الثقافة الهدامة وموجة الحضارة الثالثة
لقد اتسعت، مطلع القرن العشرين ومع انتهاء الاستعمار في أفريقيا والسيطرة في آسيا رقعة انتشار الصناعة لتشمل الكرة الأرضية فقامت تجمّعات الأسواق تحت الخيام، قامت صناعة من نوع آخر: صناعة الصور والأحلام التي شكلت نوعاً آخر للاستعمار، هذه المرة عامودياً أكثر منه أفقياً، انتشر على رقعة أوسع هي روح الإنسان وكانت هذه الروح في البداية أفريقيا الجديدة عبر الفيلم الذي يبدأ بِشق الطرق في كل اتجاه وبعد خمسين سنة، افتتح نظام شبكي مدهش: التيليبلنتر، الآلة المحورية، الإسطوانات السينمائية والتسجيلات الصوتية، وأجهزة نقل الصوت والصورة، ووسائط الإعلام المصورة لنقل ما يدور من أخبار على الكرة الأرضية، وما يهبط ويقلع إلى درجة أن جزيئاً واحداً من الفضاء لم يفلت من الإعلام والمعرفة، ولا آلة أو حركة، إلا وتصل أخبارها المسموعة أو المرئية فوراً.
وقد تقدّمت هذه الصناعة، التي تمثل صناعة العقل والاستعمار التي تتجه إلى الروح، تقدمت على مدار القرن العشرين عن طريق التطوّر المستمر للتقنية الموجهة ليس فقط إلى الخارج بل وإلى الداخل داخل الإنسان، لنقل سلعتها الثقافية /الكتب، المجلات أو الصحف/... رغم أن الثقافة لم تكن مصنعة، أو سراً مخفياً عن العالم أو طيفاً من التأوّهات ولا طيف حورية، أو فراشة، أو كلمات ملائكية ساحرة... واليوم فإن الموسيقى والكلمات، والأفلام تنقل عبر أمواج الأثير ـ وهي ليست سلعاً صناعية تباع في السوق، لكنها تباع بالمفرّق، بالقطعة، تسري في عروق الدم الإنسانية، الحب، الرعب، وكل ما يهزّ القلب والروح...
وتعتبر هذه المسائل المشتملة على هذا الفهم، واقعة في مستوى الحضارة، والمسائل الثالثة التي ظهرت منتصف القرن العشرين ـ وقد قطعت هذه المسائل الثلاثة المسافة ما بين الهامش والمحيط إلى مركز المسائل المعاصرة بسرعة... ولم تترك فرصة للإجابة الجاهزة... ولا يستطيع فهمها أو البحث عنها إلا الفكر الحركي. ومن هنا كان العالم الثالث وجهاً لوجه أمام الثورة الصناعية الثالثة "الإلكترونية والنووية" والقوى الثالثة "البيروقراطية والتقنية) وهذه مبررات لأنَّ تكون هناك ثقافة ثالثة تولّدها الصحف والفيلم والمذياع والتلفزيون ـ وهذه مسحوبة على الثقافة الكلاسيكية واللاهوتية أو الإنسانية والقومية (من حيث الحدث وليس من حيث المضامين).
وبعد الحرب العالمية الثانية فوراً أطلقت السوسيولوجيا الأمريكية على الثقافة الثالثة هذه التسمية "الثقافة الجماهيرية Mass - culture وهذا ما يسمى (التيار الأمريكي).
والثقافة الجماهيرية هذه هي الثقافة القائمة على مجمل الأشكال الصناعية الإنتاجية، وتنتشر عبر وسائط التكنولوجيا الحديثة الجماهيرية (وهي حسب المنطق الأنكلو ـ لاتيني) الواسطة الجماهيرية Mass - media وتشتق هذه الكلمة من المصدر الجينيفي وتعني المجمع من كل الجهات وكل فئات المجتمع (الطبقات، والأسر)...
إنَّ مصطلح الثقافة الجماهيرية، ومصطلح المجتمع الصناعي قد أطلقا على واحد من خطوط الحياة الاجتماعية، لكنه بالإمكان أن نطلق على المجتمع المعاصر ليس فقط تسمية المجتمع الصناعي، أو الجماهيري، بل والتكنولوجي والاستهلاكي والتسليعي والبيروقراطي والرأسمالي والطبقي أو المدني البرجوازي، أو الشخصاني الفردي والمائع... أمَّا فكرة الجماهيرية فهي أكثر ضيقاً إذ إن فكرة الثقافة أكثر اتساعاً إذا ما نظرنا إليها من الزاوية الأنتوغرافية والتاريخية، وهي أكثر جمالية إذا ما نظرنا إليها في شكلها الجوهري النابع من حقيقة المعرفية الإنسانية...
ولابد من إعادة النظر في بحث الثقافة العربية المعاصرة ـ والثقافة الجماهيرية على ضوء المستجد الحاصل والتبدل الجديد، أي الانتقال من روح العصر إلى عقل الزمن.
كان مورين قد استخدم عبارة روح العصر وقد يكون استخدم هذه العبارة تعبيراً عن الهروب من المعضلات الأساسية، واختصاراً للتفاصيل دون الغوص في جوهر الحقائق وملامستها للجانب العقلي، أو كي لا يضطر الكاتب إلى الغوص في المشكلات التي تفضي إلى عالم معقّد ومليء بالمشكلات العديدة والطاغية، وخصوصاً تلك التي تعني الدول المسماة بالنامية أو العالم الثالث، فيما شملت المساهمات السابقة المذكورة الحالة الثقافية المسيطرة في الغرب الرأسمالي... وبالرغم من أنها لا تعبّر عن فكر غيبي أو عن الزمان بمعناه الطبيعي وجغرافية المكان لاشتمالها على معطيات بشرية تجاوزت حدود وجودها (إلى الروح البشرية بعامة) وهذا صحيح إلا أن هذا المصطلح لا يتطابق وظاهرة الثقافة الجماهيرية ومعالجتها التي تمّت حتَّى الآن والتي ليست إلا مقدمة للثقافة الجماهيرية من منظورها الاجتماعي والسيكيولوجي ـ المعرفي.
وبهذا لم تتمكن هذه المعالجات من فصل الثقافة الجماهيرية عن المصطلح والظاهرة، لأنها لم تخرق الحدود إلى الروح فقط بل إلى العقل البشري... وعليه لابدَّ من إكمال العملية بالبحث، لسد الفراغ الذي تركته المعالجات السابقة دون غوص عميق... فمثلاً إن مصطلح "الثقافة الصناعية" لا يصلح لكل زمان ومكان، في حين أن الثقافة الجماهيرية كسحت حدود العالم ولم تتوقف على الغرب فقط، فقد صدَّرت إلى كل أصقاع الدنيا، أو استوردت إليها (لطبيعة الأنظمة ووسائل الاتصال) كما تصدر، أو تستورد السلع لسد حاجة اقتصادية اجتماعية (وتسد هنا، هذه البضاعة الثقافية، حاجة روح توّاقة أو عقل مستعد لقبولها والتعامل معها)... حتَّى أصبحت هذه الثقافة المنافس الرئيس في المجتمعات المعاصرة لتمكنها من معالجة قضايا العقل وهمومه، ومسائل الروح ونزعاتها، عبر الدولة كميسّر أول لانتشار هذه الثقافة. والدولة ـ هي السيّد المطلق ـ في مثل هذه الأنظمة ـ والمراقب والمشجّع والمنتج. وعليه فإن إيديولوجية الدولة تلعب دور الرأسمالي نظراً لأنَّ سياسة الدولة الثقافية لا تعطي فرصة للمرونة... وهكذا يستدعي لجوء القارئ (المستهلك) إلى الثقافات الأخرى ولعل هذه المشكلة تواجه كل الدول من اشتراكية ورأسمالية على حد سواء. وعندما تتوازى الإيديولوجيات، التي تشترك جميعها في عملية تسييس الثقافة في المجتمع، يضعف تأثير الدولة في فهم الوضع الثقافي المعاصر... بمعنى أن الدولة التي رآها مورين سيداً مطلقاً، ليست أو لم تعد بالضرورة المسيطر الأكبر على ثقافة المجتمع. ذلك لأنَّ تأثير المجتمع ورأيه، السائد والكامن، هما أكبر دوماً وأشد توسعاً وانتشاراً، فيما أن تأثير الدولة أشد رفضاً وأكثر انغلاقاً في إطار الثقافة المتاحة لمجتمع ما.
وفي هذا السياق عني مورين بعاملين أساسيين في معالجته لهذه المسألة:
الأول: النقد الذي يفهم منه امتحان الثقافة الجماهيرية ليس كظاهرة خارجية، بل كاختبار أفق الإنسان كمراقب ومتلق ومستهلك لها، أي من ناحية تركيبه الإنتروبولوجي والنظام الاجتماعي الذي يؤطّره. لذا فإن الثقافة الجماهيرية ليست فقط موضوع الرؤية، بل مختبرها ومجال البصيرة بقدر ممَّا تقوم على العامل الإنتروبولوجي ـ الاجتماعي.
الثاني: النزعة أو الطموح، نحو الكمال والتكامل. فهي تشمل الطابع الوقائي لأنها تعالج الأمور الصغيرة والدقيقة وصولاً إلى غاية كبرى وهي الربح وغزو الثقافات القومية والوطنية بصورة أساسية. وقد يكون هذا صحيحاً ومعبّراً عن واقع حال الثقافة في الغرب، إلا أنه مختلف تماماً عندما تسحب هذه الحالات على إنسان العالم الثالث... ذلك لأنَّ معالجتها النفس البشرية بدقائقها وسلوكها في مجتمع الغرب الرأسمالي معتمدة آخر معطيات علم النفس والتقنية السيكولوجية وتقود بالتالي إلى تخريب الروح البشرية، لأنَّ إنسانها ـ
مواطنها ـ واقع تحت هيمنة نظام كامل، وتشكل الثقافة السوداء فيه أحد أهم أعمدته...
أمَّا بالنسبة لإنسان العالم الثالث البعيد عن التكنولوجيا والرخاء الرأسمالي ـ وإن كان تحت تأثير الطابع الاستهلاكي الخاص بالرأسمالية ـ فإنه مستهدف لغزو الثقافة الجماهيرية له دون أن يكون اقتصاده متطوراً ونامياً، كما هو حال المجتمعات الغربية، في الوقت الذي تسود فيه الخرافة والأسطورة، وقد دُعمتا بعناصر التكنولوجيا الغربية لتتسيّد وتسيطر على ساحة الثقافة والعقل المعاصر وهذا يعني أن الإنسان هو المقصود بالتخريب...
من هنا وجدنا أن نكمل المشوار الذي بدأه مورين في بحثه للثقافة الجماهيرية المسيطرة في الغرب، لنبيّن تأثيرها على المجتمعات الفقيرة وهي تنعكس في سياسة حضارة الغرب تجاه مجتمعات العالم الفقير بعد طغيان النزعة الاستهلاكية فيه، ومحاولات التخريب الروحية والعقلية البادية في توسّع وانتشار "الثقافة الجماهيرية" في مجتمعاتنا الفقيرة، /أو دول العالم الثالث/.