* ليلة الفاجعة ـ ليلة سقوط بغداد:
* إن دراسة الحالة العراقية تستدعي البحث عن جذورها في الحالة العربية التي تعود بالزمن إلى بداية القرن الماضي/ الذي افتتح بذبح العرب وانتهى بذبحهم كما يفتتح هذا القرن/ وإلى ما آلت إليه المسألة الشرقية وما تبعها من نتائج وتطورات وتحولات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية كان لها الأثر البالغ على منطقة البحر الأبيض المتوسط أو ما تسمى بالأجنحة الغربية في استراتيجية التوسع الجغرافي الغربي في القرنين الماضيين وفي التمدد الجيوبوليتيكي منذ هيروشيما حتى الآن..
في هذه الفترة برزت فئات متنورة قادت عملية التحرير والخلاص من ربقة الاحتلال العثماني وكان بعضهم قد بهر بأفكار الثورة الفرنسية وشعاراتها: الأخوة والعدالة والمساواة وبثورة واشنطن ومبادئ حقوق الإنسان، وبعضهم جمع ما بين الخلفنة والعلمنة، أو أفكار الدولة العثمانية التي طرحها مفكرو القرن الثامن عشر في أوربا/ لفصل الكنيسة عن الدولة وانحسارها ولم تكتف هذه الفئات بترجمة أعمال مفكري تلك الفترة، بل وتبنت أفكارها ثم استنجدت بـ "أوربا التنويرية لا أوربا الاستعمارية..؟!".. فكان الكواكبي على سبيل المثال يقول: لو عملنا بدأب على هذه الأوروبا عشرين عاماً، لأريق النضج على عملنا ونلنا حريتنا.. ومثله كثيرون ممن لم يعرفوا سر الشعارات البراقة ودلالاتها أو مضمونها المكنون (في السرّ المصون)، فاستنجد هؤلاء بأوربا على بني عثمان، لما حل هؤلاء أحكموا قبضتهم على الأرض والسماء وأسسوا لنوع جديد من السيطرة، وهو أنهم خلقوا فئات سياسية عربية محلية تنوب منابهم دون أن يكلفهم ذلك حروباً، وخلقت هذه الفئات تياراتها وأحزابها وحركاتها ومنظماتها التي ولدت مؤسسات ودولاً. الخ.
ومنذ ذلك الحين منذ عصر النهضة حتى الآن وكأن التاريخ العربي سلسلة من الهزائم المتكررة أو جملة من الإخفاقات تتجه إلى الوراء.. وتحكمه ثنائيات متنوعة سياسية وثقافية واقتصادية وغيرها: أحرار وعبيد ومستبد ومقهور ومتغربون مبهورون بالغرب، وشرقيون منكفئون إلى الماضي محرومون من الحاضر والمستقبل وحاكمون مستبدون تابعون ومحكومون يقومون بتأدية واجب قهري هو تنفيذ الولاءات وتقديس الفئة المتسيدة دون حقوق وثقافة حديثة (تحتكر السلطة والسياسة والاقتصاد) وثقافة قديمة وتنمية وتأخر وهنا تحولت كلمة تكنولوجيا إلى سرّ مقدس ونظامين متوازيين لا يلتقيان هما الماضي كقوة مسيطرة على الروح والعقل، والمستقبل الذي يتحقق بدون انقلابات ولا حروب ولا مدافع فهو يولد بوساطة عمليات قيصرية سياسية وعسكرية، أما الحاضر فهو صلة وصل انتقالية شاقة/ وهو الغائب والمنتصر إذا أنجز مهماته من عقول العلماء ودم المجاهدين ومهارة الصناع وطهارة الأتقياء/. وامتد تيار التنوير إلى ما بعد الاستقلالات وقامت على أرضيته أحزاب وحركات تدعو إلى الإصلاح وبناء الدولة الحرة والتنمية الاقتصادية والانفتاح، كما تشكلت الفئات المتسيدة وهي إما تنويرية أو إقطاعية متهالكة أو برجوازية ناشئة وهي بمختلف تركيباتها لم تتمكن من إيجاد قاعدة شعبية لها ولم تستطع أن تقود عملية التحرر والوحدة العربية والنضال من أجلهما.. وكانت بعد كل هزيمة تقوم بإعادة ترتيب البيت الداخلي بتغيير الحصان للحفاظ على العربة حفاظاً على القوى الأساسية الناظمة للعربة والحصان. وعليه فإن نظام الحكم في العراق هو جزء من النظام العربي الذي تشكل في الأربعينات. وباعتقادي إن إخفاق هذا النظام هو إخفاق الفئات المتسيدة وأنظمتها وثقافتها.. احتلال العراق مرتبط بالمشروع الأميركي للسيطرة على العالم وفي القلب منه منطقة الشرق الأوسط، ولم يكن مرتبطاً برد فعل أميركي انتقامي على أحداث 11 سبتمبر/ أيلول، صحيح أنها استغلت ذريعة أخلاقية وأمنية إلا أن جذور هذا المشروع سابقة بكثير، حيث جرى الحديث عن احتلال العراق وإسقاط نظام صدام لأول مرة في أعقاب حرب الخليج الثانية.
كانت عملية غزو العراق هدفاً أساسياً وموروثاً عائلياً ورثه بوش عن أبيه، وكم بكى وذرف الدمع مدراراً إلى حد الانهيار عندما علم بتفاصيل المؤامرة التي أعدها صدام لاغتيال أبيه، وفي اليوم الثاني لوصوله للسلطة لم يخف رغبته في الثأر من صدام، وقال للمقربين منه إنه تتملكه رغبة عارمة في الهجوم على العراق، حتى لم يجد المبررات اللازمة لذلك، فإنه سيطالب بالبحث عن جميع المبررات الدبلوماسية والعسكرية حتى يقنع الجميع داخل أميركا أو خارجها بأن الحرب التي سيخوضها ضد صدام هي حرب عادلة ومشروعة بكل المقاييس. وفي حوار بين بوش الأب وديك تشيني وزير الدفاع وكولن باول رئيس هيئة الأركان المشتركة آنذاك، قال تشيني إن التخلص من صدام سيجعلنا نكسب العراق..
وبعد 11 سبتمبر/ أيلول وجد بوش ومن خلفه جوقة تجار الحرب رايس وتشيني ورمسفليد الفرصة لتحديد الأهداف المقررة للعمليات العسكرية الأميركية وشن الحرب على أفغانستان والعراق.. وخلال الفترة السابقة على أحداث 11 سبتمبر/ أيلول عرضت على بوش عدة تقارير تتهم صدام بأنه المنبع المالي الأول ومصدر التسليح الرئيسي لكل الجماعات الإرهابية وعلى رأسها تنظيم القاعدة، كما طلب بوش من جورج تينيت استطلاع رأي أعضاء الكونغرس والرأي العام الأميركي حول فكرة قيام أمريكا بعمل عسكري ضد العراق، وجاء فيه أن "83% من أعضاء الكونغرس يرفضون، و86% من الرأي العام يرفضون أيضاً، لأنهم يعتبرون أن صدام لم يعد يشكل خطراً على المصالح الأميركية في الخليج"( ).. ومع ثم بدؤوا بتهيئة وإعداد المسرح الدولي والإقليمي للحرب ضد العراق، والتوافد على مختلف مناطق العالم بهدف تقديم الأدلة على أن العراق يحكمه نظام إرهابي، ويشكل حالة من عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط وفي العالم كله. وبعد ذلك كلف باول وكيل وزارة الخارجية لشؤون الحد من الأسلحة والأمن الدولي "جون بولتون" بإعداد تقرير شامل حول حيازة العراق لأسلحة الدمار الشامل، فأعد في نهاية فبراير/ شباط 2002 وجاء فيه أن "العراق يقوم حالياً وعبر فترة زمنية تمتد ثلاثة أشهر سابقة بتطوير أنواع جديدة من الأسلحة البيولوجية والكيماوية، وهناك كميات كبيرة أنتجت من هذه الأسلحة ونقلت للمخازن العراقية". ومنذ ذلك الوقت بدأ ملف الأسلحة يقفز إلى دائرة الاهتمامات الأولى للإدارة الأميركية. وفي مارس /آذار 2002 كان الرأي العام الأميركي أكثر تهيؤاً لإعلان الحرب على العراق، ولكن ليس بسبب وجود صلة بين صدام والقاعدة، ولكن بسبب ما روج عن امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل.