العولمة ونهاية القوميات:
ويشبه موقف الدول العربية من العولمة اليوم موقف ذلك الرجل الذي تعلق بامرأة ضحى بكل شيء للحصول عليها ثم اكتشف أنها عاهرة. ولذلك فقد تأخرت معرفة العديد من الدول العربية لهذه الحقيقة. فكانت النمور الآسيوية ودول الأزمات الاقتصادية أول من اكتشف هذه الحقيقة، لكن بعد فوات الأوان. أي بعد أن نجحت العولمة في إغواء العالم على هذه الصورة وبهذه الكثافة. وقد انطلقت المسألة من ترويج لجملة شائعات، أولها "النظام العالمي الجديد" ولاحقها "نهاية التاريخ" و"نهاية الإيديولوجيا" و"نهاية القوميات" وغيرها من النهايات التي جعلت العالم يقتنع بأن الزمن قد تجمد عند حرية السوق حتى بات يسير بخط مستقيم لتجاوز العقبات التي قد تدفعه لتغيير مساره، فراح الجميع يستنسخون "نمط الحياة الأميركي" دون أن يتوقفوا ولو لحظة لسماع ما جرى للنعجة المستنسخة المسماة "دوللي". فالمسكينة شاخت قبل أوانها وأصيبت بمرض "الهرم المبكر". كان السباق على الاستنساخ حامياً طيلة عقد التسعينيات وسيقت الدول النامية إلى العولمة مثل النعاج. وبعضها ذبح فانتبه قبل الذبح بقليل إلى الواقع دون أن يملك مقاومته. وبعضها الآخر ينتظر الذبح دون أن يعلم بما ينتظره. حتى جاء ثلاثاء 11/9/2001 ليبين أن النهايات كانت مجرد خدعة. فالإيديولوجيا لم تمت لأن انتحاريين متنوعي المشارب ما زالوا مستعدين للموت دفاعاً عن عقائدهم. ولأن العولمة أهملت جانباً من الكرامة الإنسانية تحت اسم "الاعتراف". بل إنها حاولت خنق هذه الكرامة بالحديث عن حقوق الإنسان. هذه الحقوق التي تنبثق قيمتها من رغبة الإنسان في الحياة. وهذا ما يبينه التعديل الأميركي لمهام المخابرات وتوسيع صلاحياتها وهما يضعان حداً فاصلاً للعولمة. فهذا التعديل ليس هو إلا إعلاناً أميركياً دعاوياً عن سقوط العولمة. بل أنه إعلان عن نهاية شائعة الحريات الأميركية كلها (الإنسان والمرأة والطفل والأقليات... الخ). وتدعم هذا الإعلام عودة المخابرات الأميركية إلى عملياتها السوداء التي تجسد مراجعتها نماذج "إرهاب الدولة". وذلك بمبرر مكافحة الإرهاب الدولي.
هكذا تعود الولايات المتحدة إلى زمن تبريرات استعمال القوة. فإذا ما تجاهلنا إبادة الهنود الحمر، لكونها تمت على يد نظام غير خاضع لدستور الآباء الأوائل أو الحجاج الكالفينيين، فإننا نبدأ من القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناغازاكي في اليابان. وبعدهما تأتي مسلسلات الانقلابات والاغتيالات التي استمرت معلنة لغاية نهاية حرب فيتنام، لتستمر في الخفاء ثم تعود راهناً بقرار تفويضي علني من الكونغرس والرئاسة. بذلك تم افتضاح أمر العولمة وانكشافها بحلول سياسة الأحلاف مكانها. وهو حلول تدريجي بدأ مع إعادة إحياء حلف الناتو (26/4/1999) وقبلها بدعم الحلف الإسرائيلي ـ التركي وبعدها بحلف كوسوفو. وراهناً بحلف "الحرب الكلية" ضد أفغانستان. وهذه المرة لا تخفي أميركا عدوانيتها بل جيشت كل الدول التابعة لها في هذه الحرب ومن بقي خارج الحلف فهو عدو لها ولا مكان للوسطية لديها أو التذبذب في هذا الأمر الخطير. هكذا أصبحت الليبيرالية الأميركية أو النموذج الأميركي في الديموقراطية حبراً على ورق بل أكذوبة تستخدم ضد أعداء مصالحها، أو كمشجب تعلق عليه واشنطن كل أغراضها الوسخ منها أو النظيف على حد سواء.. وبذا نسفت مبادئها القائلة بالحرية وحقوق الإنسان وبتقرير المصير واحترام الآخر ومعتقداته إلى ما هنالك.. وهنا تم النكوص إلى هنتنغتون وفرضيته حول "صدام الحضارات" كمبرر لهذه العدوانية وإرهاب الدولة الأميركية وكذلك إرهاب الدولة في إسرائيل الذي هو نموذج مصغر عن إرهاب الولايات الخمسين الأخرى (باعتبار إسرائيل الولاية الواحدة والخمسين). إذن إن المصالح هي وحدها الموجهة للسياسة الأميركية الخارجية وبخاصة تلك التي تتمحور حول دول الشرق الأوسط، ذلك لأن النفط العربي هو صمام الأمان الوحيد للاقتصاد الأميركي. لذا فإن تهمة الإرهاب الموجهة إلى دول المنطقة في هذه الحالة إنما هي ساقطة لأنها موجهة من قبل إلى الإرهاب في العالم الراهن.. وتسقط معها كل شعارات العفة والفضيلة والأخلاق التي يتشدق بها كتاب البيت الأبيض. بذلك نصل إلى تحديد منطلقات حوارية واضحة على أرضية كارثة الثلاثاء التي تشير إلى تقصير أجهزتهم الأمنية وتوريط الآخرين بها، بل إلى الإعداد الدقيق والمبيت لهذه الكارثة بأيد أميركية وبعقل صهيوني، وإلا لماذا لم يأت أي يهودي من موظفي هذين المركزين إلى أعمالهم ذلك الصباح؟ أليس هذا السؤال هو الباقي بلا جواب؟ وإذا لم يكن البنتاغون على علم بهذه المؤامرة فما هي مهمة هذه المؤسسة إذن؟ إن العالم كله قانع بما حدث إلا الأميركيين فهم وحدهم غير القانعين فلماذا كل هذا الاستخفاف بالناس وبالحق وبما يرمون إليه من وراء كل ذلك ومنه النفط العربي وخامات الدول المسماة بالمستقلة؟ وعلينا البحث بالمقابل بعيداً عن إيحاءات التهديد فتكون نقطة انطلاق الحوار من إلغاء تهم الإرهاب والإعلان الصريح عن موضوع الحوار وهو النفط دون أية مواربة ونفاق أو محاولات تفتيت عنقودية.