من بغداد إلى القدس ـ معركة واحدة..
فمن يبايع على الموت؟
إن حرب التحرير الشعبية أو الكفاح الشعبي المسلح الذي انتهجته الثورة الفلسطينية عندما كانت ثورة عارمة ومقاومة تطوعية أعطت نتائج هائلة حتى صارت نموذجاً خطراً ليس على الكيان الصهيوني فقط بل وعلى الأنظمة المتعاملة مع هذا الكيان بشتى السبل.. لكن وعندما انتقلت هذه الثورة إلى ثورة بأجر (مأجورة، أي برواتب وهذا أحد وجوه الارتزاق) انتهى الأمر بهذه الثورة العظيمة إلى جوقلة هذه الثورة ـ أي نقلها جواً ـ بعد معركة بيروت 1982.. ومع ذلك فإن هذا النموذج من الكفاح هو الحل الوحيد لدى شعوب ضعيفة الإمكانات المادية والتعبوية التي تملكها الجيوش، بل إن الجيوش والحالة الراهنة لم تعد تجد نفعاً ليس لأنها مخروقة وغير متكافئة مع العدو تقنياً وتعبوياً بل لأن حرب الجيوش قد فشل عبر تاريخ المواجهة بين الفئات المتحاربة على مر العصور ولذلك نقول بأن الكفاح الشعبي هو وحده الكفيل بتحرير بغداد كما تحررت بيروت.. وإن الجيوش العربية ربما هي من قد يقوم بتغيير هذه الأنظمة بعدما حالت بكل وضوح بين هذه الجيوش وبين قيامها بواجبها الجهادي القومي. وقد لا تكون الجيوش وحدها أداة التغيير في الواقع العربي الرسمي المأزوم، يقود واشنطن إلى محاولة القيام بتغييرات سياسية تستبق التغييرات الذاتية النابعة من قناعات الأمة وقواها الحية، وستسعى واشنطن إلى إشغال الشعوب بتغييرات على طريقتها سواء باستنساخ نماذج من شاكلة قرضاي أم بالإبقاء على الوضع في العراق حتى يتسنى لها إشراك قوى عالمية في إدارة شؤونه لصالحها.. إن المواجهة الحضارية بين الأمة العربية وبين الولايات المتحدة والصهيونية بعد احتلال العراق هي المسألة التي باتت تؤرق واشنطن أو هي مسألة إبقاء أو زوال للمشروع الأمريكي الذي يسعى إلى الهيمنة على المنطقة، وهو لا يقف عند حدود الغزو العسكري، وإنما يمتد إلى الجوانب الأخرى السياسية والثقافية والاقتصادية بقصد إحداث تغييرات جوهرية في البنيات التحتية للمجتمعات العربية بهدف تكريس الهيمنة الصهيونية الأمريكية في كافة المجالات.
إذا كانت الهجمة شاملة فلابد أن تكون المقاومة شاملة ولا تقف عند حدود جبهة معينة. ذلك لأن المقاومة الجماهيرية والجهاد ضد الغزو الأمريكي الصهيوني هما الحل الكفيل بصد الهجمة ومواجهة العدوان والدفاع عن الكرامة.. وبالرغم من سقوط بغداد فإن هناك الكثير من الدروس الإيجابية التي يجب أن نستخلصها من الحدث وأهمها صمود الشعب العراقي قبل انكشاف الجيش وحدود التسليم.. هذا الصمود الذي يعزز من مفهوم الشعب المسلح، وإذا كان البعض يشكّك في صمود العراقيين فمن يستطيع التشكيك بصمود المقاومة اللبنانية التي أرغمت العدو على الخروج من لبنان أو بصمود المقاومة الفلسطينية!!، ومن الدروس التي تؤكد أهمية مفهوم الجهاد القومي المسلح: ظاهرة الشباب العربي الذي تقاطر بالآلاف على العراق للدفاع عنها وصبر وصابر حتى النهاية.. وخلاصة الأمر أن الكفاح الشعبي المسلح هو طريقنا لتحرير أوطاننا والدفاع عنها، وقد أثبت أبناء أمتنا أنهم رغم القهر الذي يعانونه ورغم استلاب حريتهم السياسية فإن انتماءهم لأمتهم ولتراب أمتهم راسخ، وإن هذا الانتماء يتحول لحظة الامتحان إلى حالة كفاحية هائلة يعيد الحياة إلى مشروع النهضة والاستقلال والوحدة العربية والتنمية والأصالة التي هي المنطلق للتعبير عن الذات الحضارية، وهو النداء الحركي الراهن للأمة.
إذن ليس هناك أمة تستعبد من الخارج إلا بعد أن تستعبد من الداخل، أو لنقل إنه لا يمكن أن تسقط عاصمة عربية في قبضة الاحتلال إلا بعد أن تسقط من الداخل وتنهار وحدتها الداخلية الوطنية، والعراق هو مثال واضح على ذلك.. وبكلمة أدق إن الوحدة الوطنية تقوم على شرط الحرية والعدل وتساوي الناس أمام القانون وتداول السلطات وتوزيع الإنتاج بالعدل وتنمية متكاملة الإسهامات.. وقد افتقد النظام إلى كل هذه الشروط.. فغياب الحرية السياسية الداخلية وهي أساس تكون أية أمة ونظامها العام مكن لطغمة الأقلية القهرية بأن تتمسك بسلطتها طيلة خمسة وثلاثين عاماً وألا تتخلى عنها لطغمة أخرى، ولا للشعب فمنعته من أن يأخذ مواقعه الأساسية في إطار الدولة والمجتمع، ولم تلجأ إليه إلا في وقت الشدائد فتتملقه دون أن تحترمه وهذا ما حصل قبيل الهجوم الأمريكي على بغداد، فهل يدافع عنها أمام هجمات الأغيار؟. ولنتابع في تفصيل هذه الحالة العراقية القائمة في أذهان أبناء هذه الأمة من الآن من الماء إلى الماء..
إذا كانت الفرصة الضائعة في السياسة لا تعود فكيف تعود الفرصة في الحرب؟. وعليه إذاً يذل المواطن ويداس شرفه، على الطريقة التي شاهدناها عبر شاشات التلفزة، بالسوط أو بالسجن أو بالغرامة فإنه لن يأبه لمجد هذا الحاكم ولا يدافع عنه ولا عن البلد ولطالما أنه محكوم من قبل من لا يرحمه بعد انتهاء الأزمة.. وهذا ما حدث في بغداد مع الأسف.. إذ لم تعد للناس حقوق في ظل هذا الحكم المستبد الذي ظل حتى اللحظة الأخيرة يقطع رؤوس الناس لأتفه الأسباب فإنهم لن يعطوه حق البقاء وهو ينهار ولن يسلموا رأسه من القطع وهو يفقده.. وإن ما يدفعه المحيط في هذا الشاطئ يتبدد على الشاطئ الآخر..
والعبرة الأخرى التي تبيناها من سقوط النظام في العراق هي أن حاشيته ورموزه ومقربيه الأقربين تخلوا عنه وقاموا بتسليم البلاد إلى القوات الغازية بسهولة ويسر، وذلك لأن من قبل العمل في ظل هذا النظام القهري وقام بمهمة الأداة القاهرة يهون عليهم تسليم البلاد، ولأن النظام نفسه يدرك أن محبة هؤلاء الانتهازيين له ليست كحنان المرضعات بل خوفاً ومهابة وأن أي نظام يحتاج لعرابين وإلا فإن المسرحية لا تنتهي النهاية المطلوبة.. وقد استخدمهم بالأصل ووظفهم في مفاصل الدولة لنقائصهم لا لفضائلهم لأن هكذا نظاماً لا يشرك الشرفاء لأنهم مصدر خطر عليه. وهكذا كان هؤلاء جميعاً كالكتابة على الرمال لأنه لا يبقي شيء في هذا النظام الذي قام على انتهازيين وثرثارين يتلاعبون بالكلمات على طريقة نباحي المنابر الذين وصفهم نابليون بالقول: إن عشرة ثرثارين يثيرون ضجيجاً أكثر من عشرة آلاف صامت، وإن محتالاً في الصف الأول ليتصرف كالشرفاء ويتغنى بأمجاد الأمة يفيدك أكثر من جولة كاملة في التاريخ والديمقراطية.
وبعد زوال نظام صدام أدرك الناس أن على عرشه لم يكن أكثر من خشبة زينت بالقماش الفاخر والألوان البراقة، وأن تجارب الشعوب تؤكد بأن ليس هناك سلطة قادرة على البقاء بواسطة القهر المباشر، والعنف ولو طال بها الأمد فهي إلى زوال.. وقد سعى نظام بغداد، كما رأينا في بدايته إلى خلق قاعدة سياسية تعبر عن مصالحه المادية والسياسية وإقامة تحالفات مع أحزاب هي صورة مصغرة عن النظام، ولم يفلح لغياب المفهوم الحقيقي للمشاركة والحرية السياسية في عقيدة السلطة، والديمقراطية في التمثيل والانتخاب بعيداً عن قهرية الأجهزة، فلجأ إلى الجيش وأجهزة الأمن والاستعانة بالخارج لتوطيد أركانه إما لتصدير أزمته الداخلية وإما لتكريس القمع والاستبداد الداخلي وبذلك مهد للاستبداد الأمريكي المباشر الذي دمر وأباد وهدم وخرب وقتل وسجن وشرد وأجاع وسرق خيرات العراق وكنوزه أكثر بعشر مرات مما فعله النظام العراقي وأزلامه وحاشيته على الإطلاق.. ومن هذه النقطة تحديداً نجد أن النصب والاحتيال وقتل الناس وسجنهم وخراب المدن والدول هو مهنة دولية لا يقوم بها النصابون والقتلة وحدهم بل هناك دول تنفذ هذه المحرمات الأخلاقية والدينية والقانونية والسياسية.. وفي الوقت نفسه إن الرضوخ والسكوت على الضيم, مثله مثل الغباء، قد أصبح خبراً عالمياً..
* الضمير اسمه الآن بغداد:
لقد قرأت الإدارة الأمريكية التاريخ العربي والعراقي خاصة بصورة مغلوطة تماماً. فركزت على العامل المذهبي والديني، ودور العشيرة كمؤسسة أهلية ودورها في تجييش الناس للدفاع عن الوطن ورأت أنه بإمكانها التلاعب في هذه البنية الاجتماعية لإضعافها في محاولاتها توجيه الصراع الداخلي والتحكم بعناصر توازن القوى الداخلية، وقد اتكأت على التجربة البريطانية في القرن الماضي 1914 ـ 1920 لكنها لم تتعظ بالهزيمة التي ألحقها الشعب العراقي البطل بالقوات البريطانية وما دفعته من خسائر، ولعل ذلك يكمن في طريقة قراءة التاريخ وتسخيره. ومدمرو العراق الآن يرقصون فرحاً كالحالمين في ليلة الميلاد، لكن فرحهم هذا ليس فرحاً بل هو نتيجة العدوان والعدمية التي سقطت فيها السياسة الأمريكية في الشرق كل الشرق من البحر الأبيض إلى الكوريتين أما مساعدوهم من أنظمة ومؤسسات فهم مصابون بقشعريرة ضمير أو بأزمة وجدان، فيما أن الأمة العربية التي صدمتها نكبة سقوط بغداد بهذا المشهد التراجيدي، صار الضمير لديها الآن اسمه بغداد، كما كان الحال عند سقوط القدس قبل نيف وخمسة عقود.. وصار هؤلاء (المحتلون والتابعون لهم والأمة المهزومة) ثلاثة، كالضمائر في اللغة وفي الأزمنة/ أنا وأنت وهو، الماضي الحاضر، والمستقبل/.. وهم جميعاً في امتحان تاريخي يتوزع ما بين البربرية العدمية التي تحمل الموت الذي يدق أبواب العرب، والأنظمة الخائرة وهي تخدم سيدين: السلطة وواشنطن، والمقاومة التي فاجأت هؤلاء جميعاً بحجمها وقدرتها على التصعيد والتحول إلى قوة رادعة لم تكن داخلة في حسابات إدارة بوش الاستراتيجية، أو بين الفناء والهوية والنهضة أو السقوط. وقد قرأت هذه المقاومة السقوط بعكس ما قرأته الإدارة الهمجية الغازية، بل عبر التحليل الواقعي للسقوط والنهوض حيث يفهم تماماً:
1 ـ إن سقوط الحكم الاستبدادي في العراق لا يعني سقوط النظام، بل هو سقوط للرمز والوجوه، أما الحالة الاستبدادية فهي باقية وهي التي يحافظ عليها المحتل بكل ما أوتي من قوة لأنه بقي عقوداً يسعى إلى ترسيخها ليس في العراق فحسب بل في كل العالم شرقه وغربه ومن قطبه إلى قطبه الآخر على قدم وساق..
2 ـ وإن المحتل الأمريكي أزال شكلاً من أشكاله ولم يزل النظام برمته،.. أي أن الاستبداد التابع زال، والآن يقوم الاستبداد الأمريكي بهذه المهمة مباشرة بنفسه وأتت الآن الفرصة لإزالة رأس النظام دون الجسد من أجل غاية بعيدة جيوبوليتيكية سعى إليها على مدى ستة عقود أي منذ هيروشيما حتى الآن، وهي إسقاط الشرق.. وباحتلاله للعراق استبدل الاستبداد المحلي بالاستبداد المباشر الأمريكي في العراق والمنطقة، فحلَّ بذلك محل استبداد الأنظمة، هذا أولاً.
3 ـ ثم إن سقوط هذا النظام ثانياً لا يعني سقوط الأمة، إذ لم تأت به الجماهير، ولم يمثل الأمة العربية بامتدادها التاريخي والحضاري، ولا الإسلامي بعدالته السياسية (دولة الشورى والعهدة الديمقراطية والتي نعتها ماركس بالديمقراطية المستحيلة) ورسالته التي أقامت سلطة النص الإلهي العادل مسيحياً كان أم إسلامياً فيما استبدلته الأنظمة العربية اللاحقة، منذ معاوية حتى العصر الراهن، بسلطة الشخص.
وفي مثل هذه الحالة العربية فقد رأينا أن هذه الأنظمة قد اعتمدت النمط الأمريكي في السياسة الحزبية، فالأحزاب السياسية العربية هي أنظمة مصغرة أو صورة عن الأنظمة السياسية القائمة، أو أنها مستنسخة عن النظام القائم في عديد من الدول العربية من حيث تركيبتها المماثلة وسلوكها وأداؤها التنظيمي أو الانتخابي أو تداول المسؤولية والقرار.. أو من حيث اختزالها الأمة والتاريخ والقيم والغايات بشخصها وبعصبيتها على حد رأي ابن خلدون وفي تفكيرها ولفيفها ومؤيديها من الانتهازيين والوصوليين الذين هم بدون قضية إلا أهدافهم الخاصة والغريزية.. وتقوم بإدارة ثروات الأمة نيابة عن الشعب صاحب الثروة الحقيقي. وقد استفاد المحتل الأمريكي من هذه الأنظمة ومما قدمته له من خدمات، لم يحظ بها في أي بلد. ولذلك وجدنا أنه قبل أن يقدم المحتل الأمريكي على تدمير بغداد وإسقاط العراق وجدنا أن هناك من أوجد للمحتل منصات وقواعد حربية للانطلاق منها إلى قصف أهدافه في العراق، كما أوجد له ستاراً عربياً وإسلامياً يتفيأ في ظله ويمهد لقدومه بوساطة أنظمة تسوّق كل ما ينتجه المحتل من بضائع إعلامية أو تربوية أو تقنية ومادية، وبالقوة لقاء إبقائها في سدات الحكم الكرتونية تلك.. نحن هنا أمام، المحتل بدون تاريخ ويحاول إلغاء تاريخنا العربي بدءاً من الرافدين.. وهو الآن في حالة من الارتباك والحيرة منقطعة النظير ولا يحسد عليها: لكن ماذا يقول لمن لا يعرف العراق؟. وإذا أردنا الوعي بما يحيط بنا فعلينا أن ندرك بأن الخوف الآن هو أن يلجأ المحتل الأمريكي بعد يقظة الوعي الوطني القومي في العراق إلى الاغتيالات السياسية كما أقدم عليه، وهذا سلاح مرشح للتصعيد يقصد منه إزاحة القيادة العربية الأصيلة في العراق وإزالة الصف الأول من واجهة المقاومة ليأتي برعاع لقيادة عراق من صنعه.. والمهم هنا هو الحفاظ على المشروع والاستقلال في العراق وتطوير المقاومة إلى المستوى الذي تخلص العراق من ربقة هذا الاحتلال البربري.. وليعلم الجميع أن إرضاء المحتل أصعب بكثير من إغضابه ومقاومته.. وأن المقاومين هم جنود الجنة، وأن الوطن العربي الآن هو وطن الدم والنار، كما أن العالم اليوم هو عالم يقف على خط النار.. وقد بدأت الآن قشعريرة الضمير العربي تتزايد لأن القبور في العراق، كما في فلسطين، ترفض الجثث.