الأنثى في الثقافة الأميركية:
لم تزل أمور كثيرة، تعتبر خاصية من خصائص الحياة، أو سراً من أسرارها، وفي إطار العالم الرأسمالي فإن اللاهوتيات تلجم الهاجس اليومي (دعايات الأنثى الفاتنة، والتعري في الصفحات اليومية للجرائد)، بحيث لا يمكن المقارنة ما بين "كور وفيفارو" مثلاً أو غيرهما، إذ تشاهد في الصحف وعلى الشاشة فتاة (تخلع عنها كل ساترة ليرى الجمهور بدوره ما أبدع الله).. كل ذلك يطبخ في معمل الثقافة الجماهيرية: وتقوم الصحف والمجلات الملونة، والأفلام، بعرض الصور، بل حتى أن الفتيات أنفسهن ترفعن لنا أقدامهن، وتهتز أثداؤهن وأردافهن وشعرهن، وهن فاتحات ثغورهن نصف فتحة، يحرضننا على شراء عدد من اللفافات، ونحن نستعرض هذه المشاهد رغماً عن أنوفنا، أو لنبتاع علبة معجون أسنان أو صابون أو عطورات وغيرها من البضائع المطروحة، وبلغة أنثوية، أي والحق أنها ليست غزلية، بل خليعة. وهكذا توظف الثقافة الجماهيرية جسد الأنثى لترويج بضاعتها، أو تضع من نفسها واسطة لهذه البضاعة أو تلك (من البضائع الغذائية أو المفروشات والمواد الضرورية في حياتنا اليومية) عبر التهييج الجنسي الرخيص.. هذا ما يحصل في المجتمع العربي، عبر العلاقة التي تقيمها الثقافة الجماهيرية بين الأنثوية وحركة المجتمع الرأسمالي المعاصر التي تدور باتجاه الهدف الرئيس وهو الاستهلاك، حيث يشكل المال (النقد) أساس الدوران هذا ومحوره الأنثى. وبرغم دورانه الكثيف فإنه دوماً لا يكتفي ولا يشبع وهو يقدم الإنتاجات المتنوعة، في إطار التوسع العمودي للرأسمالية، جاهداً لتحقيق إمبراطورية الأحلام.. وعليه فقد دخلت الأنثوية والجنس الأنثوي في الاقتصاد وقوة الصناعة والإنتاج، لتصنع جميعها حضارة الغرب.. هذا ملخص ما كتبه مورين حول هذا الموضوع.. وعلينا أن نبحث في توسع "الحضارة الغربية" الجنسية أو الأنثوية التجارية ـ الصناعية خارج حدود العالم الغربي.. وهذا ما يمكن تسميته بالجنس التجاري المهاجر، أو المصدّر.. على شكل صور أو حكايات، وروايات، وصحف وعروض متلفزة أو سينمائية... لكن أهم هذه الإنتاجات الثقافية هي الإعلانات والدعايات، في لعبة العرض والطلب التي هي أكبر وأهم واسطة معاصرة، وبخاصة في عالم الثقافة الجماهيرية.. وفي الدعاية ترى الأجساد أكثر من غيرها من البضائع ـ أو بالأحرى يستهلك منها أكثر مما ينتج (Nip Up girl) التي تظهر ساقيها ـ في دعاية "شفيبس" عاريتين جميلتين بل رائعتين إلى درجة مبالغ بها، من أجل الإثارة الذكرية بالدرجة الأساسية.. بمعنى أن البضاعة المؤنثة تعبر عن الثقافة الجماهيرية، وهذا ما قصدت إليه ثقافة الغرب المصدرة إلى الشرق.. أما النقطة الأخيرة التي تجدر إثارتها هنا، في إطار الحديث عن الثقافة الجماهيرية وأساليبها وغاياتها، هي الآثار التي ترتبت عن مثل هذه الطرائق في عقلنا المعاصر.. ففي الغرب كما أكد مورين، أدت هذه الدعايات إلى نوع من الشذوذ، (الجنسي والمسلكي) فذكر أن من نتائجها انتشار عادات مثل السحاق والهوموسيكس ـ وما إليها، فيما أن هذه الآثار أقل وطأة في مجتمعاتنا، لكنها موجودة، ولعل هناك نوعاً آخر من صور الشذوذ في مجتمعاتنا، بنتيجة هذه الثقافة مثل الهيبة، وتعاطي المخدرات، والفوضوية واللا انتمائية وبالتالي الشذوذ الجنسي تحت شعار "محاربة النمطية بالنموذج الحضاري".. ففي الغرب الذي جرب ملذات الجسد "دون عقاب" قانوني أو أخلاقي (اجتماعي) لطبيعة ركائز هذا المجتمع وروائزه العامة وأخلاقه الخاصة به ـ قد سئم منها بعد زوالها ـ أي زوال اللحظة ـ إذ أصبحت آلية لا تعطي المتعة لكثرة تعاطيها، لكن في مجتمعاتنا ربما كانت نفس النتيجة، لكن بطرق أخرى غير تلك المتبعة بالغرب، لطبيعة موروثنا الأخلاقي والاجتماعي.. ولسنا في مجال التعداد والحصر.. ولكن يجب أن نبرهن عن هذه القيم بحصرها في أرضيتها ومداليلها الاجتماعية والنفسية... فالحب في الغرب، هو وقف على ليبرالية القرن الثامن عشر، وهو في مجتمعاتنا مستمر حتى الآن/ بالتناسق مع مورثنا التاريخي والأخلاقي/ أي محاولة التوفيق بين الموروث والمعقول، وقد وجه الغرب باتجاه الروح عن طريق الجسد ليصب في جيب الثورة الصناعية والرأسمالية العالمية.. فأصبح الحب ليس ليبرالياً، بل بنفس الواقع القديم لكن على أرضية معصرنة، أي الانفلات المستأثر بتكنولوجيا الغرب، ليصل إلى نفس النتيجة التي وصل إليها حب الغرب الليبرالي... ولصالح الفئات الميسورة ـ الكومبرادورية من السماسرة المحليين أو المراكز الدولية للكومبرادور الدولي..
كل هذه المناحي قد جرت وتوصلت إلى أهدافها تحت مظلة وستار الثقافة الجماهيرية والمعاصرة الثقافية، وأخلاقها وقيمها التي تحظى بدعاية وخنادق ضخمة ومتينة قادرة على مواجهة الند أو الخصم، وربما غلبته في أحيان كثيرة، في شتى أنحاء المعمورة، حتى الآن، أي على مدار القرن الحالي.
يمثل الحب في الثقافة الجماهيرية الفكرة الأساسية التي تقوم عليها هذه الثقافة، وتقدمه في مناسبات غير مناسبة، كان حرياً ألا يقدم فيها.. مثل المغامرة، الكاوبوي، الشريف الذي يظهر في وسط غابة، وفي الصحراء، أو في تلال الغرب، فيظهر الحب بين البطل وبطلة مجمّلة مزينة..
وقد وجهت الصحافة، بدورها، المصلحة الإنسانية باتجاه فكرة الحب /كالكارثة فريجيس، تعيدنا مرة أخرى إلى الحب، بين المخطوبة الشابة التي كان يجب أن تزف إلى زوجها في نفس يوم الكارثة. وموت فاوست كوبي يقودنا إلى حبه مع "السيدة البيضاء". وسفر نيكيتا خروتشوف إلى فرنسا يذكرنا بحبه لنينا/. والحب هو ذاك الهاجس المبني على إمبراطورية أسطورية جديدة، حب مارغريتا حيال تراونسند ثم توني، حب اليزابيت لفيليب، سواري وفرح ديبا، وحب باولين.. حيث يحمل هذا الحب أسطورة أولمبية حول بريجيت باردو، جاك شارييه، آنيتا فاديم، ساشاديتيل، إيف مونتانا، مارلين مونرو، ليز تايلور. وجرائم الغريزة المثيرة تحتل عناوين كبيرة، لكن الحب يحرر المذنب الذي ترك زوجته، كما الحال والعاشق الغيران... كل هذه الصور المنمقة، والمخرجة سينمائياً، والمقابلات المعدة، الكاذبة والمكررة مئات المرات، تظهر الحب وكأنه حقيقي وطبيعي. لأنه الفكرة الأساسية للسعادة المعاصرة، كما رأينا في الصفحات السابقة. وتحمل المناقشات حول الحب في اللقاءات المعاصرة، وفي الروايات الوجدانية، والتسلوية، منذ القرن السابع عشر /بل من الثامن عشر/، وفي المسارح الشعبية في القرن العشرين، تحمل حقيقة هي أن الناس كانوا محاطين بمسألة الحب، حتى تملكته الثقافة الجماهيرية لتقدمه على أنه صورة حية للحب الحقيقي...
"الإنسان بدون الحب هو لا شيء" كما دار حديث إحدى المولهات حول أحد الناس: إنني أدين لك أيها الحبيب بأحلى أيام العمر".. ولا يبقى من هذا الكلام شيء عندما نحب.. ومع هذا فإن الثقافة الجماهيرية تبغي الوصول إلى فكرة الحب وبلورتها بصورة تخدم هدفها الحقيقي، صورة تبريرية ذاتية منتصرة ذات أصول بعيدة في الماضي.. بأشكال متعددة، حتى أن الحب خارج نطاق الزوجية، حتى تصبح هذه الصورة محيطة بكل الحياة من الناحية التبريرية. أما الشكل الرومانسي للحب فقد برز نفسه بالعبارات الشعرية وطريقتها الوجدانية. فيما برز الحب الغريزي صورته، بانتصار الجسد، فنسف الزواج كأساس للحياة. وقد ظل الحب منذ الثلاثينات مع النهاية السعيدة منتصراً. وقد اتكأ على الجنس، فوجد الروح بالجسد.. فكان ضد الزواج أكثر من كونه أساساً للحياة والمجتمع.
فظهرت روايات الحب تصور الحب فوق البنى الاجتماعية كلها: الزواج، الأسرة، الطبقة، الواجب، الوطنية.. الخ.. وفي هذا الصراع أسقطت الأثمار قبل النضوج، أي أنه لم يقتل الهاجس. وقد ظهر هذا الصراع بشكله الثلاثي في الحب المدني، الزوج ـ الحبيب المعشوق، والمرأة. وانسحب على ركائز اجتماعية وظواهر متعددة: الغنى، الفقر، الفتاة اللقيطة، الأرمل المعقد، كنوع من اللعبة الحياتية... توزعتها الروايات والقصص والصحافة العاطفية.. موجهة نحو فئات المجتمع المختلفة وبخاصة أعمار الستة عشر. وأعطت الثقافة الجماهيرية الحب، حرية مطلقة لتغيير دورة الصراع بين المأساة والملهاة الإنسانية للحياة. وللتفريق بين الثقافة الجماهيرية وفكرة الحب الآسيوي والأفريقي والأميركي اللاتيني، فإن هذه الأفكار قد وجهت الحب على بحر مفتوح حيال القناعة والرضاء.. أي الفرق الكبير هو في طبيعة هذه المجتمعات وارتباطها بالموروث التاريخي والأخلاقي، فيما تحاول الثقافة الأميركية أن تبذر في هذه المجتمعات بذور التفتت والانقطاع عن الماضي في مسألة الحب، وتوظيف الماضي في خدمة الحاضر، الحب الغريزي، وقفزه فوق بنى المجتمع القانونية والأخلاقية وتقاليده..
وقد أخذ هذا الحب المعاصر شكلاً أساسياً في التيار الجديد، أي الثقافة الجماهيرية، إنه ليس حب الأميرة "كليف" أو "ايما بوفاري" الذي حطمته القواعد الاجتماعية، وليس هو حب التكامل (الأسري) ولا حب الفراق (الذي يرى الموت مخرجاً) ـ روميو وجوليت. وقد أصبحت هذه الصورة كما يبدو حاجة لكل الحياة.. لكن الحب لم يستطع التكامل ولا التفرقة..
فالتقليد العربي في الحب، هو بلا شك، ذو تاريخ طويل، يمتد إلى القرن الثالث عشر، ويتناقض مع الحب الغريزي، بل هو حب الروح، وقد شمل هذا التناقض الحب والزواج: تناقض الازدواجية بين المعطى الروحي والمعطى الجسدي. فالمعطى الروحي مقدس، فيما أن المعطى الجنسي معاب ومحرم.. وقد تمثل هذا الحب في الأفلام والروايات في العقد الأول: العذراء المطلقة، المرأة المعادة أو الطلاق المعيب. فيما عصفت الأفكار الجديدة بهذا التقليد بدءاً من الثلاثينات من هذا القرن، فاعتبرت الأفكار القديمة التقليدية الموروثة قذرة، وبدلاً من أن تقدم البديل النظيف، فقد وجهت هذا الموروث في الاتجاه المعاكس، باتجاه الحب الفيزيولوجي، وبدلاً من أن تعتمد في الفيلم (مثلاً) رمزاً يدل على القبلة، فقد استخدمت القبلة (والشفة على الشفة) وبما يمكن أن تمر من كل رقابه في الدنيا، حتى تم اللقاء بين الغريزة والنفس. فالنفس الطيبة، في الأفلام القديمة أو الأساطير، هي مكان الروح، والتأوه رمز العاطفة الكامنة، فيما أصبح تقبيل الشفاه أو قضمها، لا يكفي إعطاء صورة عن الحب. وإذا كان الفيلم حاملاً لمجموعة أحاسيس وقيم، فقد ظهر هذا الفيلم في الغرب حاملاً لقيمة واحدة منها وهي لقاء الرجل بالمرأة، والنهاية السعيدة... وبهذا فإن الحب لم يعد حباً. وهذا هو الأساس الأخلاقي الغربي الذي غاص في الفرويدية وشبق الليبيدو الغريزي، ثم صدر إلى العالم، وقد تقبلته مجتمعات ورفضته أخرى، لكنه غزاها ودخل في عراك مع الموروث والتقليد.
وسخرت الصحافة الجماهيرية كمرآة عاكسة لهذا التشتت المتطابق مع الفوضى والعبثية والدرجة التي وصل إليها الحب أخيراً.. إذ أصبح الحب نسبياً، بقدر ما هو مطلق. وعندما يبدأ اتجاه يأخذ سمته ووجهه العادي، يظهر اتجاه معاكس يعتبر أن الحب أمر فردي وشأن خاص. وقد أخذ اللهاث وراء الحب القديم بعد أن أصبح الحب الجسدي مملاً ومقيتاً..
كما أن المغامرة أصبحت مرادفة للحب في عالم البيروقراطية.. وكذلك النفعية..
ولعل ظاهرة الحب في الثقافة العربية بقيت محافظة على الموروث ولو بشكل نسبي، مع عديد من الاختراقات التقنية أو التحررية..
وإذا كنا نعالج عقل الزمن المسيطر، فإنه لمن المنطقي أن نعقد مقارنة بين الظاهرة في الغرب وفي الشرق (العربي).. فموروثنا العربي ينظر إلى المرأة بأشكال متعددة طبقاً للنظام الاجتماعي القائم في دولة وجوده. لكن الصورة الحقيقية للمرأة العربية التي نتغنى بها في كل مجتمعاتنا هي المرأة الإنسان، امرأة الموقف والجمالية لا الأنثوية فقط.. ومع شديد الأسف، فعندما تصاب الأخلاق في الغرب بانتكاسة قاتلة تعزى الأسباب إلى الشرق.. وإن كل شذوذ وقسر وعنف يمارس يطلق عليه بأنه شرقي متوحش.. وينسى الغرب أنَّ امرأة الشرق قد شكلت له أزمة سياسية وأمنية وحضارية كبرى.. فزنوبيا ملكة تدمر التي أرهقت بضرباتها جيوش روما وأورليان، أضحت أسطورة ومادة لأفلام وروايات الغرب طوال قرنين من الزمن.. حكت قصة المرأة السمراء التي لوحتها الشمس، سوداء العينين يشع منهما بريق رائع، أسنانها كاللآلئ، صوتها رنان مؤثر في جندها كانت تركب العربة الحربية، وقلما تعتلي السرير المحمول، ولكنها تمتطي الجواد معتمرة الخوذة، تصطاد الوحوش والرجال الغزاة، وأنها أنبل نساء الشرق وأكثرهن جمالاً..
هذه المرأة رفضت أن تطأطئ رأسها أمام أورليان في موكب نصره في روما وتجرعت السم، لأن طبيعة الملك المهزوم تأنف الذل والرضوخ.. فأية امرأة شبقية هي امرأة الشرق كما يقول الغربيون؟؟ وأي رجل شرقي هذا الذي يصورونه شبقاً في الغرب؟ ولنعلم بأن "الإيدز" هو نتاج حضارة الغرب وثقافتها الجماهيرية، وأن ثقافة الشرق عريقة بما لا تسمح للشرق أن ينفلت، إلا تحت التأثير النسبي لثقافة الغرب المتهتكة...
وجوليا دومنا التي اقتحم عرشها الرومانيون رضيت أن تعيش زوجة للقائد الروماني، وهي ابنة آلهة حمص التي استولدها ابناً "كراكلا"، لكنها علمت ابنها كره أبيه حتى قتله وعادت إلى شرقها العربي العظيم... فلماذا يصور الغرب شرقنا وكأنه خاوٍ من النزعة الإنسانية للرجل والأنثى، في الوقت الذي تتفتت فيه الأخلاق العامة في بنى الغرب الاجتماعية؟...
وما دمنا في الإطار العربي، والثقافة الجماهيرية، لا بد من الحديث على الشخصية الأنثوية في الثقافة العربية.. ففي الروايات مثلت المرأة صورة الغرام العذري في البداية، ثم ما لبثت أن تحولت إلى صورة الغرام الجسدي، تحت تأثير الثقافة الغربية أو تيار التحرر المشوه.. إلا أن صورة المرأة في النتاج الأدبي الواقع تحت التأثير الغربي تبدو منفلتة غير ذات متعة قيمية، بل استعراضية وجنسية تحريضية بدوافع متعددة، فمثلاً، أخذت قصة ليلى بعلبكي في السبعينات /رحلة حنان إلى القمر/ شكلاً من الانفلات غير الفكري الملتزم، لأن الكاتبة غير منتمية سياسياً، بل عبرت عن مكنوناتها وهمها الأخلاقي والسيكولوجي على الورق.. بأنها بدأت تحكي قصة لقائها مع المحبوب وكيف غاصت يده تحت البطن... الخ..
فيما عبر الاتجاه الملتزم عن قضية كبرى هي دور المرأة في بناء المجتمع والحرية السياسية والشخصية وبالتالي التقدم العام والتطور الحضاري...
وفي السينما لم تخرج المرأة عن دور المنشط أو الجاذب للمشاهد، بحيث ركزت الإنتاجات على الجسد الأنثوي، مع شيء من محاكاة الروح العربية الموروثة التي تستهويها الكلمة واللحن، بالأغنية كموروث عربي وجداني..
وفي الفترة الأخيرة وقعت السينما العربية تحت تأثير الثقافة الغربية ـ الأرستقراطية ـ بحيث معظم الأفلام والمسلسلات ترتكز حول الورثة المادية والقتل، من أجل المرأة أو السعادة الوهمية... (في المسلسلات المتلفزة)، والثورة والمرأة ونزوعها إلى الالتحام بالرجل الغني في معظم الإنتاجات العربية.
حتى غدت ظاهرة الحب في مجتمعنا وكأنها نفعية خالصة، تعرت من كل فضيلة، لكنها ليست في خطر، لأن بنى مجتمعنا القوية ليست في الأشكال المؤقتة والعرضية أي في النظم الاجتماعية، بل مرتبطة بتاريخ عريق يمتد من الحضارة السومرية والآكادية إلى البابلية والتدمرية والإسلامية، /وبالرغم من حصول انقطاع ثقافي وتاريخي يفصل الحاضر عن الماضي بفترة الاحتلال العثماني والإفرنجي، أي منذ سقوط الدولة العباسية حتى حاضرنا الراهن/.. فإنه، عبر هذه الحقبة، لم تتأسس بنىً حتمية ذات ديمومة سرمدية، لأن أمة العرب لا تزال تتغنى بموروثها التاريخي القديم الناصع، وليس باستطاعة الأشكال العرضية أن تحل محلها، ليس بغياب الثورة الثقافية فحسب، بل ولعدم إمكانية قيام مثل هذه الثورة في ظل الوضع العربي الراهن..
وفي هذا السياق نعود إلى صورة المرأة في الثقافة الجماهيرية، وتضخيم القيمة الجسدية الأنثوية أو النسوية في نماذج الثقافة المعاصرة، وأشكالها أو أجناسها الفنية والأدبية المتاحة..
*الجسد معبر الثقافة الاستهلاكية:
ركزت الثقافة الأميركية (والغربية عموماً) على إظهار الجسد الأنثوي في أجناسها الأدبية والإعلامية وغيرها، فابتلعت الأفلام والروايات والقصص، وأعمدة الحضارة الغربية كلها قيمة المرأة الإنسانية، واستخدمت المرأة في المناسبات التي تدر عليها أرباحاً، مثل المهرجانات والمباريات، والاحتفالات العامة، كعروض الأزياء.. لتظهر جسد المرأة كقيمة غرائزية فقط.. وإذا كانت هذه القيمة أنثوية، فهي ذكرية أيضاً، لأنها تحاكي الذكر مستخدمة النديد الجميل له، طامحة إلى تعميم الأنثوية على المجتمع.. أما الذكرية فتبقى حلماً أو قيمة ثانوية لا تظهر إلا في المباريات والرقص.. ثم تنتشر في المناطق المتخلفة، حتى بقي الرجل صورة بعيدة وخيالية غير مسيطرة.
وفي مغامرة فاوست رسالة موجهة إلى المجتمع الغربي أي انقلاب السحر على الساحر، ولعلها موجهة أيضاً إلى الثقافة العربية. ذلك لأن الميل إلى التقنية الأميركية ـ في الفيلم خاصة ـ قد طغى على ثقافتنا..
في المجتمع الاستهلاكي يأخذ السن سلطة اجتماعية ورمزاً للتعقل أو الطيش. أي من المراهقة إلى النضوج، ومع تطور الحضارة الغربية التقنية سقطت هذه السلطة ورمزها، كما سقط الفارق ما بين سن الطفولة والنضج.. لأن حرارة ودفء الأسرة يشعان طويلاً ويؤخر تحقيق الشخصية المستقلة، حتى يحل الموت أو الفراق، هجر حضن الأم وإمبراطوريته.
أما من الناحية الأسرية فقد اختلف الأمر: كتب تورغينيف عمله "اليتيم والأطفال" وكتب جيدوف "أيتها الأسرة أكرهك"، فأوضحا: بأن العصر هو بداية نهاية الأبوة. وإذا كان تصور بأن جيل الشباب أقل تفاعلاً مع الثقافة الجماهيرية وأخلاقها وأفكارها.. فنراها أنها ذات فعالية أكثر في مشرقنا العربي، ولعل هذه الصراعات السائدة الآن وهي غربية، روحاً وشكلاً، قد تفشت بشكل جدي وكبير في عدد من المجتمعات العربية. إما بتأثير الفكر والنزعات الغربية ـ من ليبرالية ووجودية ـ أو بتأثير الصدمات والكوارث التي مني بها مجتمعنا العربي. ومع هذا نستطيع القول أن هذه الصراعات ليست واحدة في كل البلدان العربية، لكنها موجودة، خفيفة هنا وحادة هناك.. وهذا يعني، أن الطفولة مستمرة في حضارة الغرب من المراهقة إلى النضوج والكهولة أو الشيخوخة. وقد اختلفت فكرة الشباب بين الشرق والغرب.. وقد عنت شبابية الكوادر (القيادات، الوزراء، الخبراء، الجامعيون.. الخ..) وتمثل حركة المجتمع العاملة، أي عصر الدخول إلى المجتمع /سن الثلاثين/.
كان القرن التاسع عشر يعني فجر الشباب السياسي، في حين كان القرن العشرون يعني فجر الثقافة الشبابية. ثم ظهر دورهما الممزوج ـ السياسي الثقافي، مختلطين، يتحدان تارة ويفترقان تارة أخرى، وعنت الرومانسية بالبعد الشبابي فاعتبرته إعلاناً عن نهاية العالم القديم الشائخ، وبداية الإنسان الجديد.. كثورة في العقل الإنساني المتطلع نحو المستقبل... وقالت: "إن الإله قد تعب"..
ونشاهد هذه الصراعات لدى الشباب أو الجيل الناشئ على أشكال متعددة.. نجد حالة من القلق والنزوع إلى التمتع والتسكع بشكل ينسجم مع روح الثقافة الجماهيرية. فقد تزايدت أعداد الهاربين من المدارس والأسر بشكل أصبح خطيراً.. وبهذا تبقى ثقافتهم في حدود التلقي والانفعال.
وفي صفوف المتعلمين نرى الهمود والميوعة تكتسح فئات الشباب وصنوفهم الاجتماعية، وهذه مسحة خطيرة أيضاً، تعبر عن اللا انتماء وعدم المسؤولية، تتفشى في صفوف الناشئة العربية... فمباريات كرة قدم أهم وأثمن بكثير من قراءة كتاب أو دخول نقاش ثقافي ومحاضرة أو أي شيء فكري وأدبي أو سياسي، لدى الناشئة العربية بمجملها، وخاصة في الدول الغنية المتحولة.
إذن، هذه هي روح العصر السائدة في الفترة ما بين عقدين أو ثلاثة، حتى الآن... وهي إذا كانت موزعة ما بين الثقافة الغربية والثقافة التحررية الثورية، فإنها، على أي حال، منبه للعقل العربي.. بل يجب أن تكون هذه الفترة كذلك أو لنبدأ بالانتقال من الروح إلى العقل..