اسكندنافيا
من القمم والذروات العالية المغطاة بالثلج تندفع السيول حتى الشواطئ النرويجية ، وتصب في خلجان عريضة و عميقة .
ومن أعلى الذروات الثلجية تأتي السيول والأنهار إلى مسطحات السهول السويدية وتستقر في البحيرات التي لا تحصى حول أشجار التنوب والصنوبر والبتول في الغابات العملاقة .
الرجل الاسكندنافي رجل قوي شجاع وجاد ، ويحب العمل . يروي عن أسلافه "الفايكونغ" البحارين العريقين في ركوب البحر ومكتشفي البحار و مكتشفي أراضٍ، وخالقي ميثيولوجيات أثـّرت في الحكايات والأساطير وفن شعوب أوروبا .
الملك الذي جاء من البحار
قبل زمن بعيد كانت الأساطيل الجبارة للفايكونغ تعبر بحار الشمال ، تتحدى مغامرات الحرب والغزو . في ذلك الزمن كانت الجزر البريطانية الصغيرة ملاجئ و حصوناً لأولئك الأفظاظ و محترفي القتال المغامرين ،الذين كانوا يصلون الخلجان ، و ينهبون الشعوب والمدن الساحلية .
في ذلك الوقت لم يكن للدانيمارك ملك ولا حكومة ، وفي الحرب المستمرة مع الفايكونغ اعتاد الأسياد على النهب والفظائع واستعبدوا الفلاحين وصيادي الأسماك في تلك البلاد .
في أحد الأيام لاحظ الناس على الشاطئ ظهور شيء يتقدم مثل الظلال و ملتف في سلسلة غيوم بحرية ، لقد كانت سفينة هائلة تأتي من بحار الشمال .
السفينة كانت تتقدم شيئا فشيئا منتفخة أشرعتها المربعة والفاتحة اللون ، وتكشف عن مزخرفات و منحوتات خشبية في مقدمة السفينة ، ثم بدأ يظهر رأس ضخم لتنين بلون احمر والشراع العريض مثل القبعة السحرية بثنياتها وطيّاتها .
الصيادون شاهدوها مذهولين وهي تبرز من بين الضباب مزركشة بالزينة والمرايا ، وتتقدم تلك السفينة الشبح بصمت حتى ارتطمت بالرمل .
ابتعدوا جميعهم ، وأخذوا ينظرون من بعيد، فلم يشاهدوا أحداً على السفينة اللغز ولم يسمعوا صرخة أو صوتاً .
ومن الأراضي القريبة من الساحل جاء الرجال ، وقد تركوا حراثتهم و قطعان ماشيتهم و الشباك والقوارب الصغيرة البحرية لقد تركوا كل شيء وجاءوا ليروا سفينة جبارة ، فأبداً لم يخرج من البحر شيء مثيل من بين الضباب وكل هذا الصمت!!
لم يجرؤ أحد على الاقتراب ، وفي الليل اجتمعوا كلهم ، وتحدثوا برعب وخوف. هل كان عليهم الهرب ؟هل كانت تلك السفينة محملة بالأعداء المسلحين جيداً ؟ هل هي سفينة للفايكونغ الذين لن يتأخروا بالخروج وسرقة وحرق القرى الفقيرة؟؟
اخذوا يرقبون وهم يخشون الخطر ، فلم ينم أحد في تلك الليلة ، وفي اليوم التالي عند الفجر ظهر محاربون كثيرون في السهل ، جاءوا ملتفين بغيوم من الغبار الذي تحدثه خيولهم مع وقع حوافرها القوية .
جاءوا تلمع قبعاتهم ودروعهم وأسلحتهم ليقاتلوا ضد السفينة الغريبة للفايكونغ. كان الأسياد يرسلون الجيوش المؤلفة من رجال لهم عضلات مفتولة وعاريين ، و لونهم أحمر ، وشعرهم طويل، و بملامح وهيئات متوحشة ووجوه محزوزة و مليئة بآثار جراح عميقة .
توقف المحاربون قريبا من السفينة الغريبة مذعورين أمام الزركشة الرائعة للقبعة والتنين في مقدمة السفينة ، وقد ألبسوه شرائح من ذهب و بعينين واسعتين و ملونتين براقتين .
صار ينظر أحدهم إلى الآخر ويتساءلون:
" يا ترى من أي مكان قد جاءت هذه السفينة الرائعة الجبارة؟ هل وصلت من أراضي الـ"ساجوناس" من السويد؟ أم من مناطق الغرب الهجينة؟من هم؟ وماذا يبتغي ركابها ؟ ولماذا يختبئون؟ هل وجدوا أنفسهم مجبرين من قبل الرياح إلى الوصول إلى هنا ؟ وهم خائفون الآن من أن يجدوا خصوماً أقوياء و أشداء!! ".
بعض المتهورين اقتربوا من السفينة ، وهم في حالة احتراس، وصاحوا : كان من كان هناك !! أطلـّوا بوجوهكم !! هيا للقتال للقاء رجال الدانمارك !! انزلوا !! فالرمل ميدان جيد و يمتص الدم من الجراح !! تعالوا فملامح الفايكونغ لا تخيفنا!!
ومن المركب لم يجب أحد ، فهاج المحاربون الدانمركيون وبدأ بعضهم يطلق السهام ، وامتشق آخرون الفؤوس ، ووثبوا إلى السفينة ، وهم يطلقون صيحات الحرب.
لكن في السفينة لم يكن هناك أعداء ، إنما إلى جانب الصارية وفوق سجادة وثيرة وسميكة من الحرير كان وحيدا و مضطجعا على حزمة حطب مذهب ، ينام طفل صغير وعاري تقريبا وحول ذلك أكوام تبرق مثل غنائم مغامرة فاتنة : أسلحة من ذهب! أسلحة مصقولة!خناجر بقبضات من المرمر! وأحجار صوان مزركشة !وأسنان ذئاب! دروع ضخمة! و منحوتات من البرونز بمزخرفات مذهبة !قطع من الأحجار الكريمة! قبعات تبرق وعليها أجنحة من ذهب! وغوايش من الأحجار الكريمة! و سهام! وقرون حيوان الوعل ملبسة بقشور عرق اللؤلؤ! والفولاذ المسنن مثل ورقة الصفصاف! أبواق وقرون من العاج مليئة بالمجوهرات !أكواب! كؤوس! وجرار منقوش عليها !و عقود من زمرد وطوباز! والحرير! والطلاء!
وأمام ذلك الكنز نحّى المحاربون أسلحتهم جانبا وبدأوا يتأملون الطفل المضطجع على حزمة حطب مذهب .
فاعتقدوا أن الآلهة أرسلت تلك السفينة كإشارة للخير والسلام .
وبالزنود القوية للمحاربين الأشداء رفعوا الطفل وحملوه كشارة نصر بين الحشود المتجمهرة والتي تصيح مبتهجة ، وأمام مجلس السادة تم إعلان من أرسلته الآلهة ملكاً للدينمارك ، الطفل الذي جاء من البحر محاطا بالدروع لهذا سيكون الدرع المستقبلي في الدفاع عن البلاد ،وتم إطلاق كلمة " Skiodسكويد " أي "درع" على الطفل كاسم له .
لقد توافقت قوة وشجاعة ونبل "سكويد " مع آمال الشعب ، فلما صار شاباً أصبح واحداً من أشجع الصيادين ، وفي أحد الأيام وبينما كان ذاهبا مع حشمه ضاع في الغابة، فهاجمه دب ضخم ،لكن "Skiod " لم يهرب ،إنما صارع الوحش جسما لجسم، وسيطر عليه ، بل هزمه ثم ربطه بقوة ، حتى وصل رفاقه وفي الخامسة عشرة من عمره تقدم الجيش وهزم الساجونيس ، وهناك في ميدان المعركة انهزم قائدهم ، وفيما بعد تزوج " سكويد" من ابنة ملك المهزومين، فكان طوال حياته مثالاً للنبل ، طيباً وعادلاً شديد البأس على الأعداء و رحيماً وكريماً على رعيته ، كانت أحكامه قويمة وصارمة سواء على القوي كما على الضعيف والمسكين ، لقد خصص حياته الطويلة لخدمة بلاده، وعندما شعر بأن حياته بدأت تنتهي، استدعى نبلاء مجلسه وقال لهم :
" انظروا يا أبنائي ..عندما تُغْلقُ عيناي والى الأبد.. خذوا جسمي إلى شاطئ البحر... فهناك في لسان الخليج لا يزال المركب راسياً ... المركب الذي أحضرني وأنا طفل ... ضعوني فيه.. وانصبوا الأشرعة واتركوه للبحر وللرياح.. أريد أن أرحل بالشكل الذي جئت فيه.. لقد أتممت مهمتي.. فمن بلدٍ بائسٍ و منقسمٍ على نفسه جعلت منه بلداً موحداً و سعيداً
مات الملك Skiot" وقد كفنوا جسده بثياب ثمينة ومعطرة ،و وضعوا له إكليلاً حقيقياً ، وفي الخصر السيف المنتصر ، ثم رفعه رجاله المحاربون بزهوٍ بين الحشود التي كانت تبكي ملكها ، وأخذوه إلى البحر ، إلى السفينة وأشرعتها القرمزية والقبعة المطلية والبراقة..
هناك بالقرب من الصارية وضعوا جسم الملك الحكيم ، وجاء الناس من كل حدب وصوب من القرى والبلدات يحملون الهدايا الثمينة، نساء ومحاربون ونبلاء وناس بسطاء وفقراء كلهم احضروا أغلى ما عندهم من ثرواتهم ومما يحتفظون به من الأسلحة الفاخرة التي غنموها في المعارك، ومن العقود والخواتم و من الأحجار الكريمة ومن صناديق وخزنات مليئة بالحلي و قطع نقود ذهبية وقبعات ودروع وفؤوس وأبواق وقرون من الياقوت وكؤوس كبيرة وصواني من الفضة مليئة بالأحجار الكريمة وكل شيء . لقد جمعوا كنزاً حول جثمان الملك ،ووضعوا في يده سهم الحرب ، وتحت رأسه حزمة من السنابل التي تم قطعها حديثا ..
كل الشعب كان ينظر ، وأجواء الفجيعة تلف الصمت وأخيرا تم حل الشراع القرمزي اللون ، وآلاف الزنود القوية دفعت السفينة الراسية على الرمال و رويداً رويداً بدأت الأمواج تهزها و تبعدها عن الشاطئ .
في الصباح المعتم بالضباب أبحرت السفينة الجبارة ، سفينة الملك “ Skiot ، وراحت تبتعد مثل الظلال باتجاه بحار مجهولة ، حيث كانت الآلهة قد أرسلتها ,واختفت في الأفق مغطاة بضباب كثيف .