المبحث الثاني : المدلول الجنائي للموظف العمومي :
لم تتبن أغلب التشريعات الجنائية المفهوم الإداري للموظف العمومي ، ذلك أن القانون الإداري يأخذ بمعايير ثابتة ومستقرة ، وهو بذلك يضيق من حلقة الموظفين العموميين عكس القانون الجنائي الذي يأخذ بتعريف واسع وشامل يتفق وسياسة التجريم .
وإذا كان كل من يعتبر موظفا عموميا في القانون الإداري هو كذلك في القانون الجنائي ، فإن بعض الأشخاص لا يعتبرون موظفين عموميين في القانون الإداري ، ولكن من وجهة نظر القانون الجنائي يعتبرون موظفين . فالنظرية الجنائية لتعريف الموظف تشمل الإدارية ، ولكن دون ان تقف عندها أي تتعداها ، ويمكن القول أنه لا يوجد تعريف موحد للموظف العمومي في الفقه والقانون الجنائي ، على أن جل التعاريف تكاد تتفق في ما بينها على بعض الخصائص الأساسية )25( .
وعلى هذا الأساس سوف نتطرق في مطلب أول إلى تحديد المفهوم الجنائي للموظف العمومي في الفقه والتشريع الجنائي المقارن ، وفي مطلب ثاني نعرض لهذا المفهوم في القانون الجنائي المغربي .
المطلب الأول : الموظف العمومي في الفقه والقانون الجنائي المقارنين
ذهب الفقه الجنائي الـفـرنـسي فـي بدايـة الأمـر إلـى قصر معنى كلمة"موظف عمومي" في جريمة الرشوة على كبار موظفي الإدارة ومن يملكون قسطا من السلطة العامة .
إلا أن الاجتهاد القضائي الفرنسي سرعان ما نبذ هذا التعريف الضيق ، بحيث وسع من مفهوم الموظف العمومي ، فاعتبر كل من يعمل في السلم الإداري ابتداء من الوزير حتى أدنى الموظفين درجة موظفا عموميا . ويعرفه الفقه المصري بأنه كل شخص يعمل في مواجهة الأفراد باسم الدولة أو أحد الأشخاص المعنوية العامة ويمارس إزاءهم في صورة طبيعية تستدعي ثقتهم أحد الاختصاصات التي خولها القانون لمرفق عمومي تديره الدولة أو الشخص المعنوي العام إدارة مباشرة .
وفي تعريف آخر يجمع الفقه بأن الموظف العمومي هو كل شخص من الأفراد احتاجت إليه الدولة في أداء واجباتها العامة وتنفيذ أوامرها ، فخولته جزءا من سلطتها العامة .
كما عرفه بعض الفقهاء المصريين كذلك بأنه كل شخص يمارس عملا من أعمال الحكومة مهما كان هذا العمل صغيرا أم كبيرا ، ومهما كانت صفة هذا الشخص أو العمل الذي يقوم به ، وسواء كان دائما أو مؤقتا ، ثبت فيه الموظف أم لم يثبت )26(.
وإذا تفحصنا النظم الاشتراكية ، فإننا نجد أن النظام السوفياتي سابقا لا يعرف قانونا أو نظاما عاما للوظيفة العمومية ، وأن النص الوحيد المتعلق بمفهوم الموظف ورد في المادة 17 من القانون الجنائي السوفياتي والتي تتعلق بالجرائم المرتكبة من طرف الموظفين فالمفهوم الذي تعطيه هذه المادة للموظف العمومي هو كل شخص يمارس بكيفية دائمة أو مؤقتة وظائف إدارية تنطوي على سلطة ، أو يمارس وظائف تنظيمية أو إدارية ، داخل مؤسسات الدولة ، أو الهيئات الاجتماعية ونلاحظ من خلال هذا التعريف أن المفهوم السوفياتي للموظف العام يتسم بالإبهام وعدم الوضوح ، فهو لا يقصر هذه الصفة على من يمارس وظائف إدارية تنطوي على سلطة بل يمده ليشمل كل من يمارس وظائف تأطيرية أو التنظيمية )27( .
وفي نفس الاتجاه ، فقد أكد "ماو تسي تونغ" (الصين الشعبية) على أن أطر الحزب والدولة إنما هم عمال عاديون ومن دون أن يكونوا مثل أسياد ينزلون بكل ثقلهم على الشعب )28( .
وقد عرفت المادة 216 من قانون العقوبات لجمهورية اليمن الديمقراطية الموظف العمومي بأنه : " كل من يعين في وزارات الحكومة أو مصالحها أو في الإدارة المحلية أو في القوات المسلحة ، ويعتبر موظفا عموميا في أحكام هذا القانون :
1- العاملون في الهيئات والمؤسسات العامة والشركات التابعة لها ومزارع الدولة والتعاونيات والمنظمات وسائر الهيئات الاجتماعية .
2- أعضاء المجالس والوحدات واللجان وغيره ممن لهم صفة تمثيلية عامة سواء كانوا منتخبين أو معينين " .
ونخلص إلى أنه يعتبر موظفا عموميا ، في الفقه والقانون الجنائي المقارنين ، كل شخص توفرت فيه الخصائص الآتية :
- أن يقدم الشخص خدماته لصالح الدولة أو أحد الأشخاص المعنوية التابعة لها .
- أن يمارس الاختصاصات التي خولها القانون للمرفق الذي يعمل فيه ، فإن كان يمارس اختصاصا لا علاقة له بالمرفق عد غير موظف .
وهناك من العناصر ما يستبعده الفقه ، بحيث لا يعتد به ، من ذلك مثلا أنه لا أهمية لكون الشخص يمارس عمله بصورة منتظمة ومستمرة ، ثبت فيه أم لم يثبت ، تقاضى عنه أجراء أم لا )29(.
المطلب الثاني : الموظف العمومي في القانون الجنائي المغربي :
لم يأخذ المشرع الجنائي المغربي بالمفهوم الضيق الذي جاءت به المادة الثانية من قانون الوظيفة العمومية ، حيث أقر مفهوما واسعا لفكرة الموظف العمومي . وهكذا فقد نص الفصل 224 من القانون الجنائي المغربي على أنه : " يعد موظفا عموميا في تطبيق أحكام التشريع الجنائي كل شخص كيفما كانت صفته يعهد إليه في حدود معينة بمباشرة وظيفة أو مهمة ولو مؤقتة بأجر أو بدون أجر ويساهم بذلك في خدمة الدولة أو المصالح العمومية أو الهيئات البلدية أو المؤسسات العمومية أو مصلحة ذات نفع عام .
وتراعى صفة الموظف في وقت ارتكاب الجريمة ، ومع ذلك فإن هذه الصفة تعتبر باقية له بعد انتهاء خدمته ، إذا كانت هي التي سهلت له ارتكاب الجريمة أو مكنته من تنفيذها " .
ونلاحظ من خلال هذا التعريف الجد موسع ، بأن صفة موظف عمومي يمكن أن ننعت بها كل من يمارس عملا تابعا في المؤسسات الخاصة أو التي من الممكن تكييف نشاطها بأنه نشاط ذو نفع عام ، على الرغم من خضوعها سواء من حيث النشاط الذي تقوم به أو من حيث علاقتها بمستخدميها لأحكام القانون الخاص لا القانون العام ، بالإضافة طبعا إلى عامة الموظفين والمستخدمين في مختلف أجهزة الدولة وفي المؤسسات العمومية وفي الشركات التي تقدم رأسمالها أو جزء منه الدولة وكذلك في الجماعات المحلية سواء أكانت بلدية أم قروية .
فالقاضي الجنائي و هو يبحث عن مفهوم الموظف العمومي ، عليه أن يرجع إلى مقتضيات الفصل 224 من القانون الجنائي و ليس إلى نصوص القانون الإداري ، و إلا عرض حكمه للنقض . و بالفعل فان هذا المفهوم الموسع للموظف سمح لمحكمة العدل الخاصة بإدانة العديد من الأشخاص الذين يمارسون عملا تابعا و مأجورا تحكمه قواعد القانون الخاص )30( .
و لذلك نشير أن هذه المحكمة اعتبرت كموظفين عموميين الأشخاص الآتي ذكرهم :
- الوزراء السابقين المتهمين بالارتشاء .
- المسؤولين عن التعاونيات الفلاحية المعينين من طرف وزير الفلاحة .
- مستخدمي الخطوط الملكية المغربية التي تحقق مصلحة ذات نفع عام .
- مستخدمي الأبناك الشعبية الجهوية ، و هي مؤسسات أعفاها المشرع من بعض الضرائب و تولى مراقبة سيرها بصفة مباشرة و أصبح يعتبرها في الواقع كمصالح ذات نفع عام بصرف النظر عن صفتها كشركات مجهولة الاسم .
- مستخدمي المكتب الوطني للشاي و السكر ، و هو من المؤسسات العمومية .
- أعوان الجماعات المحلية .
- العدول القباض لدى محاكم التوثيق.
- مستخدمي البنك المغربي للتجارة الخارجية الذين يمارسون عمليات الصرف بمطارات المملكة ، حيث إن البنك في هذه الحالة بالذات يلعب دور وسيط مقبول في مكتب الـصرف – الذي هـــو من المؤسسات العـــمومية – ويحقق مصلحة ذات نــفع عام)31(.
وقد أحسن المشرع صنعا بعدم اعتداده – في الميدان الجنائي – بالمعايير المتفق عليها في القانون الإداري ، وهو بذلك يسعى إلى تعميم تطبيق التشريع الجنائي على كل شخص يعمل باسم الدولة ولحسابها أو يساهم بعمله في خدمتها حتى لا يسلم الجناة من العقاب الجنائي .
فالمشرع الجنائي المغربي بناء على ذلك لا يعتد بنوعية العمل أو الوظيفة ، أي أن تكون دائمة أو مؤقتة ، ثبت فيها الشخص أو لم يثبت . كما أنه لم يشترط في الشخص كي يعتبر موظفا عموميا توفره على صفة معينة ، وإنما أورد في سياق النص عبارة عامة (كيفما كانت صفته) ، الشيء الذي يفهم منه أنه لا عبرة لصفة الشخص . والصفة تندرج إلى عدة معان ، فهو إما أن يكون رسميا أو متدربا أو مؤقتا أو مياوما أو مستخدما ، يرتبط بالدولة بصفة نظامية أو تعاقدية ، وهو من جهة أخرى قد يكون موظفا ساميا أو موظفا بسيطا . وواضح إذن أن جميع موظفي الدولة على اختلاف درجاتهم و أصنافهم يعتبرون في حكم المادة 224 من القانون الجنائي المغربي موظفين عموميين ، حتى ولو كانت صفة تقلدهم الوظيفة مشوبة مثلا بعيب شكلي(32).
---------------------------------
§ إعداد : عبد الحق دهبي ، باحث جامعي ، جامعة الحسن الثاني ، كلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية بالدار لبيضاء .
(1) - عبد الله حداد ، المرافق العمومية الكبرى : دراسة نظرية و تطبيقية ، دار توبقال للنشر ، 2002 ، الطبعة الأولى ، ص 10 .
(2) - عبد القادر بايـنة ، الموظفون العموميون في المغرب ، الدار البيضاء ، دار توبقال للنشر ، 2002 ، الطبعة الأولى ، ص 10 .
- (3) عبد القادر باينة ، الموظفون العموميون في المغرب ، مرجع سابق ، ص 11 .
(4) - يـطـلـق عــلى الـموظـف فـي فـرنسا مصـطلح " fonctionnaire public" ، وفـي إنـجـلتـرا تعبـيـر خـادم الملك " servant of the crown " ، و في سويسرا يطلق عليه تعبير المستخدم "employé " ، وفي ألمانيا "beamte " ، وفي تونس " المتوظف" ، وفي الولايات المتحدة الأمريكية يطلق عليه عدة تسميات من بينها مصطلح مستخدم عمومي " public worker " ...
)5(- سليمان محمود إبراهيم أبو حسان ، الموظف العمومي و تأديبه في القانون المغربي – دراسة مقارنة – ، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في القانون العام ، جامعة محمد الخامس ، كلية الحقوق بالرباط ، 1985 ، ص 9 .
)6 (- عتيق الزيادي ، المسؤولية الشخصية للموظف العمومي ، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام ، كلية الحقوق بالدار البيضاء ، 2000 ، ص 24 .
-(7) عبد القادر باينة الموظفون العموميون في المغرب ، مرجع سابق ، ص 16 .
-(8) تنص المادة الرابعة من القانون رقم 58 لسنة 1971 على أنه : " يعتبر عاملا في تطبيق أحكام هذا القانون كل من يعين في إحدى الوظائف المبينة بموازنة كل وحدة ، ويكون التعيين في الوظائف المرتبة بالنسبة للمتمتعين بالجنسية المصرية أو الأجانب وفقا للقواعد التي تتضمنها اللائحة التنفيذية مع مراعاة الأحكام الخاصة بتوظيف الأجانب ".
-(9) تنص المادة الثانية من القانون رقم 46 من سنة 1964 على نفس المضمون : " يعتبر عاملا في تطبيق أحكام هذا القانون كل من يعين في إحدى الوظائف الدائمة أو المؤقتة بقرار من السلطة المختصة " .
-(10) تنص المادة الأولى من القانون رقم 210 لسنة 1951 على أنه : " يعتبر موظفا في تطبيق هذا القانون كل من يعين في إحدى الوظائف الداخلية في الهيأة بمقتضى مرسوم أو أمر جمهوري أو قرار من مجلس الوزراء أو من وزير أو من هيئة أخرى تملك سلطة التعيين قانونا " .
(11) - أحمد أجوييد : جريمة رشوة الموظف العمومي في التشريع المغربي، مرجع سابق ، ص 56 .
-(12) عتيق الزيادي ، المسؤولية الشخصية للموظف العمومي ، مرجع سابق ، ص 25 .
-(13) حلمي مراد ، التعريف بالوظيفة العمومية ، مجلة إدارة قضايا الحكومة ، العدد الثالث ، يوليوز 1967 ، ص 624 .
(14)- عتيق الزيادي ، المسؤولية الشخصية للموظف العمومي ، مرجع سبق ذكره ، ص 28 .
(15) - محمد فتوح محمد عثمان ، أصول القانون الإداري لإمارة دبي – دراسة مقارنة - ، كلية شرطة دبي ، 1996 ، ص 340 .
(16) - مجلس الدولة الفرنسي في حكم صادر بتاريخ 20/12/1946 ( غير منشور).
(17) - محمد سامي حامد سليمان ، نظرية الخطأ الشخصي في مجال المسؤولية الإدارية ، القاهرة ، مكتبة النهضة المصرية ، 1988 ، الطبعة الأولى ، ص 219.
(18) - الـتي كانـت تـتكون مـن : الـصدر الأعـظم ، العـلاف الـكبير ، وزيـر الـبحر ، وزيـر الحـرب ، و وزيـر الـشكايـات و المظالم .
(19) - عتيق الزيادي ، المسؤولية الشخصية للموظف العمومي ، مرجع سابق ، ص 30 .
(20) - عبد القادر باينة ، الموظفون العموميون في المغرب ، مرجع سابق ، ص 18 .
(21) - نفس المرجع ، ص 18 .
(22) - عتيق الزيادي ، المسؤولية الشخصية للموظف العمومي ، مرجع سابق ، ص 31 .
23) ( - مـليـكة الصـروخ في الـقانـون الإداري : دراسة مـقارنـة ، مطبعة النجاح الجديدة ، الـدار البيضاء ، أكتوبر 2001 ، الطبعة الخامسة ، ص337-338.
) (24 - محمد الكشبور ، المركز القانوني للموظف في القانون الجنائي والخاص ، مرجع سابق ، ص 49 .
- (25) أحمد أجوييد ، جريمة رشوة الموظف العمومي في التشريع المغربي ، مرجع سابق ، ص64 .
(26) - نفس المرجع ، ص 66 .
27) (- سليمان محمود إبراهيم أبو حسان ، الموظف العمومي و تأديبه في القانون المغربي : دراسة مقارنة ، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في القانون العام ، جامعة محمد الخامس ، كلية الحقوق بالرباط ، سنة 1985 ، ص 12 .
28) (- عتيق الزيادي ، المسؤولية الشخصية للموظف العمومي ، مرجع سابق ، ص 20 .
29) (- أحمد أجوييد ، جريمة الموظف العمومي في التشريعي المغربي ، مرجع سابق ، ص 67 .