الثقافة الأميركية: من تخريب الروح إلى العولمة
1ـ الحداثة:
اتخذت ظاهرة الحداثة في البدء هيئة مذهب أو تيار أدبي سياسي ثم تحول إلى مصطلح مبهم غامض، وفرض ضمن ما يفرض علينا منذ ثلاثينات القرن الماضي وفي سلسلة الغزو الأيديولوجي والفكري المتلاحق، انتحل في ظاهره التقدم وحمل في باطنه التخريب والانحطاط والانهيار. ومع أن المذهب قد تجاوزته الأفكار إلا أنه ما زال له أدعياء ينفخون في بوقه، ويسعرون أواره بين الفينة والأخرى، وخاصة عندما تبدو على الأمة مظاهر الضعف والهوان أو تخاذل أبنائها فيما أن الآخرين يملكون العير والنفير..
لفظ الحداثة هو من المفاهيم الوضعية التي لا تكاد تجد اتفاقاً حول معنى محدد يكشف عن مضمونه دون التباس.
وقد اختير تسمية حداثة ترجمة للمصطلح الغربي Modernism وتعامل الكتاب العرب مع هذه التسمية على أنها مقولة مضافة إلى قديم سبقه، لذا فإن بُعد الزمن داخل في المفهوم، أي أن كل حديث سوف يغدو قديماً، وكل قديم كان حديثاً بالقياس إلى ما كان قبله. إذن فإدخال المصطلح على ما سيأتي من الزمن ليحل محل السابق ويبليه كما أبلى غيره، هو اختيار غير صحيح وغير دقيق.. وعلى هذا الأساس فإنه لمن التناقض الواضح وغير المنطقي أن تلصق بهذه التسمية دعوى الاستمرار، والآن وبعد أن سقطت الحداثة في ديارها راح أصحابها يعلنون زمن موتها وانهيارها وأطلقوا تسمية أخرى سموها "ما بعد الحداثة".. ولم يبق مفهومها لديهم على حاله بل تغير عندهم لكنه لم يتغير عند دعاتها من أصحاب الدعوات السابقة..
*والسؤال الذي ترافق وهذه الظاهرة ولم يزل يطرح حتى الآن هو: وهل هي تجرد أم أنها تمرد؟.. وهل هي صالحة لكل زمان ومكان، وماذا تبقى منه في ديار منشئيها وماذا تُبقي لنا من تراث أمتنا ودثارها لو اعتنقنا هذه الظاهرة الملغومة.. وهل نحن بحاجة إلى هذه الحداثة التي فرضت علينا فرضاً بل قسراً، وتنادي بالحرية!... وهل أورقت هناك حتى تثمر هنا؟.. وكيف يجمع الإنسان بين الحداثة واحترام التراث القومي تحت شعار الخروج من أسر التاريخ كما يزعم دعاة هذه الظاهرة ليوقعونا في أسر تاريخ مغاير، وهل يرتاح ضمير هؤلاء إذا ما رهنت الأمة نفسها للآخرين وتاريخهم أو زمانهم... خاصة وأن العالم الغربي قد تجاوز المصطلح والظاهرة وألقاها في مزبلة التاريخ فهل نقوم نحن بفرضها على شعوبنا التي يراها الأميركيون بأنها مزبلة؟
وأما الحداثة عند دعاتها فهي: "اتجاه أو نزعة تنتهي إلى قطيعة شاملة مع التراث، تنطوي على تسفيه مكنوزاته من ناحية، وتخوين الماضي بما يحمل، مما يستدعي قطع الصلة مع هذا التراث وبالتالي قطع صلات الأمة بماضيها لتبدأ من حيث يرسم لها الحداثويون السبيل بعد سلبها كل مقومات هويتها، فتصبح طيعة للتلون بما يشكله الآخرون.
*من المقدس إلى الدنس:
إذن تعني الحداثة فيما تعنيه من مفاهيم أنها: قطيعة "معرفية" مع الماضي بما يولد إطاراً غير نمطي في التصور القيمي للحياة والقاسم المشترك ههنا هو القطيعة، حسب رؤية كثير من منظري الغرب فيرى أوين أنها: "الفصل المتعاظم بين عالم الطبيعة الذي تديره قوانين يكتشفها ويستخدمها الفكر العقلاني، وبين عالم الذات الذي يختفي فيه كل مبدأ متعال لتعريف الخير"( ).
فيما يرى ماكس فيبر أن "الحداثة هي فصم الائتلاف والوحدة بين السماء والأرض مما يخلي العالم من وهمه ويلغي سحره" وكلاهما مشتق من معنى العلمانية، ويرى بودلير أنها: "حضور الأبدي في اللحظة العابرة وما هو مؤقت"، أما شوبنهاور فيرى أنها تعني: "الأنانية والتخلي عن الطابع الاجتماعي، لا لتخلق نظاماً جديداً مستحيلاً، بل طلباً للإخلاد إلى الحياة والرغبة، إذ يجب تدمير الأنا ووهم الوعي، كما ينبغي الاحتراس من وهم النظام الاجتماعي الذي يحمي الشهوات الأنانية فقط"( ).
ومن هذه الآراء المتباينة نستشف نوعاً من القطيعة المستمرة مع الماضي ومع التاريخ، والتمرد على القيم والأخلاق والأعراف اجتماعية كانت أم نظماً وضعية، والتركيز على الشهوات، وعلى معالم الفطرة البشرية، والسعي في مادية بحتة لا يحدها حد، بل الإيغال في الغريزية بديلاً عن النشاط المعرفي بصورة إطلاقية.
أما محاولة البعض من دعاة هذه الظاهرة في الساحة العربية أن يلبسوها ثوب التحديث والتقدمية، إنما هو لون من البدع والتضليل؛ ذلك لأن هناك فرقاً كبيراً بين الحداثة التي تعني القطع مع الماضي ونسف التراث والتاريخ والقيم وطعن المقدس، وبين التحديث الذي يعني مواكبة تطور العصر والأخذ بتقنياته العلمية والمعرفية.
وإنه ليعني من جهة أخرى تمييع الأبعاد الثابتة في الزمان والمكان وعدم الاعتراف بكل ما هو تاريخي ومقدس... وهذا يتم ضمن حركة عشوائية للبشر ليست خطوة إلى أمام وليست عودة إلى الخلف، بل تغييب البوصلة التي تحدد الذات القومية (والعروبية) والهوية وتدمير الإنسان العربي.. أما بالنسبة للفكر الغربي في نظرته للزمن وارتباطه بالتقدم فتجدر الإشارة هنا إلى أنه أوقع نفسه في تناقضات أوقعتهم في مأزق تاريخي وسياسي كبير! (ما لبث أن وقع فيه أتباع الحداثة في بلادنا). وقد أصر هؤلاء على أن التقدم هو حتمي ويقتضي السير في خط مستقيم، لأن الحداثة لديهم مرتبطة بمفهوم "التمرد الدائم" والبحث في أسرار الكون، والتمرد قائم في أغلب المراحل التاريخية التي يظهر فيها جديد، بحيث يكون التمرد دوماً على ما سبق... الخ. وهذا كلام غامض بل مبهم، والحداثة ليست كذلك، فالبحث في أسرار الكون ليست سمة من يعمل على نسف الزمن ببعديه: القبلي والبعدي والتوقف عند الحاضر واللحظة منه فقط أو الغريزي تحديداً، لأن سمتها الأساسية انفلات الغرائز وفي الأدب والفن أيضاً إذ أصبح هناك ما يعرف بالأدب الغرائزي والأدب المكشوف وهو من نتاج فكرة التمرد هذه.
ولعل رهطاً قديماً كبيراً من مفكري الغرب وجدوا أن مفهوم التقدم والتأخر لا يعني عصوراً بعينها قديمة ومتوسطة وحديثة، كما رأى توينبي، إذ إن الغرب في العصور القديمة لم يكن لـه حضور معرفي أو تقني أو فلسفي يضاهي حضارة العرب، غير أثينا وهي ليست نتاجاً محبباً لدى حداثويى الخمسينات وما بعدها وقد أهانوها مراراً. ذلك لأن الحداثة الغربية لدى دعاتها تعني القطيعة مع الماضي القديم ثم الوسطي، عبر التمرد على الكنيسة في الغرب كرد فعل على سلوك الكنيسة [علماً بأن الكنيسة الغربية كانت أحد أبرز المساهمين في ميلاد الحداثة وتطورها، إلى جانب الثورة الصناعية التي كان لها أثرها في تطوير أشكال التمرد وتجذير القطيعة على المستوى النظري وفي الممارسة].
وبذا فالحداثة عندهم تعني عصر التنوير، وهذا ما يراه بعض حداثويي العرب من مثل محمد عابد الجابري: إذ أعلن بعظمة لسانه أنه لا يرى من تراث الأمة ما يقبس منه سوى عصر النهضة أو التنوير العربي، سواء من أعضاء العربية الفتاة أم جماعة شعار العدالة الأخوة المساواة...
وهناك من دعاة الحداثة في الغرب إياه ممن كان يرى الحداثة على أنها ثورة على الأفكار والماضي والكنيسة فقد تحول لاحقاً ليراها بأنها ثورة على تلك الأفكار التي تولدت في عصر التنوير ذاتها، أي ثورة على الثورة، دون أن يعني ذلك العودة إلى الماضي أو إلى الكنيسة ـ بحسب لوكاش حيث رأى أن الحداثة هي تعبير عن عمى المثقف البرجوازي في مواجهة القوى التاريخية الحقيقية المضادة التي تعمل باتجاه المجتمع إلى الاشتراكية ـ وكان هذا الكلام قبل أن يعدل آراءه ـ في عمله "نظرية الرواية 1916( ).
وتبلورت الحداثة في الأدب والفن أكثر مما في السياسة والفكر، وقال أشياعها بأن الفن الحداثي يعكس الوعي الحديث بموقف حديث لا سابقة له في شكله أو لغته. وإن العمل الفني الإبداعي يقدم نفسه كتعبير حتمي تاريخي عن الاضطراب في مجتمع الرأسمالية المتأخرة.
ولعل القول بأن الحداثة هي مجرد اتجاه فكري فقط، هو تبسيط شديد للأمور، إذ إنها برأينا تيار يملك رؤيته السياسية الموجهة للحياة وتحمل كل ما يخولها دخول هذه المعركة بأسلحة هائلة، وهذا ما أكدته أحلام مفكري الغرب ودعاته على ساحتنا العربية، وما تشهده الأمم والدول من تطورات وأحداث مريرة تمتد ما بين هيروشيما والقدس إلى بغداد من أربعينات القرن الماضي إلى القرن الواحد والعشرين الذي افتتحته الحداثوية الأميريكية بذبح عشرات آلاف الأفغان والعراقيين والفلسطينيين والبوسنيين والصرب ومن اليهم والحبل على الجرار، لماذا؟ هذا ما سوف نجيب عليه فيما بعد..
*والخلط بين ظاهرة الحداثة هذه وبين التحديث إنما هو مقصود، فالتحديث يتم في المجتمع الحديث وفي المجتمع المتخلف على حد سواء، وبذلك يكون الحديث ههنا مغايراً للحداثة تماماً كما أن التحديث ليس مجرد نقل التقنيات الحديثة وإبداعات العلم.
*تدعي الحداثة نسبية الحقيقة، وإسقاط المطلق وزعمت بأنه لا يوجد شيء حقيقي، وإذا سقط المطلق (سواء كان الزمان هنا أم الله) فإن كل شيء نسبي لديهم وهذا أمر سياسي مؤدلج ومردود… لأن والحالة هذه، كل الساقطين والسفلة والمنبوذين والعاهرات واللوطيين لهم نفس حقوق الأسوياء خارج الإطار الأخلاقي أو الديني والعادات والموروث.. ولهذا نجد لجاناً وجمعيات شهيرة وممولين تنادي بحقوق هؤلاء الشواذ عبر مختلف وسائط التعبير والاتصال.
ولهذا تبنت الحداثة فكرة أخرى أسمتها "النسبية المطلقة" ـ بعد أن كانت أعلنت الثورة على المطلق، وهذا يعني نسبية الحقائق، وتكون النسبية هي المطلق، إلا أن النسبية هنا قد سقطت إذ أصبحت مطلقاً! علماً بأنهم أعداء النسبية الألداء في كل مواقفهم من التاريخ والتراث والكون.
وإذا كانت النسبية مطلقة لديهم فما هي مواقفهم حيال ما يجري من قتل وتدمير واحتلالات في هذا الكون وعبر ثنائية القياس حيال أهم القضايا المصيرية والحقوق التاريخية للشعوب وخاصة الفقيرة منها، ومن اضطهاد العرب وفرض الوصاية والهيمنة العسكرية والثقافية، بمقاييس تبتعد تماماً عن كل منطق نسبي أو مطلق.
*الحداثة والعلمانية: تعتبر العلمانية الأساس الأيديولوجي للحداثة فهي تتفق معها في التمرد على المسيحية وعملت على انزياحها حتى أفقدتها قوتها بعد انتصار روما على بيزنطة وبذا انحسرت الكنيسة في رقعة صغيرة من روما هي الفاتيكان.. وتتالى التقهقر بعد الثورة الصناعية وظهور الرأسمالية بشكل لا مرد له.. في هذه الفترة ظهرت بذور العلمانية في مسار الحداثة الغربية ـ بظهور مبدأ هوبس وأمثاله ـ (دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله)، وغيره من الأفكار التلفيقية والتوفيقية، بالتساوق مع التطور العلمي والتقني والثقافي في آن معاً. فجمعت بين متناقضين: الدين كعقيدة روحية، والمسلك المادي ـ الوجودي أو الغريزي. وبهذا هيمنت الحداثة على الدين وحصرته في زاوية الحياة المادية. وقد تراوحت العلاقة بين الحداثة والمسيحية بين التوافق والتناقض، التوافق عبر المصالح المشتركة والتنافس أو الخصومة التي كانت محصورة بين الكنيسة والدولة في البدء، ثم تعدتها إلى الجماهير التي حركتها الأفكار ثم المصالح (الدول) وبالتالي الشهوات. وبإلقاء نظرة سريعة على الفكر العلماني وموقفه من المسيحية نجد أنه قام بتشويه هذه العقيدة بدءاً من أساسها أي من السيد المسيح، الذي شكك الغربيون بصورته وبوجوده، وبصحة الأناجيل وتواريخها وبصحة إسنادها.. وقد كتب دعاة الحداثة والعلمانية في الغرب وأتباع الحركات الخفية التي تقف وراء هذه الظواهر جميعاً، مؤلفات عديدة تنفي وجود المسيح وتعتبره خرافة وخاصة قصة تجسده.. أو لنقل أنهم حولوها من ديانة تديرها الكنيسة إلى العلمانية التي تديرها الدولة وقوانينها المرتبطة بحركة المال والبضاعة والسوق، أو الربح بشتى الطرق وخاصة غير الشرعية، والمقوننة بحسب سوق العرض والطلب وليس بحسب منطوق السيد المسيح أو المسيحية التي أصبحت تابعة لروما (فترومت) ولم تتنصّر روما التي نقلتها من الرحمانية والتمسك بأهداب العقل والروح وصيانة البدن، إلى عقيدة الجهاز الهضمي والتناسلي ـ أو الغريزي فصار السحاق واللواط جزءاً لا يتجزأ من التجريب الحداثي (كنتاج للثقافة السوداء). وهذا ما جر على المسيحية بعض التراجعات، خاصة وأنها عقيدة مرتبطة بالروح وهي ديانة غيبيات وتسامح قامت لتهذيب الجانب المادي والغريزي عند اليهود، لا ديانة واقع ومعاملات ولا القتل والتدمير وشن الحروب.. وكان من الطبيعي أن تحمل، هذه الظواهر والأفكار المتمردة، المسيح سيفاً بعد أن كان يحمل المحبة والتسامح للبشر جميعاً.. وبذا ابتعدت المسيحية الغربية عن المسيح بقدر ما ابتعدت عن منطق الحق والخير والحكمة.. والمسيحية الغربية الراهنة لا تمت إلى الأناجيل بصلة كبيرة ـ حتى المحرفة منها ـ إذ ليس في هذه الأناجيل كنيسة ولا رهبانية ولا قواعد صلاة ورحمانية أو أخلاقية النواميس التي انبعثت منها المسيحية الأولى.
وحين انطلق الفكر الغربي الحداثي من إسار الكنيسة وصل مؤخراً إلى حالة من العجز أدى إلى البحث عن حل هنا أو هناك؛ ووصل إلى مرحلة من الإفلاس نقرأ بعض معالمه اليوم.
وإنه لمن الطبيعي أن يحدث كل هذا داخل الحضارة الغربية بدءاً بالتمرد على الكنيسة وانتهاء بالعجز. بفعل التطورات الداخلية والخارجية، إلى أن أسقطتها وطردتها من ساحة الفعل والتفكير.
واليوم يعود الدين من جديد وبقوة في الواقع الغربي كأحد أشكال الهوية بصورة شاملة (وخاصة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الاشتراكية التي عالجت هي الأخرى المسألة الروحية معالجة خاطئة، استعدت عليها الشعوب ذات الحضارات الراسخة والعقائد التاريخية، ذلك لأنه من الخطأ الجسيم أن تحارب الأفكار المنتصرة وهي مدججة بأعتى أنواع الأسلحة الفتاكة، الأفكار المغايرة لعقيدتها ونظامها دون أن تكون مسلحة بفكر يحتوي أفكار الآخرين (من غير الرأسماليين) دون معاداتهم، من ناحية ولأن الماركسية لم تتمكن من أن تكون الفكر البديل لكل أفكار ونظريات الكون ولا صالحة لحيوات البشر على مدار الزمن حتى آخر التكوين لأنه لم يكن في التاريخ أي نجاح للفكر السرمدي الأحادي، وهذا ما كان يعتقده الكثير من الأورثوذوكسيين الشيوعيين والجدانوفيين تحديداً.
ولهذا يعاني الغرب الراهن حالة من حالات المواجهة بين العلمانية التي كانت طوق النجاة بالأمس وبين المسيحية وغيره من الأديان التي أخذت تنتشر جراء ما أنتجته هذه العلمانية والثقافة السوداء في المجتمعات الأوربية، بدءاً من الصناعة ووسائل الاتصال، وانتهاء بالإيدز وما إلى ذلك..
ومع سقوط الحداثة في الغرب وجد شيء من الحنين الجارف للعودة إلى الدين في الغرب؛ لكنها عودة بشكل من أشكال الهوية وليس من أشكال الإيمان، والاقتناع بالدين.
لقد تشكلت الحداثة في ظل المجتمع الرأسمالي ـ بعد تمرده على الكنيسة ـ وتجذر الاغتراب في المجتمع البرجوازي الغربي ـ بعد تحوله إلى قطيعة ـ أي تحولت الحداثة إلى مشروع تمرد على المجتمع الرأسمالي البرجوازي في البداية كمحاولة للبحث عن حلٍّ ما للإنسان، ثم تحول إلى تلك الصورة الشاذة في الفن، والأدب (فوكنر، بيكاسو، ستراينسكي وبوريس في الفن)، و(باوند، لورنس، جويس، ييتس وأليوت في الأدب) بعد أن أسقطت تلك القطيعة كل الرؤى المعرفية (والدينية ـ التأملية العقلية)، وتفجرت النزعات الإنسانية المتمردة في كل الاتجاهات، فقد رسخ نيتشة مثلاً نمط القطيعة في عالم الأفكار والقيم بدءاً من الشعور إلى الفكر والفلسفة منذ أن نفى البرجوازية والكهنوتية وقال بأنه لا يوجد موضوعية في العالم..! ومن ثم أسقط كل المفاهيم والقواعد القيمية الفلسفية والمجتمعية الغربية والكونية، وكان المقابل قيماً جديدة تأتي من خلال التجريب في اتجاهات شديدة العدمية والعبثية وشديدة الغموض، يطرحها الفنان وهو يجرب…
وهنا نفرق بالطبع بين القطيعة المعرفية والانقطاع التاريخي؛ فالحداثة تمثل قطيعة معرفية مع الماضي دون أن يعني ذلك انقطاعاً في المسار التاريخي، بمعنى أنه "لا يمكننا التوصل إلى لحظة تاريخية نعتبرها كحد السكين نهبط بها لنفرق تاريخياً بين الحداثة وما قبلها، وما بعدها"… فالحداثة جاءت إفرازاً لتفاعل مجموعة عوامل متداخلة، آخذة في التطور في ظروف اجتماعية تتعلق بالغرب( ).
كل هذه التراكمات أدت إلى تحطيم التصورات الكلية التي تشكل رؤية الغرب للكون، والتي كانت تحمل في طياتها كثيراً من الخرافات، وحين اكتشف العقل الغربي حجم الأخطاء في تصوراته الكلية حدثت صدمة ضخمة عصفت بما يحمله هذا الفكر من الحقائق.
إذن فالحداثة لم تأت من فراغ، بل جاءت وفق سياق تاريخي متتابع وخاص بالتطور التلقائي الذي مر به التاريخ الغربي، عبر الاكتشافات والآراء النظرية الفكرية والفلسفية والعلمية مرتبطة بفلسفة التنوير، وهي ليست لحظة انقلاب من حال إلى حال، ولكنها تراكمات.
ولم تكن هناك نقطة تاريخية بذاتها مثلت لحظة انقلاب كلي.. فثورة الفكر الغربي على الكنيسة تمخضت عن مدرستين هما: "المدرسة المثالية العقلية" (هوبز وبلوك وهيوم)، و"المدرسة المادية التجريبية" (بريكلي وكانط وهيجل).. وكان بين المدرستين صراعات ومساجلات طويلة تأرجح الفكر الغربي بين وجهتيها، وكلا المدرستين نتاج لاستبداد العقل الغربي وانفصامه عن الكنيسة في رسم المنهج البشري، وبناء تصور للوجود، وابتداع القوانين التي تدير شؤون الحياة.
*المدرسة المثالية العقلية ـ وموت الإله:
وهذه الهرطقة ليست مستمدة من نيتشه وحده، والتي قالت بموت الإله ـ وتعد من أخطر الأفكار التي طرحت في سياق التطور الحداثي بل من (وليام جيمس) الذي أتت أفكاره على ما تبقى من قيم، فانحدر بالفكر الغربي نحو مهاوٍ سحيقة أبعد من مجرد الكفر بوجود إله، فـ (نيتشة) لم يكتف بإعلان فكرة موت الإله، وإنما عمل على محو ظلال الإله؛ وهي القيم التي كان يحافظ عليها منكرو وجود إله. حتى هؤلاء راعوا قدراً من القيم التي كانت متعلقة بوجود الإله والتي تمثل إطاراً أخلاقياً عاماً للمجتمع، وهذا لم يكن متسقاً مع إنكارهم للإله بل بدأت مرحلة من القضاء على كل القيم، فذهب نيتشة إلى القول أكثر: "إذا كان الله غير موجود فلا قيم ينبغي أن تعلق مطلقاً في الهواء".
وهنا اللحظة الفارقة التي جعل فيها الفكر الغربي الإنسان هو الذي يدير الكون بدلاً من الإله، وهذا لا يعني القضاء على الأديان فحسب؛ بل وعلى المذاهب الفكرية التأملية التي تصنع مشروعاً بديلاً من خلال العقل الإنساني، وبالتالي القضاء على المشروع التنويري الذي نتج عن قمة عصر النهضة، وبذلك لم يعد هناك مثاليون، أو ماديون بل تصورات للحياة من خلال منظومة عقلية أو مادية.
وكما استهلك الغرب النصرانية في عصر الإقطاع، ثم أقصاها، استهلك الدين المدني مع (روسو) والدين الوضعي مع (أوغست كونت)، وها هو اليوم يعيش نفس أزمة الضياع السالفة بعد أن دمرت الحداثة بنياته الفكرية والثقافية، وأفسدت الإنسان وسُحقت مفاهيم الحرية الحقيقية بحرية فوضوية أو عدمية كانت بشرت بها الحداثة، وخربت المجتمع. وهي الآن تعيش مرحلة السقوط وهذا ما نجده أكثر وأكثر في مبدأ البرغماتية الشهواني الذي أرساه (وليام جيمس). وهو أشد رموز الحداثة خطراً، وكان معاصراً لـ (نيتشة)، طرح فلسفة لا يعتد بها وليس لها أي احترام على المستوى الأكاديمي، لكنها من حيث التطبيق العملي هي أخطر ما نتج عن الفكر الإنساني من حيث الانتشار والذيوع فقد كانت أفكار (نيتشة) قائمة على بعدين أساسيين متجذرين في الحضارة الغربية هما: أبيقور و(السوفسطائيون: أي "العبث، والنسبية إذ ليس في الدنيا حقيقة مطلقة" فانطلق نيتشه هذا من نقطة عبث، وقال: "ما دمتم تقولون إن المذهبين الأساسيين المادي والعقلاني لم يوصلاكم إلى حقيقة مؤكدة.. فتحملوا الأفكار التي سأقولها لكم؛ ليس من باب اليقين، ولكن على الأقل من باب الظن مبدئياً، ولا أريد منكم تصديقها، ولكن ما دمتم غير متيقنين من أي شيء.. فخذوا ما أقوله؛ فربما يكون مظنوناً". ومن هذه الهرطقات إياها انطلق وليام جيمس، فلم يدّع مبدأ وكأنه يتفق مع (نيتشة) في هذه النقطة. ولكنه يتعارض معه في التعامل مع العالم بشيء خطير جداً يحمل الكثير من التلاعب، إذ ما دام أنه ليست هناك حقيقة، فقد حمّل (أبيقور) هذه العدمية وإن الحياة عبث في عبث، وقال "لا تقل هذا خطأ أو صواب، ولكن جرب أي فكرة في الحياة وانظر فيها؛ فإذا كانت تأتيك بمنفعة عملية ـ المنفعة العملية في التطبيق العملي الأمريكي ستتحول إلى لذة ـ فهي حقيقة، وإذا لم تأتك بمنفعة عملية فلا تقل إنها باطل ولا حقيقة؛ لأنها لا تهم، وطبق هذا ضمن ما طبق على العقيدة في الله تعالى؛ فلا يقول: الله موجود أو غير موجود؛ فهذه القضية لا يشغلون بالهم بها؛ دعنا نتمتع بإلهنا لو كان لدينا إله. ولو أن الإنسان وقف أمام الأفكار المصيرية في الحياة فسيتحول إلى القلق والسأم والجنون". لأن افتقاد وجود الإله ليس فقط يسقط القيم كما يعتقد نيتشة، ولكنه يسقط القواعد القيومية المنطقية التي تنظم العالم في نظام ما؛ لأن من يعيش في هذه اللحظة بحقيقة كاملة يتآكل ويموت في العبث، وقد يجن الإنسان بالفعل.
هذا الكلام هو ما وعاه (هدجر).. فكان البديل هو فكرة إلهاء الإنسان عن هذه المواجهة العاجزة أمام الأفكار المصيرية للحياة. وسياسة الإلهاء هذه تبنتها مؤسسات للتوجيه العالمي، وهي جزء لا يتجزأ من الحداثة التي رسخها نيتشة وطورها وليم جيمس.
إذن ليس لديهم دين حقيقي ودين غير حقيقي؛ فإذا تعامل المرء منهم مع الدين بطريقة عملية؛ فمثل له لوناً من الاسترخاء والتخدير ضمن حالة الإلهاء المادي التي يعيشون فيها فهو في نظر هؤلاء دين نافع.. وإذا عجز عن أداء هذا الدور طلقه وكفر به؛ ومن هنا انتشر الإلحاد في المجتمعات الغربية، وقد فلسفها وليام جيمس بقوله: هذه طرائق جديدة لأفكار قديمة.
لقد انتشرت ثقافة اللذة وسلوكها في سائر المجتمعات من خلال أبواق الإعلام والثقافة، وأمست بضاعة يروج لها أبرز رموز الحداثة في عالمنا العربي عبر منتدياتهم ودورياتهم ووسائل اتصالهم المقروءة والمسموعة والمرئية؛ بعد أن أصبحت الثقافة منتجاً أو سلعة، وصارت تتمحور في مفهومها حول اللذة والمتعة وحول ما يشاهده الإنسان دون ما يغيب عنه، ويلجأ كثير من الحداثيين إلى الفكر العرفاني (الغنوصي) لهدم كثير من الثوابت التراثية ومن بينها عقيدة الربوبية وصولاً إلى ما راج في الغرب من أفكار شاذة، وقد رأينا نماذج هذا الطرح في نماذج كثيرة منها آيات سلمان رشدي التي هي نسخة مطورة لرواية فولتير "محمد" هذه هي بعض أفكار الحداثة التي انهارت وقد انتشرت في أقطارنا العربية تحت اسم الحداثة والتنوير ولتحول ومواكبة العصر.. الخ!.
ويقدم الفكر الحداثي طبقاً لجيمس تسويغاً لما هو موجود بالفعل في الحياة الأمريكية (الرأسمالية) التي تحول كل الأشياء إلى ماديات وإلى منفعة، ويقنن البحث عن تجدد المتعة إلى أقصى درجة وجعلها رغبات مستمرة، بحيث يصاب الإنسان باللهاث وراء تلك الرغبات دون أن يتمكن من تلبيتها، فيتحول الإنسان في هذه الآلية المتسارعة إلى درجة من الإلهاء الحسي التام بعيداً عن التوقف أمام الأفكار المصيرية التي تحطمه؛ لأن (وليام جيمس) متيقن أنه لو توقف أمام هذه الأفكار المصيرية فسيصل إلى مرحلة الجنون.
هذه الأفكار اعترف (جيمس) نفسه بافتقادها للمنطق؛ ولذلك رفضها الأكاديميون، لكن الفكرة لشهوانيتها وضعف الإدراك أو لنقل الإيمان أمامها غزت العالم بالفعل كما توقع صاحبها حيث النقد الرديء يطرد النقد الجيد.
لقد سحقت الحداثة الإنسان حين حولته إلى آلة حيناً؛ وإلى حيوان بهيمي حيناً آخر؛ لكنها ما زالت تخاتل من خلال أدوات جبارة وأفكار براقة، وقد رأينا صوراً من البرجماتية التي تحمل على ظهرها روحاً صليبية تسحق بها الشعوب ليس بالآلة الإعلامية الجهنمية وحدها، بل وبالعتاد الحربي الثقيل؛ ومن ثم فمن المتوقع أن يصبح الشعار في الأيام المقبلة: لا صوت يعلو فوق صوت الحداثة؟
جعلت ظاهرة التشيُّؤ التي سيطرت على العقل الغربي في نظرته للإنسان من الإنسان مجرد آلة يتم الانتفاع بها انتفاعاً مادياً ثم يرمى تماماً كما يحدث للآلة بعد أن تستهلك، هذا التفكير سحق الإنسان بالفعل حين حرمه مرة من إشباع حاجاته الروحية، وجعله مجرد سلعة تباع وتشترى، وأرهقه أخرى حين رده إلى بهيمية غرائزية أسقطت تعاليم الدين كما أسقطت تقاليد المجتمع، بل أسقطت مفهوم المجتمع ذاته ليتحول الغرب إلى نزعة فردية قاتلة ذات طابع عشوائي إغوائي تبرز فيها وسائل إعلام جبارة تصنع لهؤلاء الأفراد رغباتهم وأفكارهم، وتغيرها متى شاءت دون أن يملك الفرد حق الاعتراض، حتى وإن استخدمه فإن صوته يذهب هباء وسط هذا الصخب الهائل، وكما يحدث في عالم الموضة تتم السيطرة على ساحة الفكر باستمرار من خلال إصدارات متتالية يغرق العقل الغربي في تهويماتها وتفصيلاتها، مستفيدة في ذلك من تطبيقات علم النفس الاجتماعي في توجيه تلك الشعوب، ومن ثم فإن ما يعبر عنه بالحرية الفردية ما هي إلا أكذوبة لا تقل فحشاً عن الأكاذيب التي يمتلئ بها عالم الحداثة وما بعدها اليوم، وكما تم سحق الفرد يتم سحق الشعوب المستضعفة، والعجيب أن تصادر حريتها باسم الحرية، وتسلب مدخراتها باسم العدالة ويُضيّع مستقبلها باسم حماية المستقبل.
هناك حالة من حالات الخداع التي اكتشفت أنه كلما ازدادت المعرفة ازداد سلوك الإنسان انضباطاً ورُقياً واقتراباً من المثل العليا، لكن فجأة وفي وسط هذا التطور الفلسفي والفكري المجرد تتفجر أحداث حربين يطلق عليهما اسم عالميتين، لنكتشف الوجه القبيح لهذه الحضارة: الإبادة بالجملة. كانت الحرب قائمة فيما مضى على طرفين لا ينسحب طرف إلاَّ بعد هزيمته، وعندما أصبحت الحرب حرب إبادة مدنيين نساءً وأطفالاً ورجالاً لا يهم فالمهم المكسب.. الوجه القبيح للحداثة ماثل في إلقاء القنبلة الذرية على اليابان وليس ألمانيا؛ لأن ألمانيا هي جنس أوروبي لكن اليابانيين جنس أصفر لا تهم إبادتهم، ومع أن واقع التاريخ يؤكد أن اليابان كانت ستستسلم، وأرسلت ما يفيد ذلك ولكن سطوة الرجل الأبيض المرتبطة بالعنصرية الشديدة طغت على مسالك التفكير.
هم أرادوا أن يكسروا اليابانيين لصالحهم قبل أن ينكسروا للروس من أجل تحقيق مكاسب لهم قبل الروس، ومن هنا فنحن نموذج برجماتي بحت. وهذا "طرح" نموذجي لثنائية "الأنا والآخر" على حقيقتها في الملة الحداثية، ومثال "صارخ" للتسامح الحداثي المزعوم مع الآخر!!
الوجه الأخلاقي للحداثة تبدى جليّاً في معاملة الغرب العنصرية للمجتمعات الأخرى. الحداثة ليست سوى عنصرية واستعمار وتسلط وعنف، وهي الآن تتبدى في ممارساتها حتى داخل المجتمعات الغربية نفسها في ممارسة كل هذه الأخلاق أو تجديدها، المجتمعات التي تفيض عنفاً وشذوذاً، والتاريخ المليء بأبشع صور الاستعمار وذبح الشعوب، وسرقة ثرواتها، سواء في عالمنا الإسلامي أو في أمريكا الجنوبية أو حتى في الولايات المتحدة ذاتها، الحداثة التي تستبطن مبدأ داروين (البقاء للأقوى) هي التي تبعث بجيوشها لتهلك الأخضر واليابس وتوزّع على الشعوب نصيبها من اليورانيوم المنضب الأمريكي!! وتحول بقية العالم إلى مصدر للمواد الخام والعمالة الرخيصة، وسوق مفتوحة بشكل دائم للسلع الغربية. وعصر الحداثة وما بعدها هو الذي شهد إبادة الملايين، وكما يقول بعض الباحثين: إن هذا الإله الصناعي الحديث [الحداثة] أباد عرقاً بأكمله (العرق الأحمر)، أي سكان الأمريكتين الأصليين، وأكل زبدة عرق آخر (العرق الأسود) عن طريق النخاسة واستعباد ملايين (مما يضع عدد ضحايا هذه العملية نحو مائة مليون إنسان) باعتبار أن عبداً واحداً يحتفظ به النخاسون الغربيون كان يقتل مقابله تسعة عبيد. هذا بخلاف الشعوب التي تمت إبادة الملايين منها في دورة الاستعمار الماضي، والتي تتكرر مشاهدها اليوم في العراق وفلسطين وأفغانستان والبوسنة، وأمبون وتيمور وكشمير، والشيشان ومورو...، فلماذا يريد الغرب منا أن ندين بالحداثة؟ وإذا كان الغرب يبشر بالحداثة تحقيقاً لصالح شعوبنا فلماذا يدفع إلينا بجيوشه وعتاده، ويحرّم علينا أسرار التقنية والتقدم التي يسهم في جزء منها مسلمون وعرب.
تبين الإحصائيات أن ما ينفق اليوم على السلاح يفوق بأضعاف مضاعفة ما ينفق على الطعام والدواء، كما تشير إحدى الدراسات إلى أن إجمالي ما استهلكته الولايات المتحدة (كبير كهَنَة الحداثة) يفوق مجموع ما استهلكه الجنس البشري منذ آدم عليه السلام وحتى اليوم.
يدعي منظرو الغرب مركزية حضارتهم والحداثة شأنها شأن أي نتاج عن هذه الحضارة، هي التي تجعل ثلاثة أرباع المعمورة فائضاً بشرياً يجب التخلص منه. والحداثة كما تقوم على سحق الشعوب، تقوم على سحق الفرد من خلال قيم فردية، يلهث فيها الإنسان وراء ما يقرر لـه أن يلهث وراءه، والحريات الفردية أكذوبة كبرى، وإنما هي حريات فرويدية إن صح التعبير.. لم تشقَ البشرية في تاريخها كما شقيت اليوم وهي كلها لم تعد بمأمن من ضربها بأسلحة فتاكة.. وحروب لا تدري لِمَ أقيمت ولا متى تنتهي، ومن أمراض نفسية وبدنية، وسقوط اجتماعي، وضحالة فكرية، وافتقاد الحداثة للمرجعية النصية يعلن عن إفلاس في القيم وفي الأخلاق ومن ثم إفلاس في الحضارة.
وهل عُهدَ في الفكر الإنساني وفي تاريخ الثقافات أن تقوم مذاهب على هذا المستوى المدعي من الشمول...! تقوم وتطور وتموت في عقود ثلاثة كما في البنيوية وعقدين كما في التفكيكية ثم تنتهي؟
2 ـ الحداثوية العربية:
منذ عقود خلت احتدمت المعركة بين "الحداثيين" و"المحافظين" وكانت ـ بالفعل ـ معركة حامية الوطيس بين دعاة الخروج على النص الحضاري (لغة وتراثاً وشعراً)، وبين دعاة هذا النص الذين رأوا فيه هويتهم فتمسكوا به، ووجودهم فدافعوا عنه في شجاعة وقوة.
واكتسب "الحداثيون" من خلال الزخم الإعلامي الوافد، والواقع العربي المعقد، اكتسبوا بريقاً في عصر "صناعة النجوم"، لكنهم لم يكسبوا شرعية رغم كتائبهم المدججة بالمال والسلاح، فلم تتبلور لهم ملامح، ولم تتحدد لهم قسمات، بل هي نسخ مكرورة تزداد مع الزمن انغلاقاً رغم ادعاء التفتح، وغموضاً رغم كثرة ما شرحوا متونهم وفسروا رؤاهم في قصائد الشروح والحواشي، والتربيع والتدوير... لقد ظلوا رغم ما يملكون من قوى مادية يحسون بغربة في المسافة، وضيق في المكان، فصبوا غضبهم على التراث، وعلى قدراته في طبيعة الأرض التي ازدهر عليها، بالرغم من أنهم جميعاً ـ بالرغبة أو بالإكراه ـ أبناء هذا التراث، إن لم يصبهم من خيره وابل فطل، لقد كانت لهم غاية لا صلة لها بجوهر الشعر ولا بالوعي النقدي التابع له؛ إنها دعوة إلى مقاطعة التراث، وقطع اللسان العربي، وإعلان الحرب على الخليل في عروض لم ينشئها هو، بل كان كاشفاً عنها بأذن موسيقية بلغت شأواً دونها معامل الصوتيات المعاصرة بآلاتها المبتكرة وعلومها المستحدثة. إنها دعوة إلى القطيعة بين الإنسان في حضارتنا وبين انتمائه، فهم يرون صلتنا بالتراث ـ بل صلة شعراء التفعيلة بالتراث ـ بأنها علاقة عقائدية.. ليس هذا فحسب؛ بل إن مجرد عودة شاعر التفعيلة إلى الشعر العمودي في إحدى قصائده يعتبرونها جريمة لا تغتفر وعثرة لا تقال!
وقد وصف الأب الروحي لهؤلاء الدعاة عودة الشاعرة العراقية "نازك الملائكة" التي مارست التفعيلة في فترة معينة ثم عادت إلى "الخليل"، يقول: "إنها تتجه بخطى حثيثة نحو نهاية الشوط، إلى الخاتمة الأسيفة لهذا التيار السلفي الجديد، وهي التحجر والجمود، واحتلال جانب المحافظين لحركة التجديد الحديثة في الشعر العربي... إن خطواتها التقليدية تقودها بالرغم عنها إلى حافة اللاوجود الشعري الذي أصاب المحافظين السالفين".. وهكذا أصبحت كتابة القصيدة العمودية ردة عن الرؤيا الحديثة للشعر، ونقيضاً للتطور، وسلفية فكرية..! كما وصف بعضهم موسيقى الشعر بأنها نظام استعماري قديم لا بد من مجابهته؟!
وبعد مرور أكثر من نصف قرن على هذه الظاهرة، لم يظهر بين الحداثويين العرب شاعر يعدل زهيراً أو أبا العلاء المعري أو المتنبي، ولا الرصافي وأباريشة والقروي والبدوي... و... والقائمة طويلة، بل بقوا خمسين عاماً يقرضون الشعر المنثور ـ وشعر التفعيلة في أحسن الأحوال ـ دون أن يكوِّن له موقعاً في الشعر بل مر به ولم يترك أثراً فيه.. لكونه محشواً بغموض الفكرة والإبهام جزئياً وكلياً في إطار القصيدة الواحدة، دون أن تفهم معاني جملها ولا مضمون هيكلها، بل هي عبارة عن سطور مكونة من كلمات رصفت رصفاً غريباً متنافراً... حتى صارت رطانات وطنطنات عابثة!! لأن سمة الإبداع عندهم بالأصل هي أن تخلو "القصيدة" من أي غرض أو معنى وهذا ما شجع عليه أصحاب الحداثوية الشعرية وما يزالون يشجعون كتبة هذا النوع من الشباب الذين تعوزهم معرفة اللغة معرفة دقيقة ونحوها وصرفها وعروضها وفقهها وبيانها وكناياتها وما إلى ذلك من علوم اللغة العربية العظيمة. وما يزالون يفلسفون قصيدتهم "المسخ" هذه بأنها القصيدة الحقيقية لماذا؟ لأنها القصيدة التي لا يُضَمِّنها صاحبها أي غرض أو معنى فتظل تنمو وتكبر وتتعدد معانيها بتعدد قرائها...!!
ومنذ ذلك الوقت، أي من مطالع الستينات من القرن الماضي، لجأ الحداثيون العرب إلى التعابير الغامضة التي تمتلئ بها أشعارهم وكتاباتهم ومفرداتهم التي يبتدعونها لتوافق المقام من مثل: التعارض الثنائي، اعتباطات الإشارات، اللاحقيقة التموضع الزمكاني، الإنسانية العالمثالثية أو الجغراسياسية والسوسيوثقافية و....... وغيرها كثير من الألفاظ المائعة والمخنثة. وهم يعتبرون "الحداثة" أنها الثورة على كل شيء، وأنها الابتعاد الصارم عن المجتمع.
يقول أحد هؤلاء الحداثيين: "إن القرآن نفسه إبداع، وكذلك السنة، وأن الإبداع القرآني والنبوي أوصدا الطريق أمام الإبداع الأدبي، وأوقعا الخوف في روع الأدباء"( ). وإن الأدباء العرب لن يبدعوا إلا إذا حرروا أفكارهم من التقيد بالدين والنظم السائدة في المجتمع سواء أكانت اجتماعية أو وطنية أو قومية"... أما صاحب كتاب "جدلية الخفاء والتجلي" فيقول: "الحداثة انقطاع معرفي؛ لأن مصادرها المعرفية لا تكمن في المصادر المعرفية للتراث، أو في اللغة المؤسساتية والفكر الديني، أو لكون الله مركز الوجود... بل لأن الحداثة هي انقطاع ولأن مصادرها المعرفية هي اللغة البكر والفكر العلماني، ولكون الإنسان مركز الوجود"... ولا أعتقد أن هذا القول يحتاج إلى تعليق عليه لأن هفواته ومغالطاته تجعلنا نصرف الاهتمام عنه.
3 ـ من الأيديولوجيا إلى الحرب:
حاول فوكوياما وهنتنغتون وضع صيغة تفسيرية للصراع في القرن الواحد والعشرين قائمة على العامل الثقافي كمحور للصراع، فهما بنظريتهما يروجان الثقافة الأمريكية وتعميم ثقافة الغرب وأمريكا على المجتمعات الأخرى من خلال أنظمة العولمة. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي وضرب العراق اعتبر هذان المنظران التابعان للبنتاغون بأن نبوءتهما قد تحققت أي أن التاريخ انتهى لصالح أمريكا والحضارة اللاتين ـ أميركية أو الكالفينية التي مر ذكرها معنا سابقاً... لقد رأى هنتينغتون أن ليس هناك ثقافة أكثر قوة وكفاءة وأكثر قدرة على التحدي ومواجهة الغرب إلا الحضارة الإسلامية والكونفوشيوسية اللتان ترفضان الانقياد للغرب وحضارته، كما ترفضان برامج العولمة ودعوتها للهيمنة على شعوب الأرض.. ولذلك استخدم هنتينغتون مفهوم الثقافة بمعنى الحضارة (والحضارة لديه تعني الثقافة وهذا خطأ منهجي ومعرفي تاريخي يلم به تماماً لكنه يكابر على ارتكاب الخطأ من أجل مأربه الذي يرمي إليه وهو إيجاد فلسفة للصراع ومبررات أيديولوجية ثقافية معرفية حتى ولو غالط أهل الأرض كلهم والثقافة والحضارة كلتيهما..) وذلك لينسف الماضي كله بقيمه ومعتقداته ورموزه وأفكاره.. وصور الصراع أو الصدام الذي سيحدث في القرن الواحد والعشرين على أنه سيقتصر فقط على الحضارة الغربية من طرف والحضارتين الإسلامية والكونفوشيسية من طرف آخر.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هنتينغتون ـ عندما يتحدث عن الصراع بين الحضارات الدينية ـ يتجاهل عن قصد وإصرار مبيتين الصراع بين اليهود والغرب أو بين اليهودية وعدوها الأول المسيحية، وأنكى من هذا أنه لم يستخدم الدين كمعيار للتصنيف إلا عندما يتحدث عن الدين الإسلامي أو الحضارة الإسلامية.. وفي تصنيفه الحضارات عبر معايير مخالفة للمنهجية العلمية والتاريخية تماماً فإنه يصنف الحضارات استناداً لمناطق جغرافية أو بيئية أو عرقية أو دينية وهذا لا يتفق مع تتطلب تحديد المعايير والمفاهيم حتى يكون التصنيف منطقياً متسقاً أي تصنيف الحضارات ـ على سبيل المثال ـ على أساس ديني كمعيار واحد، وهذا ما افتقر إليه هنتغنتون في هذا المجال، ومثال ذلك حينما يتم استخدام الدين كمعيار واحد وعليه يجب أن يكون تصنيف الحضارات على الشكل التالي: الحضارة المسيحية والحضارة الإسلامية والحضارة البوذية والحضارة اليهودية وهكذا... وكان قد صنفها بصورة جغرافية بالكونفوشيوسية وهذه تشير إلى الحضارة الصينية واللاتينية الأمريكية لماذا؟ إن الثقافة أو الهوية الثقافية والتي في أوسع معانيها الهوية الحضارية هي التي تشكل نماذج التماسك والتفكك والصراع في عالم ما بعد الحرب الباردة.
ويقع كتابه صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي في خمسة أجزاء رئيسية وكل هذه الأجزاء هي محاولة لتطوير نتائج ذلك الافتراض وهي (22 إن العالم اليوم متعدد الأقطاب والثقافات، وإن التحديث مختلف عن الغربنة. إن توازن القوى بين الحضارات أخذ في التغير، الغرب يتقهقر في نفوذه النسبي وإن الحضارات الآسيوية تقوم ببناء وتوسيع قواها الاقتصادية والعسكرية والسياسية، والعالم الإسلامي يشهد انفجاراً سكانياً بعيد المدى في تأثيراته على مستقبل الدول الإسلامية ومصحوب بنتائج عدم استقرارها من جهة وعلاقاتها مع الحضارة الغربية من جهة أخرى، إن نطاقاً عالمياً أساسه التنوع الثقافي أو الحضاري أخذ في الانبثاق: هناك مجتمعات تتقاسم روابط ثقافية تتعاون مع بعضها البعض والدول التي تجمع نفسها حول الدول الأساسية الرائدة أو الكبرى من نفس حضارتها أو ثقافتها. إن دعوات الغرب إلى العالمية تضعه دائماً في صراع مع الحضارات الأخرى وبشكل أكثر أهمية وخطورة وتحديداً مع الإسلام والكونفوشيسية وعلى المستوى الإقليمي حروب خطوط الصدع والتي تقع بشكل رئيس بين المسلمين وغير المسلمين، تؤكد الحشود التي تؤديها دول تشاطر حضارتها وتهدد بتوسيع حدود الصراع مما يجعل الدول الكبرى تسعى إلى إنهاء تلك الصراعات. إن حياة الغربيين تعتمد على الأمريكيين وهم يعيدون تأكيد هويتهم ـ الثقافة الغربية ـ وإن المجتمع الغربي قد هيأ نفسه على اعتبار أن ثقافتهم ثقافة متميزة، وقد اتحدوا لغرض تجديدها وصياغتها ضد التهديدات من المجتمعات غير الغربية. ومن خلال صياغة هذه الأجزاء الخمسة ينطلق هنتغنتون بترويج فكرة صدام الحضارات مؤكداً في سياق أطروحاته على فكرة أساسية وهي أن الصدام في القرن الواحد والعشرين سيكون بين الغرب من جهة والإسلام والكونفوشيسية من جهة أخرى باعتبارهما ثقافتين أو حضارتين تؤكدان على هويتهما الثقافية رافضة الانصياع للثقافة الغربية.. وبهذا هو يروج الصراع مع الشرق المحدد لديه بالإسلام والصين، لصالح الغرب والأمريكان. وفي هذا بعد سياسي خطير يستهدف إخضاع الشعوب الأخرى للسياسة والمصالح الأمريكية، أما ما يتعلق بافتراض هنتنغنتون فإنه يقوم على أساس المصدر الرئيسي للصراع بعد الحرب الباردة فهو لن يكون صراعاً أيديولوجياً أو اقتصادياً إنما يكون صراعاً ثقافياً، ونظراً لأهمية الهوية الثقافية للمجتمعات الإنسانية فإن هنتنغنتون يرى أن هذا العالم المتغير الذي يشهد صراعاً ثقافياً في المستقبل وصراعات أخرى على المستوى المحلي والتي ستكون أيضاً بين ثقافات محلية تنطوي تحت حدود إقليمية أو الدولة وهي في الأساس ذات صيغة عرقية، أما على مستوى العلاقات الخارجية فيرى أن صدام الحضارات سيكون عنوان العالم في المرحلة المقبلة كما أن المسائل الاستراتيجية ترتبط بتنوع واختلاف الثقافات، وهو كان جورج بوش الأب يرى أن المستقبل سيكون مستقبلاً أمريكياً وأن النظام العالمي الجديد هو مجرد إمكانية وطموح وفرصة متاحة الآن وسيكون حقيقة في المستقبل المنظور.. وقال: "فبين أيدينا إمكانية استثنائية لم تنعم بها سوى أجيال قليلة، ألا وهي إمكانية بناء نظام دولي جديد وفقاً لقيمنا نحن ومثلنا نحن وليس، في الوقت الذي تتقوض فيه من حولنا النماذج والتقنيات القديمة ومثل وقيم الآخرين"... وهذا ما قام بتوكيده وأدلجته هنتينغتون وفوكوياما لأنهم ـ مع بوش ومن قبله ومن بعده ـ هم جميعاً في خدمة الاستراتيجية الأميركية ومستقبلها). والثقافة التي يروج لها الرئيس الأمريكي تتمثل في الحرية السياسية والاقتصادية وشرعية السلطة القائمة بالاتفاق الشكلي بين الحكام والمحكومين وحقوق الإنسان أو ما أسماه (الليبرالية الديمقراطية) والتي يجب نشرها في كل بقعة من بقاع الأرض ـ بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ودول شرق أوروبا ـ وعندما يتحقق هذا الانتشار فإن البشرية تكون قد وصلت إلى نهاية التاريخ. وهنا تبدأ أنظمة العولمة بالإحساس بنشوة الانتصار والتمدد.. إذن إن فكرة الصراع التي تعبر عن تصورات السياسة الأمريكية تقوم على الصدام بين الإسلام والغرب إذن إن ما جاء به هنتنغنتون حول صدام الثقافات (بين الغرب والإسلام) يندرج في إطار للسياسة الأمريكية تجاه المسلمين، ولعل هذا سيظهر عندما يصف هنتنغنتون بأن الإسلام ومنذ البداية كان دين سيف ودين يدعو للجهاد كوسيلة أساسية لمحاربة الأعداء وبهذا فإن الصراع بين المسلمين والغرب قديم، وهو ما سوف يكون ممتداً في القرن الواحد والعشرين لكن هذه المرة يجد نفسه ـ أي الإسلام ـ متحالفاً مع الكونفوشيسية كثقافتين متفقتين في رفض النموذج الغربي على الرغم من الاختلاف بينهما في مسائل كثيرة.
من هنا جاء تركيز هنتنغنتون على مبدأ الصراع وتبريره. ثم فلسف مقولته بأن العالم الإسلامي يشهد نمواً سكانياً بعيد المدى في تأثيراته على مستقبل العالم الإسلامي نفسه وعلى علاقاته مع الحضارات الأخرى، فهذا النمو في تصاعد مستمر ويأخذ أبعاداً خطيرة على مستقبل العلاقة مع الغرب مما يجعل هذا النمو عاملاً أساسياً ومهماً في مد الصحوة الإسلامية بالعناصر الشابة النشطة المؤمنة بقيمة الحضارة الإسلامية وهذا سوف يشجع التطرف وهجرة العناصر الشابة المدربة من المسلمين إلى أوروبا ـ التي تعاني من مشكلات كثيرة في هذا الإطار ـ مما تتصاعد الصعوبة معها بخاصة إذا ما علمنا أن المجتمع الغربي نفسه لم يعد قادراً على استيعاب هذا التنوع الثقافي، وأن الصحوة الإسلامية سوف يصيبها الكثير من الضعف بينما يضع الإسلام حسب اعتقاده حل إشكاليات التسلط السياسي والتخلف الاقتصادي والضعف العسكري ولعل الاستثناء الوحيد لذلك قد يأتي في كل من أندونيسيا وماليزيا إذا نجحت هذه البلدان بالحفاظ على تحقيق معدلات عالية للتنمية، وعندما يكون تقديم ـ نموذج إسلامي ـ للتنمية فإنه سوف ينافس النموذج الغربي والآسيوي ويتنبأ بظهور حركة أيديولوجية ذات طابع قومي متطرف يعقب أفول الصحوة الإسلامية، ويرى أنها لا تكون على وفاق مع الغرب لأنها ستضع على عاتق دول الحضارة الغربية مسؤولية إفشال الحل الإسلامي وبمعنى آخر فإن طبيعة العلاقة الهدامة قد تزداد حدة أو تقل بحسب بعض المتغيرات المرتبطة بالمجتمعات الإسلامية لكنها تبقى ذات طابع متناقض وأكد هذا الكاتب العنصري ـ في سياق اعتقاده بتصاعد الصدام بين الإسلام والغرب ـ على إزاحة أو غياب الدولة القوية القائدة في العالم الإسلامي، لأن هذا الغياب سوف يسهل قيام الصدام الحضاري، ويسوق مثالاً على ذلك من تجربة الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفييتي اللتين مارستا كدولتين قائدتين في إطار حضارتهما دوراً أساسياً في توجيه سلوك الدول التابعة لهما، وهذا يمنع تصعيد أي صراع إلى درجة المواجهة العالمية، وفي غياب الدولة القائدة في المجتمعات الإسلامية تتعدد الجبهات التي ستفتحها الدول الإسلامية مع باقي الحضارات فضلاً عن التنافس على دور الدولة القائدة في العالم الإسلامي الذي سيقود إلى صراع بين الدول الإسلامية( ). وكذلك اختلال التوازن السكاني والتنمية الاقتصادية والتغير الثقافي ودرجة الالتزام الديني وأن حالة العداء هذه ستتزايد حدتها بسبب عدة عوامل أهمها: ازدياد هجرة المسلمين إلى الغرب بسبب النمو السكاني المتصاعد وعدم كفاية الموارد ولهذا نبه إلى خطر الصحوة الإسلامية التي عززت من ثقة المسلمين بأنفسهم وأظهرت تميز هويتهم الثقافية عن غيرهم على حد قوله. أما فكرة العولمة فهي تقوم لديه على ترويج فكرة عالمية ثقافة الغرب، وفرض تفوقه العسكري والاقتص