاق المدرسة أو خارجها وتتحد هذه الثقافات في الثقافة الجماهيرية وقد أكد ذلك مورين بالقول: "وهناك شخصية واحدة يمكن أن تكون مسيحية في البرنامج الصباحي, وفرنسية أمام تمثال البطل الشهيد أو الجندي المجهول أو عند المخرج لترى "سيدا" في المسرح القومي أو عندما تقرأ ـ فرانس سوار (فرنسا المساء, أو باري ـ ماتش)( ). وهذا صحيح..
وتكمل الثقافة الجماهيرية نفسها وغيرها في التثاقف, وتتجاوز (الدولة أو الكنيسة) لأنهما تراقبانها وتكبحانها وبالوقت نفسه تتحد فيهما. وفي هذا المجال فهي ليست مستقلة: إذ ممكن أن تكون دينية وإنسانية أو قومية في آن واحد, أو أن تكون إحداهما منفردة وكذلك ليست في ثقافة القرن العشرين الوحيدة.
لكنها جماهيرية وذات تيار جديد على طول القرن العشرين.. قامت في الولايات المتحدة الأميركية وانتشرت في أوربا الغربية, كما تنتشر بعض عناصرها في شتى أصقاع المعمورة.. وهي عالمية بحكم طبيعتها الدولية, عالمية بطبيعة انتشارها الواسع, ولهذا فإنها تقدم نفسها على أنها أول ثقافة عالمية في تاريخ الإنسانية.. لكن, هل هي كذلك؟
آ ـ بين العلم والعقل..
بعد الوقوف على طروحات الثقافة الجماهيرية وتياراتها الرئيسة, نود أن نعرض لمسألة حية يطرحها المتعلمون الغربيون ـ الذين يفهمون الثقافة من خلال حياتهم الخاصة ونواميسها الأرستقراطية.. لهذا فإنه عند طرح مصطلح "ثقافة القرن العشرين" يتذكرون فوراً "موندريان وبيكاسو وسترافينسكي والبنيرغ وموزال, وبروست ودجويس.. بالضبط كما هو الحال في الشرق العربي, إذ إنهم يتذكرون فوراً أعمال جورجي زيدان والأفغاني وعبده, في الصف السلفي وطه حسين وأعمال تيمور ونجيب محفوظ وسلامة موسى أو خالد محمد خالد, إلى هيكل ونزار قباني من الصف الحديث.. وليس عالم التلفزيون والمذياع والسينما والصحافة والموسيقى الصاخبة والسياحة وقضاء العطلة السنوية والبطالة أو وقت الفراغ بطبيعة الحال مسائل بعيدة عن تفكير هذه الفئات من المتعلمين لكن برؤية خاصة قاصرة عن فهم خفاياها.
أمَّا المثقفون فيضعون الثقافة الأميركية بين أدنى درجات الثقافة ـ وأن الأفكار الإنسانية المعاصرة أو التجديدية الجدلية, تؤثر في الإنتاجيات الثقافة (الصناعية). فيما تبقي الأفكار الأميركية على تفسير الثقافة كمعطى تسلوي ـ ترفيهي ممتع. ولما ظهرت الانتقادات المتطورة وضعت الثقافة الجماهيرية في مصاف المخدر (كأفيون جديد للشعوب) أو كخيالات أسطورية.. ذلك لأنَّ النظام الرأسمالي يعزل الجماهير عن مشكلاتها الأساسية. وليس من قبيل المغالاة القول بأن الثقافة الغربية قادت إلى اغتراب الحضارة البرجوازية تغريب الإنسان عن طريق تقسيم العمل, وبالتالي عن طريق الاستهلاك, والبطالة أو أوقات الفراغ, وبالتالي الثقافة الكاذبة والخادعة.
وهنا أريد العودة إلى هذه المسائل وبحثها بشكل منفرد, لكن يجب أن ألفت النظر إلى أنه قد تعددت التسميات, بين يمين ويسار, لوصف الثقافة الجماهيرية.
إلا أنها بالحقيقة ليست إلا ثقافة خادعة, ووجهاً آخر للعملة, أو كما يسمونها في الولايات المتحدة: "الكيتش The Kitch أو الصرعة"/ من حيث القيمة الحقيقية التي تقدمها. وسيظل المثقفون يختلفون في أمرها والمتعلمون بخاصة.
صحيح أن المثقفين لم يخلقوا هذه الثقافة, إذ كان أول من اخترع الأفلام ممثلو الشوارع: حيث كانوا يقومون بتمثيل أدوارهم أمام المارة. وكذلك الصحف التي ظهرت بعيداً عن الأوساط الرسمية أو المشروعة, والمذياع والتلفزيون حيث جمعا الصحفيين والممثلين في إطارهما.. وشيئاً فشيئاً أصبح الصحفيون والممثلون يدعون إلى هيئة تحرير الصحف والإذاعة والتلفزة. وهناك وجد الكثيرون ضالتهم. إلا أن الثقافة الصناعية تخدم هؤلاء المثقفين حيث يحققون نجاحات في تنفيذ أحلامهم وخططهم, بشكل سعيد أو من خلال حرب مريرة, يصلون في النهاية إلى دارة النجاح إلا أن مثل هذا المنتج (الكاتب أو المؤلف) منفصل عن عمله أو منعزل عن مؤلفه وإنتاجه..
يقول مورين: لقد فقدت الانتلجنسيا الأدبية سلطتها بعد أن ظهر عالم الثقافة الذي أصبح فيه الإبداع مشتتاً, وليس قاعدة الوعي المعرفي فبقيت معزولة, بقدر ما كانت معارضة للثقافة المصنعة, فأصبحت تشارك فيها كمساهم غير مجد في هذه التصنيع إلا بشكل جزئي.
ولا تعاني الفئات المثقفة (الانتلجنسيا) بسبب افتقادها للسلطة على الثقافة, بل بسبب الثورة التقنية التي أدت إلى التوجه التجاري والاستهلاكي للثقافة الجماهيرية, وبالتالي إلى فهم الثقافة والفن بشكل كلي على أرضية التعقيدات الحاصلة..
فالرأسمالية تضع خزائنها في خدمة استثمار مختلف المؤسسات الثقافية, وهنا يبدل رب العمل صناعته ساعة يشاء . والبرجوازية هي كذلك, رجعية, نظراً لتعلقها برأس المال وسلطة الأرباح وسياستها..
إنَّ التوجه نحو الاستهلاكية ينسف الاستقلالية المعرفية الخاصة بالثقافة ترتيب العالم المتعلم حيث لا يوجد في الثقافة الجماهيرية مسافة بين الفن وترتيب الحياة.
ولا توجد هوة ما بين الحزن وحنين الفراق أو الاحتفال البهيج, وبين الثقافة الجماهيرية والحياة اليومية, فهي تستهلك على مدار اليوم.
وليس هناك فروقات نوعية بالنسبة لشبح الاستهلاك اليومي في إطار الفن حيث تقدم لنا كتب ـ جو (Jo-Books أرميسترونغ مع بيرندلي, وبرازينس مع داليدا, وأعلام الماضي في الموسيقى الصاخبة, بآن واحد). وكذلك في السينما والتلفزة والمذياع, تقدم المجموعة نفسها إذ لا يراعى في هذا العالم الذوق العام أو التصنيف الجميل والحد الأدنى من النقد الموضوعي. وتنسحب هذه الفوضى الاستهلاكية على "العالم المتعلم" حيث لا توجد أي نوع من النقد أو الوازع لا في الصحافة ولا في البرامج الإذاعية, وتتساوى النزعة بين كل هذه الأصناف مع الغسالة الكهربائية التي تلف كل ما يوضع فيها من ألبسة وسخة.. لأنَّ الإنتاج الثقافي, في هذا العالم الفوضوي, موجه وفقاً للطابع الصناعي والاستهلاكي اليومي ولا يمكن أن يرقى هذا الإنتاج إلى الاستقلالية المعرفية.
ولا تستطيع المعرفة أن تميزه أو تنظفه من الأدران, أو أن تسمو بالقيمة الثقافية للعالم المتعلم..
وقد لاحظ مورين هذه الظاهرة بدقة في المجتمع الفرنسي, ونراها في مجتمعاتنا المختلفة واضحة أيضاً ممَّا يؤكد بأن الثقافة الجماهيرية هي ثقافة خادعة وبراقة..
ب ـ الثقافة الصناعية.. من اللصوصية إلى التسكع..
تقود مقولة "الإنتاج يخلق المستهلك وهو لا يحقق فقد المادة للفرد, بل يحقق الفرد أيضاً" إلى القول بأن الثقافة الصناعية تخلق الجمهور الواسع (العالمي), كما تخلق المعطيات الجديدة: تخلق الجسد البشري مساوياً للجمهور.. لأنها تحدد حاجة السوق بطرائق مختلفة عن البضائع, والثقافات الأخرى: فهذه تخلق وسائط الاتصال الجماهيرية (صحافة ـ فيلم ـ إذاعة ـ تلفاز...) ذات سمة مميزة هي تربوية ـ تعليمية أو مهنية أو تسيب الممنوعات من الإنتاج الثقافي في عديد من دول العالم غير الرأسمالي تعبر مباشرة من دائرة الإنتاج إلى دائرة التسويق. وبالمقابل فإنه في الدول والأنظمة الاستبدادية تصبح مشاهدة الفيلم إجبارية والاستماع إلى المذياع ومشاهدة التلفاز أو قراءة الصحيفة مفروضة فرضاً أو اضطراراً. من هنا يأتي طابع الإنتاج المرن الذي تتميز به الثقافة الجماهيرية, فتتخذ طابع الحوار بين المنتج والمستهلك, وعناصر هذا الحوار بطبعه هي الناس السذج من طرف والمنتج من طرف آخر.
فمثلاً إنَّ البرامج الإذاعية تقوم على الحوار وبلغة واحدة. أمَّا المستهلك ـ المشاهد أو المستمع ـ يجيب بالانفعال و التأثر الشرطي, بنعم أو كلا.. نجاح أو لا نجاح.. فالمستهلك لا ينطق بل يصغي, ويحدق, فإما أن يرفض المتابعة أو يستمع. وقلما نجد تطابقاً تاماً بين حدي المعادلة هذه /العرض والطلب/. ذلك لأنَّ المستهلك يمكن أن يغلق مذياعه أو جهاز التلفزيون, أو لا يشتري صحيفة, أو يهجر قاعة السينما. وإن تأثير الجمهور ليس إطلاقياً لكنه حوار القراء أو المشاهدين مفتوح في كل مكان, في المكتب, والعمل, والبيت, وبين الأصدقاء, وفي ذلك جدوى ما, بأنه أثار الجدل, وخاصة إذا كان العرض في صالح الجمهور. وقد تأكد أن المستهلك قلما يقبل على المادة التي تعارض مزاجه ورغباته. وهذا يعني أنه يملك خياراً حراً. لكنه ليس لديه القدرة المؤثرة (كفرد) على الجماعة (الجمهور). وقد توصلت الأبحاث الأميركية في النهاية إلى النتيجة التالية: "إنَّ قضية ما تصبح واضحة عندما يكون الحديث حول تأثير وسائل الاتصال الجماهيري على الرأي لعام" والتأثير على الرأي العام ليس نتيجة ولا سبباً يعزيان إلى العارض المنتج أو المخبر. بل إن المحيط والظروف التي تحيط بالمستمع أو القارئ هي صاحبة التأثير عليهما..
وكذلك لا يمكن أن نغض الطرف هنا بسهولة عن القول بأن الصحافة هي التي تخلق القارئ, فهل القارئ هو الذي يخلق الصحافة أو الفيلم وغيرهما.؟ لأنَّ الثقافة الجماهيرية تخلق الجمهور من الخارج, بخلق الحاجة أو الاهتمام. إلا أن هناك علاقة جدلية بين الثقافة المنتجة والاستهلاكية. وهي علاقة معقدة, لأنَّ ما يمكن تعريفه في علم الاقتصاد بالبضاعة الغامضة أو المبهمة والمجردة والمطلقة, هو خاضع لقانون العرض والطلب, ويقابله هنا الجمهور المغترب, الساذج..
ولأن الرقابة الرأسمالية تتحكم بانفلات أو حجب هذه البضاعة أو تلك, أي أنها تخلق الرأي العام والجمهور, سلفاً من الخارج ـ خارج معادلة العرض والطلب قبل أن تولد البضاعة. وعليه فإن هذه الثقافة (البضاعة) هي نتاج معادلة الإنتاج والاستهلاك, جدلية التشكيل التجاري, جدلية المجتمع البشري, وبالتالي قانون التطور..
وقد نمت الصناعة الثقافية في إطار الحكومات والمؤسسات الخاصة, عبر نظامين متوازيين متناقضين.. ولعبت الدولة هنا دور السيد المطلق الذي عناه مورين: المراقب, المدير, المنتج,.. ولهذا فإنها صاحبة الدور الرئيس, في العالم الغربي والشرقي معاً.
وفي الدول الغربية (الولايات المتحدة خاصة) لم تفتأ المؤسسات الخاصة تتواجد في مفاصل حركة التطور برمته: وتمثل السلطة الثقافية هنا صورة الدولة وحصانة الدولة في كل الأشكال الثقافية في المرحلة الانتقالية. ففي فرنسا تتدخل الدولة في الصحافة في باب إعطاء الترخيصات, وتحتفظ لنفسها بوكالة أنباء وطنية هي (وكالة الأنباء الفرنسية A.F.P.), وفي مجال الفيلم ـ تمنع الدولة وتسمح للأفلام طبقاً لشروطها, وتراقب مؤسسات السينما, ما تسهم في الإنتاج السينمائي. وفي مجال الإذاعة فهناك منافسة كبيرة, لكن هذه المنافسة دوماً هي لصالحها (منها إذاعة لوكسمبورغ, أوربا رقم 1, مونت كارلو, آندورا), في إطار التلفزة تحافظ الدولة على إبقاء التلفزيون في عهدتها "مورين ـ نفس المرجع السابق".
وفي هذه النماذج يتبدل المضمون الثقافي, أو يختلف بشكل طبيعي, بين أنواع التدخلات الحكومية ـ سلبياً (بالمراقبة والتفتيش) أو إيجابياً (التوجيه, التطابق أو الانسجام مع القوانين المحلية, احترام الخط السياسي) ـ وهذا يعتمد إمّا على طابع الوعي الحر, أو على الطابع الاستبدادي للتدخل, أي حسب نموذج التدخل ذاته وأسلوبه ـ والنظام القائم.
وإذا لم تؤخذ المتغيرات القيمية بعين الاعتبار, فإنه يمكن القول بأنه توجد هموم مشتركة تطمح إلى كسب الجمهور إلى الحد الأعلى, بين الحكومات والمؤسسات الخاصة.. الأولى تطمح إلى ضمان مصالحها السياسية والإيديولوجية, والثانية تطمح إلى الحد الأعلى من الربح.. وكذلك إلى كسب رضاء المستهلكين, وإمتاعهم بعيداً عن حدود الرقابة. وفيما يرغب النظام الحكومي بالإقناع والتربية و بالإخضاع: فإنه ينبغي نشر إيديولوجيته التي يمكن أن تكون مملة ومزعجة للجمهور, بدون أن يلقى ربحاً, ولكنه يمكن أن يمثل قيمة من قيم "الثقافة العليا" ووسائلها (الأبحاث العلمية والندوات, الموسيقى الجادة, الأعمال والأدبيات الكلاسيكية). أمَّا النظام الخاص فهو يعيش من أجل التسلية (الإنتاج غير الجدي), وينبغي أن تطابق ثقافته أذواق الناس. والنظام الحكومي هو نظام قاس وشديد وقسري, ينبغي أن يخضع الناس لثقافته. وهذا ما يشبه مبادرة المربية القديمة التي معها يزول كل نوع من الهيام والغزل. أو كالفتاة فارعة الطول كالسنوبرة, وهي تفتح شفتيها للذباب نصف فتحة.
وإذا كانت المسألة هنا تطرح من خلال المصطلحات, فإنها في نظرنا لا تختلف, ولا فرق بين النظام الحكومي والنظام الخاص وعلى هذا الأساس تطرح المسألة بالمقارنة. فهي إطار المنافسة بينهما حيال شعب من الشعوب, فإنهما يبديان حياداً دقيقاً (في إطار الإذاعة, والتلفزة والسينما). ولدى القطاعين الحكومي والخاص فرص كبيرة في هذا الصدد (التمويل الثقافي لدى القطاع الحكومي ـ الثقافة الاستهلاكية المباشرة لدى القطاع الخاص) لتنمية هذه الثقافة ودفعها إلى أمام. لكن هذه الأمثلة تبدو مجردة تقريباً.
ولن أعرض في هذا البحث لمسألة الثقافة والمنجزات الثقافية لسياسة الدولة, ولا للنظام الثقافي في الدولة الاشتراكية, وخاصة في إطار السينما حيث يتواجد في كثير منها نوع من أنواع الثقافات الجماهيرية ذات الطابع الأميركي أيضاً. لأنَّ موضوع البحث هذا هو الطرائق الثقافية التي نمت خارج نطاق الدولة (الدين والتربية) تحت تأثير رأس المال الكبير الذي طال النظام الحكومي الثقافي. وتجنباً لأي سوء فهم فأستخدم مصطلح الثقافة الصناعية الذي يوحد جميع المصطلحات والأنظمة, الحكومية والخاصة, الغربية والرقية. أمَّا مصطلح الثقافة الجماهيرية فهو يشير إلى التيار الطاغي على الثقافة في الغرب.
ونأتي الآن إلى النتيجة أو القيمة التي أداها الفن, عبر المعطى الثقافي الجماهيري, عبر التماس ما بين المستوى (الإنتاجي) وقيمته, وبين الإبداع الفني والإبداع المصنع.
رأينا تواجد الدولة إمّا كمراقب أو كموجه و مستفيد, وبنيتها البيروقراطية التقنية التي هي عنصر أساسي في مسألة المستوى والتنظيم. وهنا البنية الصناعية التي تجهد دوماً لإيجاد العدد الأكبر من المستهلكين, فئات جديدة مستهلكة (من أصحاب الدخل المحدود بخاصة) تطبعها بأساليب الحياة التي تطرحها عليهم هذه البنية والتي توفق بين رواتبهم ودخولهم والثقافة التي تنتجها لهم خصيصاً. وهناك الفئات الجماهيرية, البسيطة المستقبلة لهذه الإنتاجات. ونجد لكل هذه المؤسسات والحدود دواء خاصاً. فالدولة تستطيع أن تطلق الإنتاجات الثقافية, وعند هذه الإمكانية يمكن أن تجد إنتاجيات واهية (فإلى جانب الكسندر نيفسكي ـ لايزنشتاين, تجد الأبحاث الفنية, وأفلام ماكلورين ـ مثل "Nationonal Film board of Canada"). ويستطيع رأس المال الخاص أن يحرر الفن من رقابة الدولة. ويمكن للإبداعات أن تستفيد من الرقابة الرسمية الشديدة, ومن النظام الرأسمالي ـ الصناعي, ودورة عجلة الصناعة. وكذلك فإن يهودياً في الولايات المتحدة يمكن أن يعمل وسيطاً بين آلة الدولة وآلة الصناعة المنتجة للثقافة مثل "بينيا" الصغير الذي أصبح مليارديراً كبيراً, من خلال موقعه كموظف ساعد على ترويج أفلام صهيونية, بتمريرها من تحت أعين الرقابة, في إطار النظام البيروقراطي ـ الرأسمالي. وفي فرنسا أيضاً فإن غالبية الأفلام لا تخلو من الفعل اليهودي: إمّا في متن المادة أو في إطار الوساطة عبر الرقابة الحكومية.. وهنا يمكن القول بأن شركات الاحتكار التي هي عنصر الثقافة الجماهيرية ـ الصناعية الأساسي, لا تعتمد في كل ما تقدمه على الجسد والغريزة بصورة دائمة, بل إنها تضع بذوراً عنصرية وعرقية سياسية, كبذور الصهيونية والسامية تحت ستار الظلم الهتلري ـ الذي مررت الصهيونية كل أفكارها تحت هذا الستار.. أو أن تضع بصماتها على فيلم عادي واستهلاكي جنسي, بأن تضع نجمة داوود ضمن ديكور الفيلم إلى ما هنالك من أشكال الدس الإعلامي والثقافي.. بمعنى إنَّ عناصر هذه الثقافة تتواجد هي الأخرى في داخل النظام الحكومي لتسهيل مرور الإنتاج الثقافي, الجماهيري, حيث أنها تحمل هذه الثقافة وتيارها بالأصل.. فترى الإنتاجات السينمائية والشعرية, وصور الفقراء والمحرومين على شكل من أشكال الثقافة هذه.. ذلك لأنَّ صناعة الثقافة لا تعتمد فقط على العجائب والأساطير..وأن الدولة وحدها هي التي تمنع بعض الأفكار والإنتاجات لسبب من الأسباب السياسية أو الدينية وما إليها.. ولذلك فإن عديداً من المجلات والصحف الواطئة تعمل لحساب المتوسطة القيمة ـ كما هو الحال في فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة ـ كفروع أو كمصادر للتمويل. ولطالما أن مؤسسات البيروقراطية المتاحة في يد أولئك المثقفين "الجماهيريين" بمعنى أن الوسيط يلعب دوراً خطيراً.. فنجد أن الإنتاج الواطئ يصعد والعالي يهبط أو يحاصر.. وقد عبر عن ذلك روبرت ميزيل بالقول: "ألا ترى أن صحافييناً قد هبطوا كثيراً وأن شعراءنا قد صعدوا كثيراً؟" ـ على لسان أرنهايم في عمله ـ إنسان بلا قيمة.
وعليه فإن النظام يجهز المبدع, لكنه يخنق العبقرية. فكاتب روز اليوسف يوصل أفكاره للناس أكثر من معد البرنامج الثقافي في التلفزيون, لكنه ليس بإمكانه أن يكون نجيب محفوظ مثلاً.. ومراسل جريدة باري ـ ماتش يكتب أفضل من هنري بوردو, لكن ليس بإمكانه أن يكون اندريه بريتون.. وأيضاً إنَّ النايلون يستبدل بالقطن والصوف بواسطة الآلة التكنولوجية, وهذا صحيح, لكنه ليس قماشاً طبيعياً وفعالاً أكثر من غيره. وإن مهمة التكنولوجيا الثقافية هذه إظهار التطور الكمي على حساب الجودة, أي تذويب النافع والعبقري وإظهار الحثالة إلى القمة..
وهذه هو التيار السلبي. وهناك التيار الوسطي.. الذي يحمل سمات هذا التيار وذاك في آن معاً.. فهوليود تنتج أفلام النهاية السعيدة "Happy-end" وتناقض فيلم موت التاجر المسافر, وتجمع فان كوخ مع جان توين, أو بيكاسو مع كوكتو... إلخ.
أمَّا التيار الثالث, هو التيار الأسود, الذي يطرح أسئلة عديدة, ويثير مشكلات مختلفة ويبقى خارج إطار الثقافة الصناعية, بحيث لا يقدم حلاً للجمهور, لاشغاله دون الخروج بنتيجة.. كأن يتساءل : هل ماركس تلميذ نيتشه, أو رامبو, أو فرويد, وبريتون أو آرتو.. أو أن ذلك النبي هل كان حقاً موجوداً.. إلخ..
وجوهر المسألة هنا, هو أن هذه الثقافة بتياراتها المتنوعة, لا يمكن أن تخدع الناس بقذف المشكلات في وجوههم, فسواء كان نوفاليس معروفاً أكثر من رامبو, فإن مثل هذه المسائل تسقط أهميتها "أو صرعتها" عند أول لمسة أكاديمية وتحقيق متخصص معرفي.. وليست هذه الثقافة لتمر في العصر الذهبي الآن بل تعيش على هامش العصر, وهي لا تترك أثراً, من عقد إلى عقد, لأنها لا تقوم على أسس أو قانون تطور الشعوب والمجتمعات, بل هي وسيط بين كل هذه المجالات مجتمعة, والوسيط يبقى أقل قيمة من طرفي المسألة. ولأن الصراع المحتدم الآن هو بين الشكلية والمضمون الجوهري, والواطئ والعالي ولعل الحالة الوسطية هذه تعيشها الثقافة الجماهيرية بعناصرها وتياراتها المتعددة.
ج ـ تصنيع الثقافة والإبداع..
من المثالين السابقين, الحكومي والخاص نخلص إلى القول: بأنه وبرغم اختلاف المضامين الثقافية بينهما, يوجد تركيز على الصناعة الثقافية من خلال العلاقة المشتركة بينهما. ففي إطار الصحافة والإذاعة والتلفزة والفيلم تبدو هذه الصناعة هنا سهلة.. سهلة كأدوات إنتاجية, وكبضائع إنتاجية: فهي تتمثل في الصفحات, والأشرطة السينمائية, وتحمل على أمواج الأثير. أ ما من الناحية الاستهلاكية فهي غير ذات مردود, وربَّما مردودها فقط سيكيولوجي. إلا أن هذه الصناعة السهلة, منظمة ومركزة من الجانب التقني والاقتصادي, لذا تبدو على أنها صناعة عالية التركيز والضبط. وفي إطار القطاع الخاص, تمارس بضع مجموعات كبيرة مهنة أو صناعة الصحافة وعلى عدة قنالات إذاعية ومتلفزة وبضع شركات سينمائية لإنتاج الأفلام والأجهزة السينمائية (آلات الإنتاج ـ والاستديوهات) لإدارة وسائل الاتصال. وفي القطاع الحكومي فإن هذه الصناعة تقع تحت يد التوجيه الرسمي المحكم أو المركز وتترافق هذه الأنظمة مع التحكم البيروقراطي. فنجد أن الصحيفة والإذاعة والتلفزة مدارة بنظام بيروقراطي مركزي. ويقوم النظام أو الإدارة البيروقراطية بتصفية (غربلة) الأفكار الإبداعية, ويراقبها بشكل شديد قبل أن تصل إلى الشكل النهائي ـ إلى المعد والمنفذ, ثمَّ النشر.. ولهذه العملية أسباب أساسية: غاية ربحية مخططة (في القطاع الخاص والشركات وأهمية سياسية (الدولة). وبعد ذلك تمر الأفكار على وسائط التكنولوجيا لإظهارها بالمظهر المرغوب. وفي الحالتين فإن نظام "ثقافة القوة" يجهد إلى تقديم البرامج الإذاعية والتلفزيونية, والسينمائية, عبر قدرة الإدارة البيروقراطية والتكنولوجيا من أجل الأغراض آنفة الذكر وبطريقة الإقناع (الحوارات) أو بالفرض (لأنها المسيطرة).
إذن تضغط آلة التكنولوجيا البيروقراطية المركزية على الإنتاج الثقافي الجماهيري. وهنا يبدأ الصراع من أجل الوصول إلى إبداعات إنتاجية تسيطر على السوق بطريقة عقلانية منظمة وإنتاجية (تقنية, تجارية, وسياسية) وتمويلها كي تظهر فيها وحدة قوتها الثقافية.