حيوان النمس
كل فجر صباح كان الشاب الحطّاب يخرج إلى الغابة ، ولا يعود إلا بعد أن تغيب الشمس .
كانت زوجته تبقى وحيدة طوال اليوم في الكوخ الخشبي وسط الحقل ، ولم تكن لترتاح للحظة واحدة ،وهي تقوم بترتيب البيت الفقير ، وتلتقط الأغصان للنار ، وفي تحضير الأكل و رعاية رضيعها الذي كانت تروح وتجيء ، وهي تنظر إليه ، وتعود للنظر إليه في مهده ، وهي سعيدة لرؤيته ، كان وليدها الأول الذي أنجبته قبل عدة شهور، وصار مصدر سعادة الأم الشابة ، فهي تحيا من أجل رعايته فقط .وعندما تكون إلى جواره أو تحمله بين ذراعيها تغمرها السعادة .
والى جانب ذلك ، فلقد كانت تعاني من أفكار سود ، لا تجعلها تعيش بسلام و طمأنينة .
كانت عين الماء على بعد مسافة من الخيمة ، وكان عليها الذهاب إلى هناك ، كي تملأ الجرار ، وفي أثناء ذلك كان الطفل يبقى وحيداً في مهده ، وحيداً هناك وسط الحقل .
وفي حقيقة الأمر كان النمس حيوان البيت يبقى هناك أيضاً ، الحيوان الصديق الذي كان يعيش معهم ، وهو ينظر إليهم بعيون المحبة .
و حين تخرج الأم كان الطفل يبقى تحت رعاية النمس، لكن هل يمكن الوثوق بحيوان حتى ولو تربى في البيت؟ ماذا يمكن لحيوان أن يفعل يوما ما إذا أحس انه مهتاج؟ هل يقدر أن يلقي بنفسه على الطفل الصغير المسالم ، ويصنع منه غنيمته ؟
:" إنه حيوان!! حيوان!! وثقة!! وثقة!! ". قالت الأم الشابة ذلك وكانت ترتجف كعادتها كلما فكرت بذلك .
كان زوجها قد قال لها لمرات كثيرة إنها تتعذب من غير مسببات ، فالنمس حيوان كبير و وديع وصديق ، فمن الخطأ عدم الثقة به ، فأخذت الأم تلوم أفكارها السيئة ،لكن رغم كل شيء ،لم تتمكن من الإحساس بالطمأنينة وتقول: :"ماذا لو أن النمس في يوم ما ...؟ " .
وفي أحد الصباحات نزلت المرأة إلى عين الماء وهي تحمل جرتها ، و هناك في الخيمة بقي الطفل نائما في المهد ،والنمس يتظاهر بالنوم في الزاوية ، وقد كوّر جسمه كأنه بيضة ، ومن حين لأخر كان يفتح إحدى عينيه ، وكأنه يتفقد شيئا ً !! وفجأة و بلا ضجيج ،و من ثقبٍ كان بين الأرضية وخشب الخيمة انسلت أفعى كبيرة و سوداء ، كانت أفعى سمينة وقوية ، لكن ما يخيف هو السم الموجود في أسنانها . وبصمت وبسرعة اتجهت نحو سرير المهد ، لكن النمس وثب لها في اللحظة ، ووقف أمامها وشعر ذيله قد إقشعر، وعينيه تشعان بوميض حقد .
الكلب أو الذئب لا يقدران على مواجهة الأفعى ، ففي ضربة سريعة من رأسها يدلف السم القاتل إلى أجسام هذه الحيوانات القوية ، ولا يمكن لهما أن يقاوما ضغط الطيّة اللولبية التي تضغط بها كثيرا وبقوة حتى يتم التسمم ، لكن النمس كان هناك ، هذا الحيوان الصغير قبالة الأفعى لا يسمح لها بالمرور!!
كان النيس يستجمع شجاعته ليواجه فم الأفعى المفتوح وعينيه متقدتين بالحقد ،كأن الأفعى صارت عصا ،وأطلقت رأسها في هجوم مثل السهم .
امتص النيس الضربة بقفزة سريعة إلى الجانب ، وعاد ثانية يقف قبالتها لا يزيح النظرات عن عدوته، كان شعر النيس مقشعراً وهي تهدد بإظهار أنيابها ، لكن مخالب النيس كانت تخرمش الأرض كأنها أمواس حادة..
أحنى ظهره لمرات عدة ، وألصق جسمه في الأرض لمرات أخرى، وكذلك حرك عضلاته . كان واضحا أنه ينتظر اللحظة المناسبة للهجوم، و وثب مهاجماً ، فلقد جعل جسم الأفعى غنيمته ، وقفز بسرعة كرة وهي تنطنط !! ومع وثبة ثانية أكثر سرعة تحرر من رأس عدوته التي أخذت تتلوى .
هاجت الأفعى السامة وقد أحست أنها انجرحت ، فتقدمت وهاجمت وهي تطلق رأسها ونصف جسمها مثل السهم .
كان النيس يقفز من مكان إلى مكان ، ليمتص الهجمات التي كانت تجيئه مثل الطنين ، وكان عليه أن يتراجع ويقبع، لكن عضلاتها كانت تتحرك تحت الجلد ، وفي عينيها كانت نقاط حمر تلمع، وانطلقت بقفزة بدت أنها وجها لوجه ،لكنها أخفقت بتحديد زاوية الهجوم ، وعندما هاجمت الأفعى من الجانب الثاني ، و مثل البرق هبط عليها النيس من خلف رأسها ، إنها غنيمته هناك !! فهاجمها بمخالبه وبكل جسمه الضاغط .
وبدأ جسم الزّحافة يتراجع ،كان يرتفع وينطوي ، ويلتف بارتعاشات قوية ، وهناك في الرقبة خلف الرأس كان يضع وزنه الذي حرقها كالجمر. كانت هناك لحظة أخيرة من الضجيج ، كأنه لرياح تكنس أوراق الشجر اليابسة.
أخذ الاثنان يتراجعان أحدهما يجرجر الآخر ممرغين بتراب الأرض والغبار ، الذي انبعث من هزّه لذنبه ، وفي النهاية أخذ القتال ينتهي ، وأخذ جسم الأفعى يطول ، ويرسم على الأرض ولآخر مرة شكل حرف السين " S" ، وهمدت بلا حراك .
لكن النيس بقي هناك للحظة عند غنيمته يتحسس دم عدوته من الرقبة التي قطعها ، وبعد ذلك قفز، لكن في داخله يغلي الهيجان والرغبة بالعض، وأخذ يسحب الجسم المهزوم ويسحله هنا وهناك ممسكا به بمخالبه مرة وبـ"بوزه "مرة أخرى. ورغم أنه كان منهكاً ، لكن سعيدا بانتصاره ، فلقد اتجه النيس نحو مهد الرضيع ، وخرج من الباب شبه المفتوح، وراح ينتظر سيدته علّه ينقل لها الفرح الموجود في قلبه كحيوان!!
كانت المرأة عائدة في الطريق تحمل جرتها الممتلئة بالماء على رأسها ، وعند وصولها ورؤيتها للنيس معفراً بالتراب ،والدم على "بوزه" و مخالبه، وفي عينيه بريق غريب ، أخذت تفكر بالأمر ..
:" آه آيتها الآلهة! هذا ما كنت أخشاه من هذا الحيوان الملعون!! ها هو قد أكمل التهام رضيعي !! آه آيتها الآلهة ! لا يوجد عقاب لهذا الحقد الكبير والأعمى ! عقاب وأي عقاب!!؟ الموت ؟!! نعم الموت !! " .
وفي لحظة من اليأس ألقت الجرة بقوة كبيرة على النيس الذي سرعان ما تمدد على الطريق .
وبدأت تركض كأنها تطير باتجاه الكوخ ، وعندما دخلت كان ابنها الرضيع يغفو في المهد ، لكنّ قدمها تعثرت بأشلاء جسم الأفعى السوداء ففهمت كلّ شيء ,ونظرت إلى نفسها ،إلى الأفكار السيئة والسوداء !! وإلى فورة غضبها الملعونة التي جعلتها تدفع المعروف بالإساءة !! وبدأت تضرب بقبضتي يديها على صدرها ورأسها ، وهي تركض إلى الطريق ، يأكلها الحزن كما كانت من قبل ، وأخذت تبحث عن الحيوان الوفي .
التقطته من الأرض ، وحملته بين ذراعيها بحب ، ومضت به إلى الكوخ ،وهناك عملت له سريرا من افضل الأقمشة لديها ، و قرّبته من النار ، وأخذت تداعبه وتقول له أحلى الكلام الممزوج بدموعها .
وبعد وقت لا بأس به ارتجف النيس، ونظر إلى سيدته بعينيه الطيبتين ، ثم نظر تجاه سرير الطفل الرضيع .
في الليل عندما عاد زوجها الحطاب ، وجد الأم تبكي من الفرح ، تجلس قرب النار وطفلها الرضيع وحيوان النيس بين ذراعيها .