المطلب الثاني
الوكالة في عقد الزواج
1- معنى الوكالة.
2- الوكالة المطلقة.
3- الوكالة المقيدة.
4- أثَر الوكالة في عقْد الزواج.
الوكالة هي أن يُنيبَ الشخصُ غيرَه في القيام بتصرُّف ممكِن مشروع[1]، فكلُّ تصرُّف يستطيع الشخصُ أن يبرمَه بنفسه جازَ له أن يوكِّل غيره فيه، طالما أنَّ هذا التصرُّف مشروع، وفي إمكان الوكيل أن يقومَ به[2].
وعقْد الزواج هو أحدُ هذه التصرُّفات الممكنة المشروعة، وعلى ذلك فإنَّه يجوز لشخصٍ أن يقول لآخر: وكلتُك عنِّي في إبرام عقْد الزواج.
وهذه الوكالة قد تكون مطلقة، وقد تكون مقيَّدة:
الوكالة المطلقة:
الوكالة المطلقة: هي أن يوكِّله في تزويجه دون أن يذكُرَ امرأةً بعينها، ولا أوصافًا خاصَّة، ولا أسرة معيَّنة ولا مهرًا، ولا شيئًا على الإطلاق، ومثال ذلك: أن يقول له: وكلتُك في تزويجي، ففي هذه الحالة إذا قام الوكيلُ باختيار زوجةٍ مناسِبة لموكله مِن حيثُ الكفاءةُ والمهر، والأوصاف المرعيَّة في الزوجة، كان العقد نافذًا ولا شكَّ.
وإنما الخلاف فيما إذا ما زوَّجه بامرأة غير مناسبة، بأنْ كانتْ غيرَ كُفء، أو كانتْ غيرَ سليمة من العيوب، أو كانتْ بمهْر أكثر من مهر المِثْل.
فذهب فريقٌ من الفقهاء إلى أنَّ الوكالة وإن كانت مطلقةً، إلاَّ أنَّ هذا الإطلاق ليس مفتوحًا على مصراعيه، بل إنَّ الوكالة وإنْ صدرتْ مطلقةً في عبارتها، فإنها مقيَّدة ضمنًا بما يجري عليه العُرْف، فقد تعارف الناسُ على أنَّ مَن يستعين بغيره في الزواج إنَّما يفعل ذلك من أجْل أن يساعده في اختيار الزوجة المناسِبة، فما بالك بالوكيل الذي يوجِب عليه العُرفُ أن يختار الزوجةَ المناسبة للموكِّل مِن جميع الوجوه، فإن لم تكن كذلك فلا أقلَّ مِن أن يُعتبر العقْد موقوفًا على إجازة الموكِّل، خاصَّة إذا كانتِ المرأة غيرَ سليمة من العيوب، أو غير متكافِئة مع الزَّوْج.
ولقد قرَّر أصحابُ هذا الرأي أنَّ العقد لا ينفذ؛ أي: يُعتبر موقوفًا على إجازة الموكِّل، خاصَّة إذا كانت المرأة غيرَ سليمة من العيوب، أو غير متكافِئة مع الزَّوْج، ولقد قرَّر أصحاب هذا الرأي أنَّ العقد لا ينفذ - أي يعتبر موقوفًا - فيما لو زاد المهرُ زيادةً فاحشة عن مهْر المِثل.
ويذهب فريقٌ آخرُ إلى أنَّ الوكالة طالما أنَّها مطلقة، فإنَّ عقْد الزواج ينفذ، حتى ولو كانتِ المرأة غيرَ مناسبة، سواء من حيثُ الكفاءةُ أو المهر، أو السلامة من العيوب، فقد وكَّله في أن يزوِّجه، وقد زوَّجه، فلا اعتراض عليه.
غير أنَّ أصحاب هذا الرأي يُفرِّقون بيْن المرأة والرجل في هذه الحالة: فإذا كان التوكيل صادرًا مِن رجل كان الحُكم كما ذكرنا، وأما إذا كان التوكيل مِنَ امرأة، بأنْ قالت له: وكلتُك في تزويجي، وسكتت دون أن تذكُرَ اسم رجل بعينه، أو أسرة، أو مركزًا أو مهرًا، فزوَّجها من رجل غيرِ كفء لها، فإنَّ عقْد الزواج هذا يعتبر عقدًا موقوفًا على إجازة المرأة.
والذي نراه: أنَّ الرأي الراجح هو الرأي الأوَّل، فالمفروض فيمن يوكِّل شخصًا ليزوجه أنَّه يضع فيه كلَّ ثقته، من المعقول أن تكون الثِّقة في محلها، فيجب على الوكيل أن يعملَ بمقتضى هذه الثِّقة، فيختار لموكِّله الزَّوج المناسِب في جميع الأحوال.
وهذا مقتضى عقْد الوكالة القائم على الثِّقة التي وضَعَها الموكِّل فيه، وكان عمله جديرًا بالإلْغاء، وإذا كان مخطئًا غير متعمِّد، فإنَّ هذا الخطأ لا ينبغي أن يعودَ على الوكيل بخطَرٍ جسيمٍ دائم، يتمثل في اختيار زَوْج غيرِ مناسِب، قد يكون سببًا في شقاء مستمرٍّ، وهَمٍّ كبير، وعلى ذلك فلا أقلَّ من أن نعتبر العقْد في الحالتين متوقِّفًا على إجازة الموكِّل، فإنَّ أجازه نفذ، وتحمَّل مسؤوليةَ نفسه، وإن لم يُجزه بطَل، وصار عديمَ الأثر.
ويلاحظ: أنَّه في حالة الوكالة المطلقة لا يجوز للوكيل أن يزوِّجه ابنتَه، أو أخته، أو أيَّ فتاة في ولايته، ذلك أنَّ مِثل هذا التصرف ينطوي - حتمًا - على تُهْمة محاباة نفسه، أو قريباته[3]؛ إذ لو كانتْ له رغبة في ذلك لما تَردَّد في طلبه منه مباشرةً، أو إرسال مَن يطلب منه ذلك بالنِّيابة عنه في أوَّل الأمر.
الوكالة المقيَّدة:
الوكالة المقيَّدة هي تلك التي يُصدرِها الموكِّل، ويقيِّد فيها الوكيل بأن يزوِّجه مِن فتاة معيَّنة، أو يذكر له أوصافًا خاصة فيمَن يرغب في الزواج منها، أو يحدِّد أُسرةً بعينها يختار الوكيل إحدى بناتها، أو يحدِّد مقدارًا من المهر لا يجوز له أن يَزيد عليه، وهكذا.
فالرجل الذي يوكِّل غيرَه في أن يزوِّجه بفلانة بنت فلان، بمهر قدرُه كذا، يتعيَّن على الوكيل أن يلتزمَ في إبرام عقْد الزواج بما ذَكرَه الموكل، فإذا الْتزم هذه القيود، بأن زوَّجه نفس الفتاة التي ذَكَرها، وبنفس المهر الذي حدَّده، كان العقد صحيحًا نافذًا.
أما إذا خالف الوكيلُ تعليماتِ الموكِّل، بأنْ زوَّجه غير الفتاة التي ذكرها ولو بأختها، أو زوَّجه نفس الفتاه، ولكن بمهر أزيدَ عن المقدار الذي حدَّده الموكل، فإنَّ هذا العقد يكون موقوفًا على إجازة الموكل؛ بمعنى: أنَّ العقد لا يبطل، ولكن يُعرَض على الموكِّل، فإن قَبِله نفذ، وإن لم يقبلْه بَطَل؛ ذلك أنَّ الوكيل إذا ما جاوز حدودَ الوكالة، صار فضوليًّا، وأخذتْ تصرُّفاتُه حُكمَ تصرفات الفضولي[4].
وغنيٌّ عن البيان: أنَّه لو وكَّله في أن يزوِّجه بمهر قدرُه كذا، فأبرم العقد على أقلَّ من ذلك، كان العقد صحيحًا بلا جدال، فإن زاد الموكِّل مقدارَ المهر إلى الحدِّ المتَّفق عليه، فهذا من شأنه، وأما مخالفة الوكيل للموكِّل في هذه الحالة فإنَّها غير مؤثِّرة؛ لأنَّها مخالفةٌ إلى ما فيه خيرٌ للموكل، بل إنَّه على التحقيق لا تُعتبر هذه الصورة مخالفة؛ لأنَّ تحديد مقدار معيَّن للمهر يُفسَّر على أنه أراد أن يذكُرَ الحدَّ الأقصى الذي يمكن أن يكون مهرًا، فإذا زوَّجه على مهر أقلَّ مِن هذا الحد، كان العقد صحيحًا؛ لأنَّ الوكيل لم يتجاوزْ حدودَ الوكالة - هذا كله إذا كان الموكِّل رجلاً.
أما إذا كان التوكيل صادرًا من المرأة، بأنْ وكَّلت شخصًا في أن يزوِّجها من رجل بعينه، بمهر محدَّد، فإنَّ العقد لا ينعقد إلاَّ إذا جاء العقد مطابقًا لِمَا ذكرتْه المرأة من قيود، فإن كان العقد كذلك، وتوافرتْ بقية الشروط والأركان الأخرى، فإنَّ عقْد الزواج يكون صحيحًا، أما إنْ خالف الوكيلُ شروطَ الوكالة، بأن زوَّجها مِن شخص غير الذي حددتْه، أو بمهر دون الذي ذكرتْه، فإنَّ عقد الزواج هذا يكون موقوفًا على إجازة المرأة - هي أو وليها حسب الأحوال - فإنْ قبلت صحَّ العقد، وإلا أصبح العقد باطلاً.
على أنَّها لو ذكرتْ مهرًا محدَّدًا - وليكن ألفًا مثلاً - فزوَّجها على مهْر قدرُه ألْفان، فإنَّ هذا العقد يعتبر صحيحًا؛ لأنَّ المخالفة ظاهريَّة، وهي مخالفة إلى ما فيه خيرٌ للمرأة، بل إنها على التحقيق ليستْ مخالفة - كما أشرْنا - فما ذكرتْه المرأة من قيْد بالنسبة للمهر على أساس أنَّه الحدُّ الأدْنى الذي لا يجوز للوكيل أن ينزلَ عنه، فإذا ما زاد عن هذا الحدِّ كان تصرُّفه في حدود الوكالة، فلا تستطيع المرأة فسخَ العقد بناءً على ذلك، على أنَّها لو رغبتْ في إنقاص المهْر إلى ألْف، فهذا شأنها.
أثر الوكالة في عقْد الزواج
يُعتبر الوكيلُ في عقد الزواج مجرَّدَ معبِّر عن إرادة الطَّرَف الذي أعطاه التوكيل، فهو ينقُل الإيجاب أو القَبول إلى الطَّرَف الآخر، وعندَ تلاقيهما وتوافُر الأرْكان والشروط الأخرى، يتمُّ انعقاد الزواج، وتنصرِف آثارُ العقد إلى كلٍّ من الزوجَيْن.
فإذا كان وكيلاً عن الزَّوْج فلا يطالب الوكيل بالمهر؛ لأنَّ المهر أثرٌ من آثار عقْد الزواج، تطلبه الزوجة أو وليُّها من الزوج، وليس من الوكيل، نعم هناك حالة يطالب فيها الوكيلُ بالمهر، وهي ما إذا كان كفيلاً عن الزَّوْج، فإنَّه يطالب بالمهر بناءً على عقْد الكفالة، لا على عقد الوكالة.
وكذلك القولُ بالنسبة لوكيل الزوْجة، حيث تقتصر مهمتُه على نقْل العبارة الدالَّة على رضاها بالزواج، فإذا ما تمَّ انعقاده انتهتْ مسؤوليته، وأصبح على الزَّوْجة نفسِها أن تقومَ بأداء واجباتها الزوجيَّة، وعلى الزَّوْج أن يطالبها أو وليَّها بالعمل على تنفيذ آثار عقْد الزواج، بل إنَّ وكيل الزَّوْجة لا يستطيع أن يقبضَ مهرها إلا بتوكيل آخَرَ، سواء كان هذا التوكيل صريحًا، كأنْ تقول له: وكلتُك في قبْض مهري، أو في استلامه، أو كان ضِمنيًّا، كما إذا جَرَى العرف على أنَّ وكيل المرأة يقبض مهرَها.
المبحث السادس
في الكفاءة بين الزوجين
1- معنى الكفاءة.
2- الجانب الذي تُراعَى الكفاءة فيه.
3- الأوصاف المعتبَرة في الكفاءة.
4- موقِف الفقهاء مِن هذه الأوصاف.
5- رأيُنا في هذا الموضوع.
6- وقت النظر إلى الكفاءة.
الكفاءة في لغة العرب تعني المماثلةَ والمساواة[5]، وهي في اصطلاح الفُقهاء: المساواة بيْن الزَّوْجين في أمور معيَّنة، يترتَّب على مراعاتها التقارُب بيْن الأُسرتين، والتوافُق بيْن الزوجين، الأمر الذي يؤدِّي إلى سعادة الزوجين، واستقرار الحياة الزوجيَّة بينهما.
الجانب الذي تراعي الكفاءة فيه:
تكلَّم الفقهاءُ عن الكفاءة، ولكن هل هي حقٌّ للزوجة؟ أم هي حقٌّ للزوج؟ وما هي الآثارُ التي تترتَّب على اعتبار هذا الحقِّ له أو لها؟ للإجابة على ذلك نقول:
الأصل أنَّ الكفاءةَ حقٌّ للزوجة ولأوليائها؛ بمعنى: أنَّ القائلين باشتراط الكفاءة مِن الفقهاء وَضَعوا في اعتبارهم مصلحةَ الزوجة وأوليائها؛ ذلك أنَّ القوامة ثابتةٌ للزوج شرعًا، كما أنَّ العِصمة بيده.
وقد جَرَى العُرْف على أنَّ العار يلحق الزوْجة وأولياءها إذا تزوَّجتْ من غير كفء لها، وأما الرجل فقد لا يلحَقُه شيءٌ من العار، ولو فُرِض وتعيَّر بزوجته، فإنَّه يستطيع أن يقوِّمَها، ويرفع من شأنها، فإن تعذَّر إصلاحها فإنَّه يستطيع أن يتخلَّص منها باستعمال رُخْصة الطلاق في حدودها الشرعيَّة، وهذا كله بعكس المرأة حينما يكون الرجلُ أقلَّ منزلةً منها، فتلحقها المعرَّة، ولا يمكنها إصلاحُ أمره، ولا الفَكاك منه، فهو صاحب القوامة، وبيده العصمة؛ لهذا كلِّه كانتِ الكفاءة حقًّا للمرأة وأوليائها[6].
ويترتَّب على ذلك: أنَّه يُشترط في الرجل أن يكون كُفئًا للمرأة، فإن أبرم عقْد زواجها من غير كفْء كان لها أو لوليِّها حق الاعتراض على هذا العقْد، ويُفسخ الزواج بسبب عدم الكفاءة - كما بينَّا ذلك عندَ الكلام عن شروط صحَّة الزواج.
الأوصاف المعتبرة في الكفاءة
اعتاد الناسُ قديمًا وحديثًا أن ينظروا إلى أوصاف معيَّنة، ويشترطون توافُرَها فيمَن يتقدَّم لإحدى فتياتهم، والناس في هذا مختلفون؛ تبعًا لاختلاف طبائعهم وأهوائهم: فمِنهم مَن ينظر إلى عراقة الأصل وشَرف النَّسب، ومنهم مَن لا ينظر إلاَّ إلى المال والثَّراء، ومنهم مَن يستهويه المركزُ الدنيوي... إلى غير ذلك من الأوصاف التي يجعلونها الأساسَ في قَبول الخطيب أو رفْضه، وقليلٌ مَن ينظر إلى التقوى وحُسْن الخُلق، بل هُم في هذا الزمن أقلُّ من القليل.
ولقد تكلَّم فقهاءُ الشريعة إجمالاً عن سبعة أوصاف، هي: التديُّن والنسب، والحرية والإسلام، والمال واليسار، والحِرْفة.
1- التديُّن: التديُّن هو تمسُّك الشخص بتعاليم الدِّين، وعلى قدْر هذا التمسُّك يكون نصيبُ المسلِم من التقوى، التي هي أساسُ التفاضل بيْن الناس عندَ الله - عزَّ وجلَّ.
2- النَّسَب: يُقصَد بالنَّسَب انتماءُ الشخص إلى عائلة لها أصلٌ معلوم، وعلى الرَّغْم ممَّا قاله الفقهاء في هذا الشأن، فإنَّ هذا الوصف ينبغي عدمُ الاعتماد عليه أساسًا، بل إنَّ الإسلام الحنيف قد ألْغى اعتبارَه تمامًا؛ فقد قال الله - تعالى -: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13]، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ليس لعربيٍّ فضْلٌ على عجميٍّ إلاَّ بالتقوى)).
3- الحرية: وأمَّا الحرية فقدِ انتهى مجالُ البحْث فيها، حيث كان الكلام عنه زمنَ الرِّقِّ الذي انتهى وقتُه، ومضتْ أيَّامه، فلا مجالَ هنا للكلام عن هذا الوصْف.
4- الإسلام: حرَّم الله - تعالى - على المسلِم أن يتزوَّج المشرِكة أو الملحِدة، ولكنَّه أباح للمسلِم أن يتزوَّج الكتابية، ومن ناحية أخرى حرَّم الله على المسلِمة أن تتزوَّج بغير المسلِم أيًّا كانتْ ديانته.
5- المال: يُقصَد بالمال في هذا الصَّدد: مدَى قُدْرة الرجل على أعباء الزواج، من حيثُ دفْع المهر والإنفاق على الزَّوْجة فيما بعد، والفقهاء الذين ذَكَروا هذا الوصفَ قالوا: إنَّ القدْر المطلوب هنا هو قُدرتُه على أعباء الزَّواج في الحدود المعتادة، فإذا كان قادرًا على دفْع مهر المِثْل، وعلى الإنفاق على زوجتِه بقدر حالته فهو كُفء، بغضِّ النظر عن حالتها الماليَّة هي وأسرتها.
6- اليسار: أما اليسار فيُقصد به ثروةُ الشخص وغِناه، ومدى قُدرته على العَيْش في يُسْر وسَعَة، فإذا كانتِ الفتاة تعيش في بحبوحة الحياة؛ ليُسرِ والدها وغِناه، أو لكثرة مالها وسَعة أحوالها، فإنَّه مِن الطبيعي أن يُقال: إنَّ الرجل الكفء لها هو مَن لديه مِن الثروة والأموال ما يُمكنه أن يُنفِق عليها بمِثْل ما كان ينفق أبوها، أو بمثل ما كانتْ تُنفِق هي مِن قبلُ، بحيث لا تشعر بالفارق بيْن حياتها مع زَوْجها وبيْن حياتها السابقة.
7- الحِرْفة: ويُقصَد بها العملُ الذي يقوم به الزَّوْج، وهو ما يعبر عنه أحيانًا بالمركز أو الوظيفة، فإذا كانتْ وظيفة الرجل تماثِل أو تقترب مِن وظيفة أبيها، فإنه يكون كفئًا لها مِن هذه الوجهة.
تلك هي الأوصاف التي تكلَّم عنها الفقهاءُ بصِفة عامَّة.
وقد اعتمدَ فقهاء المذهب الحنفي الكفاءةَ في سِتَّة أمور، هي: النسب والإسلام، والحرية والحرفة، والمال والديانة.
ويقترب الإمام الشافعيُّ - رحمه الله تعالى - مِن هذا المذهب، حيث جعل الكفاءةَ في خمسة أمور، هي: الدين والنسب، والحرفة واليسار، والحرية[7]، وهي رواية عن أحمد - رحمه الله تعالى.
وقد اكتفى الإمام مالك - رحمه الله تعالى - بوصْفٍ واحدٍ هو التديُّن، وهو مروي عن الشافعية أيضًا، بأنه الوصف الأساسي الذي جعَلَه الشارع الحكيم مناطَ التفضيل، وذلك في قوله - تعالى -: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13]، وقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ إلا بالتقْوى)).
وأمَّا الحنابلة: فقد اختلفتِ الروايات عندهم، فبعض الروايات توافِق رأيَ مالك في اعتماد التديُّن، وبعض الروايات تُضيف إلى التدين أوصافًا أخرى - كما أشرنا.
ويبدو مِن عبارة ابن حزم أنَّ الظاهرية لا يكادون يعترفون بالكفاءة[8]، وقد نَقَل عن بعض الفقهاء صراحةً عدم اشتراط الكفاءة على الإطلاق[9].
رأينا في هذا الموضوع:
والذي نراه - والله أعلم - أن التديُّن هو الأساس في اعتبار الكفاءة، ذلك أنَّ الله - تعالى - جعل التقوى أساسًا للتفاضل بين العباد، وقد بيَّن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما نصَّ عليه القرآن الكريم في أحاديثَ كثيرة، أشرْنا إلى بعضها منذ قليل، وأشرْنا إلى بعضها الآخر عندَ كلامنا على أساس الاختيار في الزواج.
واتِّساقًا مع ما تقدَّم لا بدَّ أن يكون التديُّنُ الذي يراد منه تقوى الله ومخافته، وتمسُّك العبد بتعاليم الدِّين الإسلامي الحنيف هو الأساسَ في الكفاءة.
ونَزيد على ما تقدَّم بعض النصوص التي منها: ما رواه الترمذيُّ عن ابن عمر: أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - خطب بمكة، فقال: ((يا أيها الناس، إنَّ الله قد أذهب عنكم عيبةَ الجاهلية، وتَعظُّمها بآبائها، فالناس رجلان: رجل بَرٌّ تقيٌّ، كريم على الله، ورجل فاجِر شقيٌّ، هيِّن على الله، والناس بنو آدم، وخَلَق الله آدم مِن تراب، قال الله - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: 13])).
وقد خَطَب رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بمنًى وهو في وسط أيَّام التشريق، فقال: ((يا أيها الناس، ألاَ إنَّ ربَّكم واحد، وإنَّ أباكم واحد، ألاَ لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا عجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأسودَ على أحمرَ، ولا لأحمرَ على أسودَ، إلا بالتَّقْوى، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: ليبلغ الشاهد الغائب)) [10].
والإسلامُ يَدخل في وصْف التديُّن على هذا المعنى المتقدِّم دخولاً ضروريًّا لا شك فيه.
أما الحرية، فقدِ انتهى مجال البحث فيها بانتهاء الرِّقِّ - كما بيَّنَّا.
وقد أشرْنا كذلك إلى أنَّ الإسلام قد ألْغى اعتبار الأنساب والتفاخر بها، وقد أيَّدْنا هذا المعنى بأحاديثَ كثيرة ذكرْناها أكثرَ من مرة، ونوجز القولَ هنا بالإشارة إلى ما روي عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: ((كلُّكم بنو آدم، وآدم مِن تراب، ولينتهنَّ قومٌ يفخرون بآبائهم، أو ليكونُنَّ أهونَ على الله من الجعْلان))[11].
وأما المال واليَسار، فهما في النهاية وصْف واحد، ولا عِبرةَ بهما في ميزان الله - تعالى - كما أكَّدتْ ذلك الأحاديثُ الشريفة التي أشرْنا إليها.
غير أنَّ الحياة الزوجيَّة لها أعباؤها، وعقْد الزواج ليس عقدًا يبرم وتنتهي آثاره بعدَ انعقاده، وإنَّما هو عقْد الحياة - كما سبق البيان - ولقد أكَّد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - على هذا المعنى حينما قال: ((يا معشرَ الشباب، مَن استطاع الباءة منكم فليتزوَّج))، والباءة: هي أعباء الزواج - كما تقدم.
ونظرًا لهذا؛ فإنِّي أرى - والله أعلم -: أنَّه يتعيَّن النظر إلى المال والثراء، لا على أساس أنَّه الدافع للزواج، فالدافع الأساسي هو الدِّين وحُسْن الخُلُق؛ ولكن لضمان استقرار الحياة بيْن الزوجين واستمرارها، وهذا - كما قلنا - بالنظر إلى المرأة، فالتي نشأتْ في بحبوحة مِن العيش، وفي تَرَف من الحياة، كيف يمكن أن تعيشَ مع البائس الفقير، أو الذي لا يملِك إلا ما يسدُّ الرمق، أو لا يعيش إلا عيشةَ الكفاف؟!
إنَّ التسرُّع في مِثْل هذه الأمور يؤدِّي إلى نتائجَ عكسيَّة، يترتب عليها شقاءُ الزوجين أو انفصالهما؛ لعدم الْتئام الحياة بينهما، ومع هذا كلِّه، فإنَّ ما قدمْناه هو حقٌّ للمرأة، ولأوليائها؛ ضمانًا لحياتها مع زوْجها في المستقبل، فإنْ تنازلتْ هي ووليُّها عن هذا الحق، فذلك شأنهما، والزواج صحيح بلا ريب[12].
وقت النظر إلى الكفاءة:
يُنظر إلى الكفاءة بهذا المعنى وقتَ إنشاء العقْد، ويَنبغي أن يكونَ ذلك وقتَ الاختيار، فإذا كان عندَ نشأة العقْد تقيًّا صالحًا فهو كفءٌ في هذا المعنى، والعقد صحيح مِن هذا الوجه، فإذا ما تغيَّرت أحوالُه بعدَ الزواج، فلا يجوز النظرُ إلى الكفاءة مطلقًا؛ لأنَّه وقتَ إبرام العقد كان كفئًا، فلا يجوز للمرأة ولا لأحدٍ من أوليائها النظرُ إلى الكفاءة بعدَ إبرام العقد، طالما كانتِ الكفاءة متوافرةً عندَ الانعقاد.
المبحث السابع
في الشروط المقترنة بعقد الزواج
1- حقيقة هذه الشروط.
2- أهميتها.
3- حُكمها.
سَبَق أن تكلَّمْنا عن شروط انعقاد الزواج، وشروط صحَّته ونفاذه ولزومه، وهي شروطٌ مرتبطة بجَوْهر العقْد، فبدون شروط الانعقاد لا يوجد العقدُ ولا يكون، وبدون شروط الصِّحَّة يعتبر عقدُ الزواج باطلاً أو فاسدًا على النحو السابق بيانُه، وهكذا.
أمَّا الشُّروط المقترِنة بعقْد الزواج، فهي شروطٌ مصاحِبة لهذا العقْد بعد أن نشأ صحيحًا مستكملاً سائرَ الأوصاف المطلوبة، وبعبارة أخرى فإنَّ الشُّروط المقترِنة بعقْد الزواج ليستْ مرتبطةً بجوهر العقْد، وإنما هي شروط أضافَها الزوجان أو أحدهما تحقيقًا لمصلحة يريدها.
فمثلاً لو أنَّ الزوج اشترط أن تلتزمَ الزوجة بالسَّفر معه إلى مكان عمله، فإنَّ هذا الشرط مقترنٌ بعقد الزواج؛ لأنَّ العقد يتمُّ بدونه، فهو قد تم صحيحًا، ولكن الزوج أضاف هذا الشرطَ بعدَ أن استوفى العقْد شروطه وأركانه.
فالشروط المقترِنة بعقد الزواج هي شروطٌ لا صلةَ لها بجوهر العقد، وإنما هي شروطٌ يُضيفها الزوجان أو أحدهما؛ تحقيقًا لمصلحة خاصة.
أهمية هذه الشروط:
والشروط المقترِنة بالعقد لها عملية ظاهرة، حيث يتساءل الناس كثيرًا عن حُكم الشروط التي يشترطونها في عقود الزَّواج، مثل عدم سَفَر الزَّوْجة مع زوجها إلى مقرِّ عمله، أو مثل شرط أن تُكمل تعليمَها، أو تستقيل مِن عملها، إلى غير ذلك من الشروط التي اعتاد الناسُ اشتراطها، وهم يريدون معرفةَ الحُكم الشرعي لها؛ أي: هل يجبُ الوفاء بها أو لا يجب، وما أثرُ هذه الشروط على عقْد الزواج؟
حكم الشروط المقترنة بالعقد:
يقسِّم الفقهاءُ الشروطَ المقترنة بالعقد إلى قسمين: شروط صحيحة يجب الوفاء بها، وشروط غير صحيحة لا يجب الوفاء بها، وهذا التقسيمُ لا يكاد يكون محلاًّ لخلاف، ولكنَّهم اختلفوا حولَ مدلول هذا التقسيم، فالكلُّ يقول باحترام الشَّرْط الصحيح، ولكن الاختلاف في تحديد المقصود من الشَّرْط الصحيح، ومثل ذلك يُقال في النَّوْع الآخَر مِن هذه الشروط.
ونستطيع أن نلخِّص اتجاهاتِ الفقهاء في هذا الشأن إلى اتجاهين أساسيين: الأوَّل يمثِّله فقهاء المذهب الحنفي، والثاني يمثِّله فقهاءُ المذهب الحنبلي.
أولاً - مذهب الحنفية:
الشَّرْط الصحيح عندَ الحنفية هو ما كان موافقًا لمقتضى العقد، أو جاء به الشرع، أو جرَى به العُرْف.
فالشَّرْط الموافِق لمقتضى العقْد: إما أن يكون موجبًا لحُكم مِن أحكام العقْد، ومثاله: أن تشترطَ الزَّوْجة على زوجها أن يُنفقَ عليها، أو أن يدفعَ لها مهرَ مِثْلها، أو أن يُحسنَ عِشْرتها، فهذا الشرْط من مقتضيات العقْد؛ أي: إنَّ العقد بذاته يوجِب على الزوج الإنفاقَ، ودفْع المهر، وحُسْن العِشرة، دون ما حاجة إلى اشتراط شيءٍ من ذلك.
وإمَّا أن يكونَ الشَّرْط الموافِق لمقتضى العقْد مؤكِّدًا لحُكم يقتضيه العقْد، ومثاله: أن تشترط الزَّوجة أو وليُّها أن يكون والدُ الزوج هو الكفيلَ بتنفيذ الأحكام المالية للعقْد، بأن يضمنَ المهر والنَّفقة، فالعقد - كما قلنا - يقتضي وجوبَ ذلك على الزَّوْج، ولكنَّ الشَّرْط أضاف أمرًا آخر هو تأكيد هذا الواجب، بحيث يكون والدُ الزوج ضامنًا له في الْتزاماته المالية.
ومثال الشَّرْط الذي جرَى به العُرْف أن تَشترطَ الزَّوْجةُ أو وليُّها دفْعَ المهر كاملاً قبلَ الدخول، أو تأجيل جزءٍ منه إلى أجَل معلوم.
فهذه الأنواع كلُّها من الشروط الصحيحة، ويجب الوفاءُ بها.
أما الشرْط غير الصحيح عندَ الحنفية، فهو ما كان غيرَ موافق لمقتضى العقْد، ولا مؤكِّدًا لمقتضاه، ولم يرد به شَرْع، ولم يَجرِ به عُرْف، وذلك مثل أن تشترطَ الزوجة ألاَّ يتزوَّجَ عليها، أو ألاَّ ينقُلَها إلى مكان بعيد عن موطِن والديها، أو غير ذلك من الشُّروط المشابهة.
وحُكم هذه الشُّروط عندَ الحنفية: أنَّها شروطٌ فاسِدة، لا يجب الوفاءُ بها، ولكنَّها مع فسادها لا تؤثِّر في عقد الزواج الذي نشأ صحيحًا، فالشَّرْط الفاسد المقترن بالعقْد يلغى، ، ومع ذلك يظلُّ عقد الزواج صحيحًا.
ثانيًا: مذهب الحنابلة:
أمَّا الحنابلة، فإنَّهم يتوسَّعون في معنى الشرط الصحيح، بل إنهم يقولون: إنَّ الأصل في الشروط أن تكون صحيحة، والاستثناء أن تكون غيرَ صحيحة؛ وذلك عملاً بقول رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((المسلمون عندَ شروطهم إلا شرطًا أحلَّ حرامًا، أو حرَّم حلالاً)).
وعلى ذلك فهُم يقولون: إنَّ الشرْط غير الصحيح هو ما كان مناقضًا لمقتضى العقْد، أو ورد به نهيٌ من الشارع.
وما عدا ذلك من الشروط فهي شروطٌ صحيحة.
فمِثال الشَّرْط المخل بمقتضى العقْد: اشتراط ألاَّ يُنجبَا أولادًا، فهو شرطٌ مناقِض لمقتضى عقْد الزواج، وبعبارةٍ أخرى: فإنَّه يخلُّ بالمقصود الأصلي من العقْد؛ ولذلك فهو شرْط غير صحيح.
ومثال الشرْط الذي ورد النهي عنه: اشتراطُ عدم التوارث، في حين أنَّ الشارع الحكيم أوجبَ التوارث بيْن الزوجَيْن المسلمين، أو اشتراط التوارُث بيْن الزوجة الكتابيَّة وزوجها المسلِم، في حين أنَّ الشَّرْع الحنيف منَع التوارث عندَ اختلاف الدِّين.
وحُكم هذا الشَّرْط أنَّه شرْط باطلٌ أو شرْط غير صحيح، وإذ هو كذلك فلا يجبُ الوفاء به مطلقًا، حيث يجب إلغاؤه وعدمُ الالْتفات إليه، بل إنَّه لا يؤثِّر على العقْد؛ بمعنى: أن الشرْط يلغى، ويظل عقدُ الزواج صحيحًا باستثناء حالةٍ واحدة، وهي ما إذا كان مِن شأن الشرْط غير الصحيح أن يدخل التأقيتُ على عقْد الزواج، وذلك مثل أن يتزوَّجها ويشترط أن يطلِّقَها بعدَ فترة معيَّنة، فهذا شرْط باطل، ويسري بُطلانه إلى عقد الزواج فيُبطله؛ لأنَّه يجعله في معنى الزواج المؤقَّت، وهو زواج باطِل - كما سبق تفصيلُ ذلك.
وفيما عدَا هاتين الحالتَين فإنَّ ما يشترطه الناس يُعتبر من الشروط الصحيحة، مثل اشتراط ألاَّ تسافر معه، أو ألاَّ يتزوَّج عليها، أو غير ذلك مِن الشروط التي لا تخلُّ بمقتضى العقْد، ولم يَرِد فيها نهيٌ من الشارع، فهي شروط كلها صحيحة، وهذا معنى توسُّعِ الحنابلة في الشروط الصحيحة.
والعمل الآن في مصر على المذهب الحنفي، ولكن مشروع قانون الأحوال الشخصية المرتَقب، استأنس بالمذهب الحنبلي حيث نصَّ في المادة "28" منه على ما يأتي: "إذا اشتُرط في عقْد الزواج شرْطٌ ينافي أصلَه بطَل العقد، وإذا اشتُرط فيه شرطٌ لا ينافي أصلَه ولا مقتضاه، وليس محرَّمًا شرعًا، صحَّ الشرْط، ووجب الوفاءُ به، وإذا أخلَّ به من شرط عليه كان لِمَن شرط له حقُّ الخيار، سواء أكان مِن جانب الزوجة، أم من جانب الزوج، والمحرَّم هو المتَّفق على تحريمه في المذاهب الأربعة، وإذا اشترط أحدُ الزوجين في الآخَرِ وصفًا معينًا فتبيَّن خلافُه، كان للمشترط طلبُ فسْخ الزواج".
المبحث الثامن
في الشروط القانونية
1- شروط إبرام العقْد.
2- توثيق العقْد.
3- أهميَّة التوثيق، ومدى شرعيَّته.
4- التوثيق على يدِ الموظَّف المختص.
5- سِن الزَّوْجين.
6- إقرار كتابي من الزَّوْج.
7- سماع دعوى الزوجيَّة.
تكلَّمْنا في المباحِث السابقة عن أرْكان الزواج وشروطه كما ذكرها فقهاء الشريعة؛ أخذًا من كتاب الله وسُنَّة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
ونُضيف هنا بعضَ شروط جاء بها القانونُ المصري؛ تحقيقًا للمصلحة العامَّة، وهو أمرٌ قد يكون سائغًا إذا كان في إطار الأصول الشرعيَّة؛ لأنَّ الله - تبارك وتعالى - أنزل أحكامَ الشريعة تحقيقًا لمصالح العباد.
وقد تطلَّب القانون المصري هذه الشروط، وأوجب مراعاتها عندَ إبرام عقْد الزواج، وعندَ سماع دعوى الزوجيَّة.
أولاً: شروط إبرام العقد:
اشترط القانون المصريُّ حتى يمكنَ الاعتراف بعقْد الزواج قانونًا: أن يتمَّ توثيقُه في ورقة رسمية، وأن يكون هذا التوثيق على يدِ الموظَّف المختص بذلك، وألاَّ يقل عمرُ الزوجين عن سِنٍّ معيَّنة، وإن يقدِّم الزوج إقرارًا عن حالته الاجتماعية.
1- توثيق عقد الزواج:
لم تتطلَّب القواعد الشرعيَّة - صراحة - توثيقَ عقد الزواج لا في ورقة رسمية، ولا في ورقة عُرفيَّة، بل ولم يذكر هذا الشرط أحدٌ من فقهاء الشريعة السابقين، وعلى ذلك فقبل صدور القوانين واللوائح الموجِبة للتوثيق، كانت عقود الزواج يتمُّ إبرامُها بمجرَّد صدور صِيغة عقْد الزواج بعنصريه، مع توافر سائر الشروط الأخرى التي بينَّاها فيما تقدَّم.
واختصارًا للقول: نُشير إلى أنَّ المرسوم بقانون رقم 78 لسنة 1931 نصَّ في الفِقرة الرابعة من المادة 99 منه على أنَّه: "لا تُسمع عندَ الإنكار دعوى الزوجيَّة أو الإقرار بها، إلا إذا كانتْ ثابتةً بوثيقة زواج رسميَّة في الحوادث الواقعة من أوَّل أغسطس سنة 1931"[13].
ومعنى ذلك: أنَّ القانون المصريَّ لا يعترف بالزواج غير الموثَّق في ورقة رسميَّة بعدَ هذا التاريخ.
وقد يتساءل البعض: إذا كانتِ النصوص الشرعية لم تتكلَّم عن التوثيق، كما أنَّ الفقهاء لم يذكروا شيئًا عنه، فهل يعتبر القانون المصريُّ مخالفًا للشريعة في هذا؟
الذي نراه - والله أعلم -: أنَّ القانون المصريَّ ابْتغى من شرْط التوثيق تحقيقَ المصلحة؛ ذلك أنَّ الناس حينما كانوا يلتزمون بأحكام الله، ويتمسَّكون بتعاليم دِينه، لم تكن ثَمَّة ضرورة تدعو إلى التوثيق، فالكلُّ يؤدِّي واجبَه، ويعترف بما له وبما عليه، ولكن عندَما ابتعد الناس عن تعاليمِ الإسلام، وانتشر الكَذِبُ والغِش والخِداع؛ أصبحتِ الضرورة داعيةً إلى تدوين عقود الزواج، وتوثيقها في ورقة رسمية؛ ضمانًا لحقوق الزوجة والأولاد، وحتى لا تكون هنالك ثغرةٌ يتلاعب مِن خلالها أولئك الذين لا خَلاقَ لهم ولا دِين ولا إيمان[14].
ومع ذلك فإنَّ القانون المصريَّ لم يقل ببطلان الزواج غيرِ الموثَّق، وإنما حرَم أطرافه من الحماية القانونيَّة، التي أضفاها على عقود الزواج الرسمية، حيث اكْتفى بعدم الاعتراف بالزواج غير الموثَّق أمامَ القضاء، ممَّا يستتبع عدمَ الاعتراف بأيِّ أثر من آثار هذا الزواج.
وهكذا يمكن القولُ بأنَّ القانون المصريَّ في هذا الموضوع جاء موافقًا لأحكام الشريعة التي جاءتْ لاحترام حقوقِ العباد، وحماية مصالحهم.
2- أن يتم التوثيق على يدِ الموظف المختص:
أوجب القانونُ المصريُّ أن يتمَّ توثيق عقد الزواج على يد الموظَّف المختص بذلك قانونًا، والموظف المختص بتوثيق عقود الزواج هو: المأذون بالنسبة لعقود الزواج التي يبرمها المصريُّون داخلَ البلاد، متى كان الزوجانِ مسلمَيْن، أما إذا كان الزوج مسلمًا والزوجة كتابيَّة، فإنَّ مكاتب التوثيق هي التي تقوم بإجراء العقْد وتوثيقه، وأما بالنسبة لعقود الزواج التي تبرم خارجَ البلاد، فإنَّ الموظف المختص بتوثيقها هو الممثِّل الدبلوماسي أو القُنصلي.
3- سِن الزوجين:
سَبَق أن تكلَّمْنا بالتفصيل عن هذا الشرْط، ورأينا أنَّ القانون المصريَّ يمنع مِن توثيق عقْد الزواج إذا كان الزوجانِ أو أحدهما يقلُّ سِنُّه عن تلك التي حدَّدها القانون، وهي بالنِّسبة للفتاة ستَّ عشرةَ سَنَة، وبالنسبة للفتى ثمان عشرةَ سَنَة [15].
4- أن يقدم الرجل إقرارًا كتابيًّا بحالته الاجتماعيَّة:
استحدث هذا الشرط القانون رقم 44 لسنة 1979، حيث أضافتِ المادة الأولى منه إلى المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1920 بعضَ المواد الجديدة، ومنها المادة "6 مكررًا"، وهذه المادة قد نصَّت صراحةً في فِقرتها الأولى على الشرط المذكور، حيث تقول: "على الزَّوْج أن يقدِّم للموثِّق إقرارًا كتابيًّا يتضمن حالته الاجتماعية، فإذا كان متزوِّجًا، فعليه أن يبيِّن في الإقرار اسمَ الزوجة أو الزوجات اللاتي في عِصْمته وقتَ العقد الجديد، ومحال إقامتهن، وعلى الموثِّق إخطارهن بالزواج الجديد بكِتاب موصى عليه".
وكما هو ظاهِر من النص أنَّ هذا الشرْط المستحدَث يحمل في طيَّاته شرطًا آخر، هو أنَّه إذا ظهَر من الإقرار الذي قدَّمه الزوج أنَّه لا يزال متزوِّجًا، فإنَّ على الموثِّق أن يُخطر الزوجة أو الزوجاتِ اللاتي في عصمة صاحِب الإقرار بالزواج الجديد، والإخطار يكون بكِتاب موصى عليه.
وعلى حدِّ ما قرَّره بعض العلماء المعاصرين[16]، فإنَّ هذا النص يعتبر من محاسنِ القانون رقم 44 لسنة 1979، على أساس أنَّه أوجب على الزَّوْجِ أن يقيِّد للموثق إقرارًا كتابيًّا يتضمن حالتَه الاجتماعيَّة، وبيان زوجاتِه إذا كان متزوِّجًا، ومحال إقامتهنَّ؛ ليتمكَّنَ الموثِّق من إخطارهن بالزواج، وهذا لا شيءَ فيه، ولا تمنعه مبادئُ الشريعة، حيث يقضي على مشكلة إخفاء الأزواج أمرَ زواجهم عن زوجاتهم، وما يترتَّب عليه من مضار" [17].
وإني وإنْ كنتُ أوافق على هذا الرأي، فالأصلُ فيمَن يريد أن يعمل عملاً مشروعًا أن يقدم عليه في وضوح وصراحة، غير أنَّني أُلاحظ أنَّ هذه الحَسَنة قد يكون لها أثرٌ جانبي، فكثيرًا ما تشعر المرأةُ أنَّ زوجها قد تزوَّج ثانيًا، وتحاول مع ذلٍّ أن تغض الطرف عن هذا الشعور، متظاهرةً أنَّها لم تشعرْ بشيء، محافظةً على علاقتها بزوْجها، مفضلةً التظاهر بعدم المعرفة؛ حفاظًا على كرامتها، في حين أنَّ إخطارها بكتاب موصى عليه يجعلها أمامَ الأمر الواقع، وقد يكون في ذلك مِن الإضرار ما فيه.
ثانيًا: عدم سماع دعوى الزوجية:
ينصُّ القانون المصريُّ على عدم سماع دعوى الزوجيَّة إذا كان عقْدُ الزواج غيرَ موثَّق في ورقة رسمية على يدِ الموظَّف المختص بذلك قانونًا، ونصَّ هذا القانون - أيضًا - على الحُكم نفسه إذا كان عُمر الزوجين أو أحدهما يقلُّ عن السِّنِّ التي حدَّدها القانون للزواج.
وتفصيل ذلك على النحو الآتي:
(أ) عدم سماع دعْوى الزوجيَّة بسبب عدم التوثيق:
يترتَّب على عدم توثيق عقْد الزواج بالشروط السابقة عدم سماع دعْوى الزوجيَّة، الأمر الذي يؤدِّي إلى حِرْمان أطراف هذا الزَّواج مِن اكتساب أيِّ حق من حقوقه الزوجيَّة، فالزوجة لا تستطيع أن ترفعَ دعوى إثبات زوجيتها، ولا دَعْوى بالنفقة ولا بالحضانة، بل إنَّ هذا الأثر السيِّئ يتعدَّى إلى الذُّريَّة، فالزواج غير الموثَّق لا يصلح أن يكون بمفرده سندًا لإثبات النَّسَب، فعلى الرغم من أنَّ المذكِّرة التفسيريَّة للمرسوم بقانون رقم 78 لسنة 1931 نصَّت في تعليقها على المادة 99/ 4 بقولها: "وظاهرٌ أنَّ هذا المنع - أي: المنع مِن سماع دعْوى الزوجية - لا تأثيرَ له شرعًا في دعاوى النسب، بل هذه باقية على حُكمها المقرَّر....".
على الرغم من ذلك، فإنَّنا نقول: إنَّ عدم توثيق عقْد الزواج بورقة رسمية يمنع مِن سماع دعْوى النَّسَب إذا كانتِ الزوجيَّة هي أساسَ هذه الدعوى، ذلك أنَّه "إذا كان أساس النَّسب هو فراش الزوجية، فإنَّ النسب لا يثبت إلاَّ إذا ثبتتِ الزوجيَّة، فالدَّعْوى في هذه الحالة تتضمن لا محالةَ دعوةَ الزوجية، فيجب أن يجري إثباتُها على ما سَنَّه القانون، وتتقيَّد بقيوده؛ إذ إنَّ نص القانون يشمل كلَّ دعاوى الزوجية، سواء أكانتْ في ضمن حقٍّ، أم لم تكن، بل إنَّ غالب دعاوى الزوجيَّة تكون ضمنَ حق آخر، كطلب المهر أو النفقة، أو الطاعة أو الميراث، أو النَّسَب.
وإذا كانتْ دعْوى النَّفقة بسبب الزوجيَّة ترفض إذا كانتِ الزوجية محلَّ إنكار، ولم تثبتها بوثيقة رسمية، فكذلك ترفض دعوى النَّسَب إذا كانت بسبب فراش الزوجيَّة فقط، وأنْكر الرجل الزوجيَّةَ، ولم تستطعِ المرأة إثباتَها بوثيقة رسمية.
إنَّ منطق القانون يُوجِب التسويةَ بيْن دعوى النفقة والطاعة، والمهر والميراث، بالزوجيَّة ودعْوى النَّسب إذا كان أساسُه الزواجَ الصحيح وحْده، كما هو الفِقه والقانون، أما إذا كان سببُ دعوى النَّسَب غير ذلك، فإنَّه تجري عليه وسائلُ الإثبات الشرعيَّة؛ إذ لا نصَّ يمنع"[18].
(ب) عدم سماع دعوى الزوجية بسبب صغر السن:
سَبَق أن ذكرْنا أكثر من مرَّة أنَّ دعْوى الزوجيَّة لا تسمع إذا كان سِنُّ الزوجين أو أحدهما دون السِّنِّ المحدَّدة للزواج قانونًا، وهي ثمان عشرة سَنَة للفتى، وست عشرة سَنَة للفتاة، وقُلْنا كذلك: إنَّ النظر إلى السِّنِّ إنما يكون وقتَ رفْع الدعوى، لا وقتَ إبرام العقْد.
فإذا كان السِّنُّ غيرَ مطابقة للقانون وقتَ إبرام العقْد، فذلك أمرٌ مخالِف للقانون بلا شك، وهو يستوجِب العقوبة المحدَّدة لذلك، ولكن إذا استمرَّ الزواج الذي أبرِم هكذا حتى بلغ الزوجانِ السِّنَّ القانونية، ورفعتِ الدَّعْوى، فلا بدَّ من قَبولها؛ لأنَّ العِبرة بسنِّ الزوجين، إنَّما هي بسنِّهما وقتَ رفْع الدعوى، بغضِّ النظر عنه وقتَ إبرام العقد.
ــــــــــــــــ
[1] مبادئ الفقه للمؤلِّف (ص: 335).
[2] الحاشية السابقة.
[3] إلاَّ إذا فهم من قرينة التوكيل أنَّه يريد أن يتزوَّج بإحدى قريباته، فمتى دلَّتِ القرينة القوية على هذا المعنى، فأعتقد أنه لا مانعَ مِن مِثْل هذا التصرُّف.
[4] مبادئ الفقه الإسلامي للمؤلف.
[5] ففي "المصباح المنير": "وكل شيء ساوى شيئًا حتى صار مثله، فهو مكافئ له، والمكافأة بين الناس، والمسلمون تتكافأ دماؤهم؛ أي: تتساوى في القصاص والدية"؛ "المصباح"، باب الكاف مع الفاء وما يثلثهما، "القاموس المحيط"، باب الهمزة فصل الكاف.
[6] قال بعض الفقهاء: إن الكفاءة تعتبر حقًّا للرجل في حالتين: الأولى: إذا كان عديم الأهلية أو ناقصها، وزوجه غير الأب والجد، الثانية: إذا أبرم عقد الزواج بناءً على وكالة مطلقة، وكانت المرأة غير متكافئة مع الرجل، فإنَّه يكون من حقِّ الموكل أن يفسخ عقدَ الزواج - في رأي بعض الفقهاء.
والواقع: أنَّ هاتين الحالتين ليستَا تطبيقًا لأحكام الكفاءة، وإنما هما من أحكام الولاية والوكالة، فالمفروض في الولي والوكيل أن يعملَ على مصلحة المولى عليه والموكل، والمصلحة هنا التزوُّج من المتكافئة.
[7] وقد أضاف وصفًا آخر هو السلامة من العيوب، وأضاف بعضُ متأخِّري الشافعية التقاربَ في السن بين الزوجين، فالشيخ الهرم لا يكون كفئًا للشابَّة الصغيرة.
[8] يقول ابن حزم: "وأهل الإسلام كلهم إخوة، لا يحرم ابن مِن زنجية نكاح ابنة الخليفة الهاشمي، والفاسق الذي بلغ الغاية من الفِسق - المسلم - ما لم يكن زانيًا كفؤ للمسلمة الفاضلة، وكذلك الفاضِل المسلم كفؤ للمسلمة الفاسقة ما لم تكن زانية، والذي نختاره نكاحَ الأقارب بعضهما لبعض، وقد اختلف الناس في هذا، فقال سفيان الثوري وابن جريج والحسن بن حي، وابن أبي ليلى، والمغيرة بن عبدالرحمن المخزومي صاحب مالك، وإسحاق بن راهويه: يُفسخ نكاح المولى للعربية، وقال أبو حنيفة: إن رضيت القرشية بالمولى، ووفاها صَداق مثلها، أمر الولي أن ينكحها ... قال أبو محمد: احتج المخالفون بآثار ساقطة.
والحجة قول الله - تعالى -: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات : 10]، وقوله - تعالى - مخاطبًا لجميع المسلمين ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ [النساء : 3]، وذكر - عز وجل - ما حرم علينا من النساء، ثم قال تعالى: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ [النساء : 24]، وقد أنكح رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - زينب أم المؤمنين زيدًا مولاه، وأنكح المقدادَ ضباعةَ بنت الزبير بن عبد المطلب.
وإنما تخيرنا نكاحَ الأقارب؛ لأنَّه فعل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم ينكح بناِته إلا مِن بني هاشم وبين عبد شمس، وقال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب : 21]، وبالله التوفيق.
وأما قولنا في الفاسق والفاسقة، فيلزم ممَّن خالفنا ألاَّ يجيز للفاسق أن ينكح إلا فاسقة، وأن لا يجيز للفاسقة أن ينكحَها إلا فاسق، وهذا لا يقوله أحد، وقد قال - تعالى -: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات : 10]، وقال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة : 71]"؛ "المحلى (10/ 24) طبعة سنة 1352هـ.
[9] وقد استدلَّ هؤلاء بالكتاب والسُّنة: أما الكتاب، فقوله - تعالى -: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾، وغير ذلك من الآيات الكثيرة.
وأما الُّسنة، فقد زوَّج النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - زينبَ إلى مولاه زيد بن حارثة، والسيدة زينب هي الحسيبة النَّسيبة، القرشية بنت عمَّته - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقد نصح - صلَّى الله عليه وسلَّم - السيدةَ فاطمة بنت قيس - وهي قرشية من بني فهر - أن تتزوَّج أسامة بن زيد بن حارثة، كما أمر - صلَّى الله عليه وسلَّم - بني بياضة أن يزوِّجوا مولاهم أبا هند، وقال - عليه الصلاة والسلام -: ((إنما هو امرؤ من المسلمين))، وتقدم بلال الحبشيُّ مولى أبي بكر الصديق إلى بني عوف من الأنصار، فرفضوا أن يزوِّجوه، فقال له رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: قل لهم: ((إنَّ رسول الله يأمركم أن تزوِّجوني))، فتزوج أخت عبدالرحمن بن عوف - رضي الله عنهم جميعًا.
[10] الأحاديث الثلاثة في تفسير القرطبي ص 6162.
[11] رواه أبو بكر البزار في مسنده من حديث أبي حذيفة.
و(الجِعلان) - بكسر الجيم -: جمع (جُعَل) بضم الجيم، وفتْح العين، وهو دابة سوداء من دواب الأرض، قيل هو أبو جعران؛ "لسان العرب" الجيم مع العين.
[12] وأما الرجل - فكما قلنا - لا مجالَ لمراعاة الكفاءة من جانبه، فلو كان ثريًّا تزوج بفقيرة لدِينها وتقواها، وحسن خلقها، فإن الله يبارك له، ويرفع من شأنه، وهو ما أشار إليه الله سبحانه: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [النور : 32].
[13] أما قبل ذلك فقد صدرتْ بعض لوائح في هذا الموضوع، ولكنها لم توجب التوثيقَ بلفظ صريح، فقبل سنة 1880م لم يكن هنالك من القواعد ما يُشير إلى التوثيق مطلقًا.
ولما صدرت سنة 1880م أولُ لائحة للمأذونين، اشتملتْ على اختبار المأذون وواجباته، دون أن تشير إلى وجوب التوثيق.
وفي سنة 1897م صدرتْ لائحة للمحاكم الشرعية نصَّت في المادة 31 منها على عدم سماع دعوى الزوجيَّة، أو الإقرار بها بعدَ وفاة أحد الزوجين إلا إذا كانتِ الدعوة مؤيَّدة بأوراق خالية من شبهة التصنُّع.
ثم في سنة 1910 صدرت لائحة جديدة، وقد خطت خطوة أخرى، حيث نصَّت المادة (101) منها على أنَّ دعوة الزَّوجة أو الإقرار بها - بعدَ وفاة الزَّوْجين أو أحدهما - لا تسمع من أحد الزوجين أو مِن غيرهما عندَ الإنكار في الحوادث الواقعة مِن سنة 1911م، إلاَّ إذا كانتِ الدعوى ثابتةً بأوراق رسميَّة، أو أوراق عرفية مكتوبة كلها بخطِّ المتوفى، وعليها توقيعه، واستمر الحال هكذا، حتى صدر المرسوم بقانون رقم 78 لسنة 1931، على النحو المبين في المتن.
[14] تقول المذكِّرة التفسيرية لهذا النص: "من القواعد الشرعية: أنَّ القرآن يتخصَّص بالزمان والمكان، والحوادث والأشخاص، وأن لولي الأمر أن يمنعَ قضاته من سماع بعض الدعاوى، وأن يقيِّد السماع بما يراه من القيود تبعًا لأحوال الزمان، وحاجة الناس، وصيانة الحقوق من العَبَث والضياع، وقد دَرَج الفقهاء من سالِف العصور على ذلك، وأقروا هذا المبدأ في أحكام كثيرة.
واشتملت لائحتَا سنة 1897 وسنة 1910 للمحاكم الشرعية على كثيرٍ من مواد التخصيص، وخاصة فيما يتعلَّق بدعاوى الزوجية والطلاق والإقرار بهما، وألِف الناس هذه القيود الواردة بهما، واطمأنوا إليها بعد تبيُّن ما لها من عظيم الأثَر في صيانة حقوق الأسرة، إلا أنَّ الحوادث قد دلَّت على أنَّ عقد الزواج، وهو أساس رابطة الأسرة لا يزال في حاجة إلى الصِّيانة والاحتياط في أمره، فقد ينفق اثنان على الزواج بدون وثيقة، ثم يجمِّدها أحدهما، ويعجز الآخر عن إثباته أمامَ القضاء.
وقد يدَّعي بعضُ ذوي الأغراض الزوجية زُورًا وبهتانًا، أو نكايةً وتشهيرًا؛ ابتغاءَ غرض آخر؛ اعتمادًا على سهولة إثباتها بالشهود ... وقد تُدعى الزوجيَّة بورقة عُرفية إن ثبتت مرَّة لا تثبت مرارًا ... ما كان لشيء من ذلك أن يقع لو أثبت هذا العقد في ورقة رسميَّة، كما في عقود الرهن، وهي أقلُّ منه شأنًا، وهو أعظم خطرًا.
فحملاً للناس على ذلك، وإظهارًا لشرف هذا العقد، وتقديسًا له عن الجحود والإنكار، ومنعًا لهذه المفاسد؛ زِيدتِ الفِقرة الرابعة من المادة 99 - وبذلك أصبحتْ دعاوى الزوجية أو الإقرار بها لا تُسمع عندَ الإنكار من أول أغسطس بدون وثيقة رسميَّة في حال حياة الزَّوْجين أو بعدَ الوفاة، ووثيقة الزواج الرسمية هي التي تصدر من موظَّف مختص بمقتضى وظيفتِه بإصدارها طبقًا للمادة 122، كالقاضي والمأذون في داخِل القُطر، وكالقُنصل في خارجه.
وظاهرٌ أنَّ هذا المنع لا تأثيرَ له شرعًا في دعاوى النَّسَب، بل هذه باقية على حُكمها المقرَّر، كما كانتْ باقية عليه رغمًا من التعديل الخاص بدعاوَى الزوجية في المادة 101 من اللائحة القديمة".
[15] تكلمْنا عن ذلك بالتفصيل أثناء كلامنا عن الولاية في الزواج، وبوجه خاصٍّ عندَ بحْث الولاية في تزويج الصغير ومَن في حُكمه.
[16] فضيلة الأستاذ الشيخ محمد مصطفى شلبي "ملحق لكتاب أحكام الأسرة في الإسلام" (ص: 27 - 28).
[17] المرجع السابق، الموضع نفسه.
[18] أبو زهرة، المرجع السابق (ص: 322 - 323).