مَنْ أسقط بغداد فعلاً؟:
* ويبقى السؤال الذي يشغل الذهن العربي هو: مَنْ أسقط بغداد فعلاً؟.. والجواب يكمن بطبيعة الحال في العوامل الإقليمية من ناحية، وفي مواقف بعض العواصم العربية، وهذا صحيح لكن العامل الأخطر هو الحال الداخلي العراقي الذي سبّب وسرّع عملية السقوط بطريقة مريعة، وما حصل أن بغداد لم تكن لتسقط بهذا الشكل السهل في قبضة الاحتلال الأمريكي لو لم تختلّ رؤية أبنائها بفعل القهر والاستبداد من ناحية ثانية، ولولا خيانة قادة النظام من أرهاط المنافقين والانتهازيين الذين كانوا حاشية النظام حتى السابع من نيسان المشؤوم أو من الذين مكنتهم مواقعهم من السلطان أن يهربوا من بطش النظام ويقوموا بدور آخر انتهازي لكنه ليس بالانضمام إلى جوقة الطبالين بل بالهروب إلى عدو الأمة كما الحال وأولئك الذين قدموا على ظهور الدبابات الأميركية أو البريطانية وغيرها وحلوا في أمان بريمر ضد أبناء شعبهم مع الأسف الشديد أن يكون بين ظهراني هذه الأمة خونة على هذه الصورة البشعة والتي تشبه التشخيص المسرحي.. من ناحية ثالثة ورابعة وعاشرة.. و.. إن مسؤولية سقوط بغداد تتحملها الأمة بأسرها من الحاكم المتسيّد إلى الكاتب المنافق إلى الشقيق الموافق على إسقاط بغداد.
* إن شروط الهزيمة تنتقل من وصف الواقع الدولي إلى الواقع العربي ثم الحال العراقي.. وهذا يحتاج إلى تفكيك وتحليل المشهد العام للهزيمة، وهو ما يضعنا أمام الحقائق التي قد يدرك بعضها أو كلها كثير من الناس والمفكرين..
* إن الهزيمة هي من الداخل قبل أن تكون من الخارج أو هي من قابليتنا للاستعمار قبل ولوج الاستعمار إلينا وإقامته للقواعد العسكرية فوق أراضينا وسرقته لثرواتنا.. ويكاد المشهد العراقي يختزل المشهد العربي برمته، لذلك فإن دراسته واستخلاص العبر من تجربته تصلح كنموذج مخبري لتشخيص الحالة العربية.. نعم إن سقوط بغداد كان بفعل عوامل لا تنحصر ببغداد وإنما تنسحب على حال الواقع العربي برمته الذي لم يسعَ بعد إلى التغيير.. ومن هنا فهو بمنزلة مؤشر في استشراف مستقبل الواقع العربي في ظل هذه الظروف.
* إن الواقع العالمي يظهر بوضوح أحلام الإمبراطورية الأمريكية وأثر 11 أيلول على السياسة الأميركية ويلقي الضوء على مسار هذه السياسة المرتجة وازدواجية القيم والمعايير والتجاوز الأمريكي الصارخ لحقوق الإنسان وحرياته العامة في داخل الولايات المتحدة وخارجها للرأي العام العالمي. كما يوضح أن الأمة مع سقوط بغداد وكأنها استسلمت للهزيمة، وأول معلم من معالم الهزيمة في الواقع العربي هو: "إن بغداد وإن كانت سقطت تحت قصف الطائرات والدبابات الأميركية، فإن هذه الطائرات والدبابات ما كان لها أن تحقق هذا الذي حققته في العراق لولا الدعم اللوجستي عسكرياً وسياسياً واقتصادياً المقدم لها من بعض أبناء الأمة ضد بعضها الآخر، فالطائرات التي كانت تقصف بغداد والدبابات التي كانت تدك البصرة، انطلقت من أراضٍ عربية إسلامية في أقسى تعبير من تعابير هزيمة الأمة.. أي الاستسلام للهزيمة والقبول بها، وكأنها أصبحت قانوناً أو أمراً مشروعاً ولم تعد في نظر الكثيرين عيباً ولا خيانة إلى درجة تباهي المعارضة بدخول بغداد في جوف الدبابات الأمريكية على أنه انتصار على الطاغية بالدبابة الأميركية وهذا ما سوف يرحب به الشعب ويصلي له في الجوامع والكنائس لتسويق الهزيمة ومن قبل التقدميين بالأمس على وجه الخصوص والغرابة.. وإذا كان المتخاذلون في التاريخ يسلّمون رؤوس الرجال من قادة المقاومة لنيران العدو، ففي العراق يسلمون رأس الوطن لدبابات العدو لتسحقه..
وجوانب متعددة من الهزيمة لا تقف عند النظام الرسمي العربي وأبرز مؤسساته، بل تصيب مؤسسات المجتمع المدني والمراكز التي تعتاش على المساعدات والأموال الغربية والتي بدورها تحدد أجندة هذه المؤسسات بما يخدم المشروع الأمريكي، وتعمل على تسويق الهزيمة وتعميقها في التفكير والوجدان العربي بمسميات وحجج مختلفة.. والعلاقة الارتباطية بين الهزيمة وخطاب الفرقة العربي وحالة الدول العربية واستشراء روح القطرية قد أحلّها البعض محلّ خطاب الوحدة ومفهوم الأمة، لا بل محاولة زعزعة الوعي العام بمفهوم الأمة ومقوماتها من خلال نحت مفاهيم جديدة تستند إلى مقومات تبتعد عن شخصية الأمة الحضارية مثل: الثقافة الشرق أوسطية معسكر السلام، الشرق الديمقراطي الجديد، معسكر شرم الشيخ، ومنطقة البحر الأحمر.. إلى سلام الحضارات وسلام اللغات الخ.. إن ما جرى في العراق ليس إلا بداية تنفيذ الاستراتيجية الأمريكية التي لا تتعارض مع غيرها من الاستراتيجيات الأخرى إلى حد التناحر بل إلى حد الاختلاف على اقتسام الغنائم العراقية أو الشرق أوسطية.. وعليه فإن بقاء هذا الحال العربي يعني استمرار ارتهان الأمة وقضاياها المصيرية بما يجري في واشنطن وتدعيم لها بالإبقاء في العراق ومحاصرة سورية كما ترغب.