معنى الحضارة:
لا شك أنَّ المصطلحات الرائجة في هذا الحقل مثل المدنية والثقافة والحضارة غير محددة، وللحضارة وحدها تعاريف كثيرة جداً... وإذا اكتفينا بما تلقيه كلمة الحضارة في الأذهان وهو تقدم المجتمع البشري... فهل تقدم المجتمعات البشرية في الحقول المادية هو حضارة؟ هناك من يرفض ذلك، ولعل المنطق القرآني يرفضه أيضاً. فالبناء المادي مرفوض إذا لم يكن قائماً على أساس معايير إنسانية أو على معايير التقوى بالتعبير القرآني:
(أتبنون بكل ريع آية تعبثون، وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون، وإذا بطشتم بطشتم جبارين، فاتقوا الله وأطيعون) [الشعراء 128 ـ 131]. فالقوة المادية تكون سبب البطش والتجبر إذا لم تكن مقرونة بقيم ذات رصيد ديني. وليس بعيداً عما سبق ذكره، فإنه ليس ثمة إجماع على مفهوم الحضارة، فضلاً عن أنَّ بعضهم يماهي بين هذا المفهوم وبين مفهوم الثقافة، كما أنَّ تصنيفات الحضارة تتفاوت تبعاً لتفاوت المعايير، الأمر الذي من شأنه أن يخلق تناقضات وإرباكات حادة عند الحديث عن صدام الحضارات أو حتى حوارها...
صراع الحضارات:
في عام 1947 ألقى أرنولد توينبي محاضرة بعنوان "الصراع بين الحضارات"، وقد أعيد نشرها في مجلة هاربر لعدد إبريل 1947، ثم ضمنها في كتابه civilization on trial (الحضارة في الميزان) وعلى الرغم من أفكارها العفوية بنى هانتنغتون عليها نصه في المقال الذي نشر في مجلة foreign affairs ـ الشؤون الخارجية ـ وأحدث ردوداً لم تنته بعد، ثم أعاد صوغها في كتابه: the clash of civilizations الذي أصدره لاحقاً وأخذ أبعاداً عالمية وتحول إلى ظاهرة.
وبالعودة إلى الأفكار الرئيسية التي قدمها توينبي في محاضرته. فقد اعتبر أنَّ الحادثة الكبرى والأهم في القرن العشرين، والتي سيقف عندها المؤرخون كثيراً في القرون القادمة هي حادثة اصطدام الحضارة الغربية بسائر المجتمعات الأخرى القائمة في العالم، وتتبع أهمية هذا الحدث من أنه الخطوة الأولى نحو توحيد العالم في مجتمع واحد، وذلك عن طريق تحطيم التراث الاجتماعي الإقليمي للحضارات الأخرى عند اصطدامها بالتراث الاجتماعي الغربي، وإن نوعية وفرادة هذا التوحد الاجتماعي للعالم لا تكمن أو تتمثل في ميدان الفنون الصناعية والاقتصادية، ولا في ميدان الحرب والسياسة، وإنما تتمثل في ميدان الدين.
وأن الديانات الأربع الكبرى ذات الرسالة العالمية التي تقوم اليوم في العالم: المسيحية، الإسلام، والهندوسية، والبوذية، الماهايانية التي تسود في الشرق الأقصى، هي من الناحية التاريخية ثمرة الصراع الذي دار بين الحضارة اليونانية ـ الرومانية ونظيراتها المعاصرة.
فتاريخ الحضارات في نظر توينبي إذن هو صراع بين الحضارات، وأن هذه الحضارات إنما تقوم على الدين كمعتقد رئيسي ومرجع أساسي في قيام الحضارة.
وهنا بدأ الحديث عن صدام أو صراع الحضارات يشغل بال الكثيرين من الاستراتيجيين والمهتمين بالشأن الدولي وبمسألة العلاقات الدولية تحديداً، حيث بات يشغل جزءاً كبيراً من المساحات الإعلامية ـ المقروءة والمكتوبة ـ المخصصة لمعالجة القضايا الدولية، وصار أحد أهم القضايا الكبرى التي تشغل بال المفكرين وصناع القرار في مختلف أنحاء العالم، وخاصة بعد أحداث 11 سبتمبر في نيويورك وواشنطن والتداعيات المرافقة لها. فما هي حقيقة هذا الصراع، وما هي منطلقاته، وما هو موقف الإسلام منه، وكذلك ما هي تداعياته المتوقعة؟.
أشار المؤرخ الفرنسي "بروديل" في كتابه الشهير "المتوسط والعالم"، إلى أنماط من الحضارات الحية أو الكامنة في حوض المتوسط في فصل بعنوان لافت: "الحضارات فردوس البشر وجحيمهم"، ويقول بروديل: "يحتوي المتوسط على ثلاث حضارات هائلة وثلاث مجموعات ثقافية وثلاثة أنماط أساسية في الاعتقاد والتفكير والعيش والأخلاق والمأكل، متجسدة في ثلاث شخصيات لا نهاية لأقدارها، وكانت دائماً قائمة من قرون وقرون متجاوزة حدودها وحدود الدول التي لا تشكل إلاَّ لباساً لها... الحضارة الأولى هي الحضارة الغربية، وعلى الأصح اللاتينية أو الرومانية، والحضارة الثانية هي الحضارة العربية ـ الإسلامية، والغرب والإسلام يجمعهما تعارض عميق يقوم على التنافس والعداء والاقتباس، إنهما عدوان متكاملان الأول ابتكر الصليبية وعاشها، والثاني ابتكر الجهاد وعاشه.
بعد ذلك يأتي الأمريكي صموئيل هنتنغتون، وهو مدير معهد جون أولوين للدراسات الاستراتيجية في جامعة هارفرد، وقد أسندت إليه ما بين عامي 1977 ـ 1978 مسؤولية قسم التحليل والاستشراق في مجلس الأمن القومي الأمريكي، ليصوغ نظريته في صدام الحضارات مقتفياً خطى فرانسيس فوكوياما صاحب نظرية نهاية التاريخ التي ثبت تهافتها.
يقول هنتغتون: إنَّ "شعور الانتماء إلى حضارة معينة سوف يكون له شأن متزايد في المستقبل، وسوف يصاغ العالم إلى حد كبير التفاعل بين حضارات ست أو سبع هي الحضارات التالية: الحضارة الغربية، والحضارة الكونفوشيوسية، والحضارة اليابانية، والحضارة الإسلامية، والحضارة الأرثوذكسية، والحضارة اللاتينية ـ الأمريكية، وربما الحضارة الإفريقية، والصراعات المهمة القادمة سوف تقوم على طول الخطوط الثقافية التي تفصل بين هذه الحضارات".
ويرى هانتنغتون أنَّ الفروق بين الحضارات هي فروق أساسية تتلخص في التاريخ واللغة والثقافة، والأهم الدين. فالدين مركزي في العالم الحديث، وربما كان هو القوة المركزية التي تحرك الناس وتحشدهم، وهذه الفروق الثقافية ليست قابلة للتبديل أو الحلول الوسط، ومع تحديد العلاقات المختلطة بمقياس ديني أو إثني فستنشأ تحالفات في صورة متزايدة تستغل الدين المشترك والهوية الحضارية المشتركة، وبناءً على ذلك سيحدث صدام بين الحضارات.
ولما كان هناك صدام عسكري يمتد عمره قروناً بين الغرب والإسلام فإنه ليس من المرجح أن ينحسر، وإذا أضفنا إلى ذلك التفاعل العنيف بين الحضارة الغربية والحضارة الكونفوشيوسية فإنه من الممكن أن ينشأ تحالف بين الحضارتين الإسلامية والكونفوشيوسية يهدد الحضارة الغربية، ويبشر بظهور صدام حضارات بين الغرب والبقية The west and the rest على حد تعبيره، وبناءً على ذلك فإنه يخاطب الساسة الغربيين محذراً "على الغرب أن يحد من توسيع القوة العسكرية لحضارات معادية محتملة، خصوصاً الكونفوشيوسية والإسلام".
*لماذا الصدام بين الحضارات أو (الثقافات) والإسلام؟
تحمل الثقافة العربية منذ القدم أوهاماً كثيرة تجعل من الإسلام عدواً تاريخياً وتقليدياً للغرب، وليس مصدر هذه الأوهام دينياً وحسب، بل أضيفت إليه، وعلى مر الأيام والتاريخ، عوامل سياسية واقتصادية زادت في أثر هذا العامل الديني وجعلته يتخذ شكل خرافة ضخمة تستقر في أعماق الوعي الغربي، وقد وجدت هذه الخرافة فرصتها الذهبية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي من خلال البحث عن شيطان جديد يحل محل الشيطان القديم الذي تركز وراءه فراغاً عدوانياً لا مناص من ردمه. وكما هو معلوم فإن الذات تجد نفسها عن طريق الآخر. وقد كان واضحاً منذ الأيام الأولى لسقوط جدار الارتطام القديم، بحث الغرب عن آخر يواجهه ويقاومه ويشعر بذاته من خلال الصدام معه. ولم يكن هناك أفضل من الإسلام ليجسد هذا الآخر، ذلك أنه ومنذ القديم شكل الإسلام هذا الآخر.
وهكذا وجد العالم المتقدم من جديد في العالم الإسلامي البديل العدواني للاتحاد السوفييتي، وبدأت الخرافة القديمة بالانبثاق والظهور، وبدأت عمليات النسج الخرافي تلف الإسلام لتظهره على أنه "الآخر"، وكذلك "الوجه المناقض للتقدم والإرث المعادي لمسيرة الحضارة".
وقد بذلت الصهيونية العالمية في هذا الإطار مجهودات كبيرة من أجل تشويه الصورة الإسلامية في الغرب دوماً وأبداً. وذلك بهدف تسميم الأجواء بين الغرب وبين العرب والمسلمين.
إنَّ موقف الغرب المعلن أو المضمرة تجاه الإسلام قد ولَّد ـ منذ البداية ـ في العالم الإسلامي ردود فعل طبيعية حيناً، ومغالية أحياناً، بحيث أدت عمليات الفعل وردود الفعل المتراكمة والمتعاظمة إلى أن يصدق الغرب مزاعمه الأصلية ويؤمن بصحة تخيره شيطانه، وإلى أن تتكاثر في العالم الإسلامي من جانب آخر الأعمال العدوانية تجاه الغرب وهكذا دواليك.
ومما يدعم وجهة النظر هذه أنَّ هنتنغتون نفسه صاحب نظرية صدام الحضارات هومن كبار الاستراتيجيين الأمريكيين، ومقرب جداً من دوائر صنع القرار في أمريكا، وبالتالي فإن نظريته هذه تُعدّ أحد المخارج التي توصلت إليها النخب الحاكمة في الولايات المتحدة والغرب للحفاظ على مكاسبها الناجمة عن استمرارية موازنات الحرب في الارتفاع، وعن تنازل المجتمعات الغربية عن جزء مهم من حقوقها في الرفاه والتقدم مقابل الحصول على قدر أكبر من الأمان تجاه الأعداء المفترضين.
رأي آخر يقول: إنَّ وراء بروز ظاهرة صراع الحضارات أسباباً اجتماعية عائدة إلى أنَّ الهيمنة في داخل العولمة، وسيطرة الاستهلاك والتكنولوجيا أديا إلى تفجر الاختلافات والتمايزات والخصوصيات والهويات القومية والعرقية والدينية والثقافية واحتدام الصراع فيما بينها، مع بروز ظاهرة واحدية الحضارة، ومحاولة فرض السيطرة من قبل الحضارة الرأسمالية.
إنَّ التصور الإسلامي لا يكرس الصراع كقانون تاريخي مطلق كما تقدمه فكرة هنتنغتون، ولكن الصراع في التصور الإسلامي بمعنى التدافع ليس إلاّ سنّة واحدة من سنن الاجتماع البشري إلى جانب سنن الله الأخرى، كما أنه له منطقه المختلف عن مفاهيم الصراع الأخرى، ولذا فإن الجهاد في معناه الواسع ليس صراعاً مع الآخر للقضاء عليه، ولكن أداة لحماية الدعوة ونشرها بين الآخر، ومن ثم فهو أحد أدواته حيث أداة التعاون السلمي تظهر إلى جانبه، ولكل من الأداتين ضوابطهما وشروطهما وليست إحداهما بديلة مطلقة للأخرى.
ولذا فإن القول: إنَّ أصل العلاقة بين المسلمين وغيرهم في التصور الإسلامي هو الحرب أو السلام ليس قولاً منضبطاً، ولكن القول الأفضل هو: متى تكون الحرب؟ ومتى يكون السلام؟ وهكذا يجب أن نقرأ المدارس الفقهية المختلفة حول هذا الموضوع بحثاً عن إجابة لهذا السؤال الأخير، وهو السؤال الذي يحتل في التصور الإسلامي مكانة السؤال في المنظور الغربي حول هذا الصراع كمحرك بين من وعلى ماذا؟
من ناحية أخرى فإن هذا الصراع في صورته العسكرية أو السلمية ليس لتأكيد هيمنة قوم على قوم أو ثقافة على ثقافة أخرى، ولكن لتحقيق أهداف الدعوة والرسالة باعتبارها رسالة للعالمين، ليس بالإكراه والقسر والإجبار للشعوب والأمم، وعلى العكس فإن منطق صدام الحضارات في فكر هنتنغتون يعكس كل منطق التناقض بين عالمية الإسلام وبين هيمنة الحضارة الغربية، أي عولمة النموذج الغربي. حيث إنه، أي فكر هنتنغتون، يعكس تكريساً لهذه الهيمنة وكيفية استمرار قوتها بأساليب إكراهية قسرية إجبارية.
إذاً إنَّ المفهوم الإسلامي عن نمط العلاقة بين الحضارات هو تعارف الحضارات وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، وكذلك حوار الحضارات، حيث ينبني المفهوم الإسلامي عن حوار الحضارات على رؤية الأصول "قرآناً وسنة"، ويعكس الأسس المعرفية للرؤية الإسلامية، ومن ثم يختلف في جوهره عن المفهوم الغربي عن الحوار الثقافي أو الحضاري، كما لا بد وأنه يختلف في غاياته ودوافعه.
ملاحظات حول مقولة صدام الحضارات: إنَّ فرضية هنتنغتون الصدامية تخفي داخلها فقراً فلسفياً واضحاً يبرز أولاً في رفضه فصل الثقافة عن الحضارة، واعتباره أنَّ الثقافة هي الفكرة العامة في كل تعريف للحضارة، ما انعكس بدوره على مفهومه عن الحضارة وربطه بالدين، وهذا خلل واضح إذ إنَّ استخدام مفهوم الحضارة، وبالتالي الدين بوصفه المؤشر الأساسي للتمييز بين أطراف الصراعات الرئيسية في عالمنا الحالي لا يساعد كثيراً في فهمنا لهذه الصراعات.
من جهة ثانية فقد أثبتت أحداث التاريخ أنَّ دور الحس الديني في الحضارة وفي الصراع وفي الحروب، وإن كان قائماً وفاعلاً، إلاَّ أنه ومن خلال تحليل المصالح وسياسات الدول والقوى الاقتصادية ومعطيات الجغرافيا السياسية فإن هذا الحس الديني يتدخل كعنصر "تغيير" لا كعنصر ثبات، وعنصر تغيير للحضارة نفسها ولتغيير هذا الحس على مستوى اللاهوت والعمل والسياسة والأخلاق.
وقد يقول قائل: لماذا لم يكن لهذا الحس أثر في الشرق الإسلامي؟ فذلك لأن هذا الحس قد غرق في فقه سلطاني ولم يأبه للتحولات الحاصلة في العالم لا من قريب ولا من بعيد.
إنَّ الأشكال الصراعية التي يصفها هنغتنتون بالصدامات بين الحضارات لا تعدو أشكالاً من الممانعات الثقافية وحركات الاحتجاج والرفض والحروب الأهلية الناتجة عن عجز الحضارة الغربية عن أن تصبح عالمية مستوعبة لتنوع العالم، وذلك بسبب تطابقها مع مشروعها الرأسمالي وتحولها واستدخالها لمنطقة في الربح والسيطرة والاستهلاك، وبالتالي بسبب إعاقة هذا المشروع لخطط التنمية التي فشلت في بلدان الأطراف فشلاً ذريعاً وتحولت في مظاهرها العالمية الغالبة إلى حضارة "صورة" و "سلعة" يتجاذبها تناوب المتعة والملل السريعين لدى الميسورين، والحقد والجوع والعنف لدى المحرومين.
ما لا يقولـه خطاب "صدام الحضارات" هو أنَّ انبعاث الثقافات الفرعية لحضارة قديمة كالحضارة الإسلامية على سبيل المثال، هو صيغة من صيغ يقظة المغلوب الذي يلجأ إلى الذاكرة الجماعية الثقافية للاحتماء والاحتجاج والرفض، وأن الثقافة أو المصادمة اليوم، والتي تصدر عن مخزون من الذاكرة الجماعية والمقدس الديني، ليست حضارة بالمفهوم الذي يبني أنساقاً فكرية وفلسفية وإبداعية وإنتاجاً للمعرفة على المستوى الإنساني والعالمي، كما كان شأن الحضارة الإسلامية سابقاً، بل إنها نمط من ثقافة فرعية لحضارة أصبحت في حال العرب والمسلمين تراثاً وتاريخاً ومشروع استلهام حضارة إسلامية جديدة.
إنَّ العرب والمسلمين اليوم، لا ينتجون وسائل الحضارة الإنسانية الحديثة، ولا علومها، ولا فلسفتها، أما العودة إلى معالم الحضارة الإسلامية إبان ازدهارها فهي عودة إلى التاريخ واسترجاع الذاكرة أو دراسة لمرحلة، وفي الحالتين لا تملك "الحضارة الإسلامية" بما هي تراث، ديناميت التصادم مع الحضارة الغربية الحديثة.
إنَّ الشعوب الإسلامية تبحث عن مشروع حضاري جديد لا يمكن للإسلام إلا أن يكون في قلبه، ولا يمكن لمعطيات الحضارة العالمية إلاًَّ أن تكون مادة اقتباس وتوليف وهضم له.
إذاً ماذا نسمي كل هذه الصدامات في العالم والتي يزهو هنتنغتون بتعدادها في مقدمة رده على مساجليه عبر إعطاء نماذج من عالم ما بعد الحرب الباردة؟
الواقع أنَّ أمثلة هنتنغتون هي نماذج من تكوينات طائفية ـ دينية ـ وإثنية ـ وقبلية ـ كانت موجودة في عالم الحرب الباردة، بل في عالم ما قبل الحرب الباردة، وهذه التكوينات كانت جزءاً من نسيج اجتماعي ساد عوالم حضارية قديمة انتظمت في أطر من الجغرافيات السياسية والتاريخية. عالم الصين والهند، والعالم الإسلامي العثماني... هذه التكوينات الثقافية لم تتحول إلى عناصر صدام إلاَّ مع التفكك والتفكيك الذي حصل لها بفعل عوامل ذاتية وخارجية.
*وماذا بعد؟
إن الحديث عن صراع الحضارات لم يقتصر على الدائرة الفكرية في الغرب، ولم يبق ـ في أحسن الأحوال ـ في أدراج الاستراتيجيين وصناع القرار الغربيين كخيار مطروح، وظهر أنه ليس لعبة يتلهى بها الرأي العام الغربي في أطر مضبوطة تؤدي وظائف بعينها وكفى.
لقد كان الحادي عشر من سبتمبر الحدث الذي مزق الستار الشفاف الذي كانت تتخفى خلفه كتل الحقد العنصرية لتنجرف كالسيل حمماً وبراكين في فلسطين والعراق وفي الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، وليعبر عنصريو الغرب في فرنسا وإيطاليا وإنكلترا وبلجيكا وهولندا عن حقدهم الدفين بكل أريحية وبدون وجل أو شعور بتأنيب الضمير، فالآخر الذي هو الإسلام، هو عدو لا بد من محاربته بدون رحمة!!
وبعد أن أخذت تجليات مقولة صراع الحضارات تتمظهر فاقعة وعلى صعد مختلفة تجاوزت من خلالها المقدمات لتبدأ نهشاً في المتن، والمتن ليس إلاَّ حضارتنا، حاضرنا ومستقبلنا فهل يكفي أن ندعو لحوار الحضارات في وجه سياسات تعرف تماماً ماذا تريد، أم أنَّ الأمر يتطلب تطوير استراتيجيات