الفارس الأخير
يقفز نهر “Aer " بين الصخور الكبيرة ، فيصقلها بمياهه ، وينحرف هادئا تحت ظلال الغابات المورقة .
يجري في السهل يصعد في تدفقٍ جارفٍٍ ويدخل في وادي ضيق تحيطه الروابي.
إحدى التلال القريبة من ضفاف النهر من منحنياته الصخرية والمتشظية تقبع عليها آثار قلعة التينار مغطاة بالنباتات المتسلقة .
منذ سنين عدة هُجرت القلعة الرائعة ، والعرق البشري الأرجواني لمالكيها القدماء قد قُضي عليه في معركة مأساوية .
كان الكورت دي التينار أخر سلالة العائلة النبيلة كان فارساً شجاعاً و محباً للحرية ، لم يسمح أبداً أن يفرض أحد عليه أي شيء لا يتلاءم مع كرامته و عزته ، في مرحلة كان الأمراء فيها يفرضون وبشدة الضرائب والخدمات لصالح الإقطاع والنبلاء .
الفارس كورت اعترض وبقوة على ذلك الجور غير آبه بالتهديدات.وعندها بعث الأمراء جيشا كي يحاصر القلعة المتشامخة . أغلقوا بوابات الحصن ، و خاض كل الرجال مقاومةً بطولية .
كانت السهام تصدر صفيراً ، وفي المجنبات المنحدرة كانت تتدحرج الصخور الكبيرة التي كانت تُقذف من الأعلى.
والمحاصرون الذين تجرّأوا على الاختباء في الصخور ، أفادوا من تلك الصخور التي جعلت قفز المهاجمين مستحيلاً.
امتد الحصار عدة أسابيع ، وصار نقص الأكل في الحصن هو العدو الأكبر للمدافعين .
"كورت التنار " رأى اقتراب اليوم الذي عليه توزيع آخر الخبز بين رجاله . وبعدها عليهم الاستسلام أو الهلاك .
امتد الحصار من غير أن تهبط معنويات المحاصرين ، وفي العكس، يوم بعد يوم كانت الهمم تضعف عند الذين يحاولون الهجوم والدخول إلى الحصن أمام الصعوبات للسيطرة واخضاع تلك القلعة الحصينة التي كان وضعها يجعل محاولاتهم الهجومية ضربا من المستحيل .
المدافعون كانوا شجعاناً ومستبسلين ، عندها أحسّ الأمراء بالرعب واليأس يتفشى بين رجالهم المحاربين ، فخشوا أن يندلع تمرداً بينهم بين لحظة وأخرى .
بعض الخدم الإقطاعي اختفوا هاربين من تلك الحرب غير المفيدة والخطرة. والتمرد سينشر الفوضى وعدم التنظيم في الجيش الذي يفرض الحصار .
وفي صباح دافئ ومشرق ظهر المسن كورت بشعره الأبيض فوق أعلى أبراج القلعة يمتطي خيله ومدجج بكل الأسلحة .
المظهر النبيل للفارس، بوجهه الشاحب الذي يداعبه الهواء الطلق ، و بريق سلاحه الفولاذي وخيله الأسود المتألق ، كل ذلك كان يمنح الفارس الهيبة والسحر .
فتثبـّتت كل النظرات عليه، و صمت الجميع حتى الوادي ظل صامتا في ذلك الصباح المشرق والدافئ!!
مدّ "الكورت التنار" ساعده في إشارة تحية وقال بصوت جهوري :
: هنا الرجل الأخير !! والخيل الأخير !! لكل اللذين عاشوا في هذا القلعة الحصينة ! فلقد قضى الجوع على رجالي و أبنائي ! وقد ماتوا جميعا ، لكن بكرامة لأنهم يعشقون الحرية ، ويبغضون طغيانكم .. أنا أيضاً سأموت بالطريقة التي عشت فيها حرّا دائماً من كل العبودية كأي فارس حقيقي ".
وعندما قال ذلك عند حافة البرج ، لكز خيله بمهمازه ، وأطلق صرخة على الحيوان النبيل الذي صهل صهلة غضب ، وانطلق إلى الفضاء بوثبة مخيفة .
سقطت خيول من جهة المنحدر الصخري المتشظي ، وتدحرجت محطمة حتى غرقت في ماء النهر وإلى الأبد أمام الخيل الأخير لـ"التينار" .
لم يتجرأ أي من المحاصرين على دخول الحصن الصامت للأبطال ، فرعب الميدان جعلهم يفرّون من ذلك الوادي المفزع .
و هكذا استمرت القلعة حصنا أبياً و وحيداً طوال الوقت الذي غطى آثارها بوشاح من الحجر .