ثالثاً :- أسباب عزل السلطان عبد الحميد الثاني :
يرى البعض بأن الصفة التي اتسم بها السلطان عبد الحميد الثاني والمتمثلة في مقاومته لكل من الحركتين الصهيونية والماسونية ،هي الدافع الاول لعزله عن العرش ، حيث تشير المخططات الماسونية الى ان (( الأفعى اليهودية تتغلغل في قلوب الأمم التي تقاومها ، بواسطة الماسونية ، وهي تتم تطويق الأرض حين تصل الى فلسطين )) ( ) .
كما جاء في بروتوكولات حكماء صهيون وبالتحديد البروتوكول الرابع الذي جاء فيه (( من ذا وماذا يستطيع ان يخلع قوة خفيه عن عرشها وهذا هو بالضبط ما عليه حكومتنا الان ... المحفل الماسوني المنتشر في كل أنحاء العالم يعمل في غفلة كقناع لأغراضنا ولكن الفائدة التي نحن دائبون على تحقيقها من هذه القوة ] الماسونية [ في خطة عملنا وفي مركز قيادتنا لا تزال على الدوام غير معروفة للعالم كثيراً ))( ).
ان هذه الإشارة الى الطريقة التي كانت تعمل بها الحركة الماسونية ، وان جعلها سرية وغير معروفة ، يُغري الآخرين بالدخول فيها من اجل معرفة أسرارها خصوصاً المغامرين ، وطلاب الشهرة والنفوذ ، وان ميدان عملها يكون اوسع واكبر في الساحة التي لا تستطيع دخولها بشكل علني ، والتي تواجه فيها بالمقاومة ، كما ان سريتها تفقد الشخص ثقته بمن حوله ، وهذا ما فعلته بالضبط مع السلطان عبد الحميد الثاني ، اذ أوجدت له جواً من عدم الثقة بمن حوله ، حتى دفعته لزرع الجواسيس في جميع أرجاء البلاد ، بل حتى في أركان قصره وجعلته بدافع عدم الثقة والتشكيك بالنوايا الى ان يتصرف بشكل يعود بالأذى على الدولة العثمانية ، كما دفعته الى ان ينفذ وبصورة غير مباشرة ما خططوا له ، فهم إعلامياً يصورون له الأوضاع على غير حقيقتها ليدفعوه لاتخاذ قرار هم وضعوه سلفاً ، كما حدث مع مشكلة الارمن وفي هذا أشار الباحث بيري جامج (Barry Chmich) الى ان (( ... ما حصل للأرمن من مجازر ، كانت متعمدة ، حسب ما اشارت به الحقائق التأريخية والتي عدتها ابادة جماعية لهم ... وأنها حدثت نتيجة ... تخطيط اليهود )) ( ) .
كما أشار مصدر اخر ، الى دور اليهود والماسونية في دفع السلطان عبد الحميد الثاني لارتكاب مجزرة الأرمن اذ قال : ((... لم تكن هذه الا نتائج مخططات اليهود والماسون لايقاع السلطان عبد الحميد ]الثاني] منذ عام 1894 ، حيث دبروا اقناعه بضرورة ارسال الاكراد وهم (مسلمون) لمحاربة الأرمن وهم (مسيحيون) حيث ذبح اكثر من (300.000) أرمني))( ) .
ومن خلال ما تقدم يمكننا القول ان اختيار الماسونيين واليهود لقضية الأرمن لتكون احد محاور العمل الصهيوني الهادف الى إسقاط السلطان عبد الحميد الثاني ، تعود لعدة أسباب من وجهة نظرنا وهي :
1. ان السلطان يدين بالدين الإسلامي ، والأرمن أقلية تدين بالديانة المسيحية وهم مخلصون للسلطان ، وهذا ما لا يرغب به اليهود فهم دائماً يحاولون زرع مشاعر البغض والكراهية بين الدين المسيحي والإسلام ، وتذكية روح الخلاف الدائم بينهما ليتسنى لها كسب الطرفين لتحقيق مصالحها .
2. ان هذه الأقلية تمثل جزءاً من أمة يستقر جزء كبير منها في أراضي خاضعة لروسيا التي دخلت في حروب طاحنة مع العثمانيين ، كما ان مشاعر الكره والعداء مستمرة بينهما ، لهذا كانت هذه الأقلية من الأرمن الأكثر ملائمة في مخططات الماسونيين ، لخلق المتاعب من اجل إضعاف وإسقاط الدولة العثمانية .
3. تشويه سمعة السلطان عبد الحميد الثاني ، من اجل اثارة الرأي العام الأوربي للحصول على الدعم الدولي المسيحي من اجل إسقاطه ، خصوصا ان من ذبحوا هم من اتباع الديانة المسيحية ، وهذا من شأنه ان يؤدي الى تحالف القوى الكبرى المسيحية وعلى رأسها (بريطانيا، فرنسا، وروسيا) لتنفيذ المخططات الصهيونية بإسقاط السلطان عبد الحميد الثاني .
ومن اجل تحقيق مثل هذه الأهداف اعتمدت الحركتين الصهيونية والماسونية على الغش والخداع وتلفيق التهم الى خصومها ، اذ أشارت الى مثل هذا المنهاج الصهيوني الخبيث في قولها (( لماذا أوجدنا أساليبنا السياسية المعقدة ان لم تكن بغية تلقينها الى الخوارج الأغبياء الذين لا يدركون من أغراضها الخفية أي شيء بل يكتفون بالتعلق بظواهرها ، لقد اعتمدنا أساليب الغش والخداع في الوصول الى أهدافنا لأننا اعجز من ان نصل إليها بالقوة وعندما احدثنا الماسونية جعلنا أغراضها الحقيقية وقفاً على أنفسنا ولهذا يضل الغرباء المنتسبون اليها جاهلين لأغراضها الحقيقية ، ولقد نجح أسلوبنا اكثر مما كنا نتوقعه ، فأجتذب الى الماسونية رغم كل ما يحيطها من غموض وابهام كثيراً من (الخوارج)( )... فجعلناهم في خدمتنا ،دون ان نشعرهم بأهدافنا الخفية لأيقاد نيران الثورات والحروب ، التي ستقضي على الدول والأنظمة الحالية قريباً ، عندها سنفرض عليها سلطاتنا الكونية العامة ، ومن ثم سنسحق كل من يقف في وجهنا دون رحمة او شفقة ... وريثما يتحقق ذلك سنكثر من المحافل الماسونية ، وسنضم اليها اكبر عدد من الوصوليين والانتهازيين ، وسنوصلهم الى مراكز الجاه والسلطان ليوفروا لنا بدورهم الفرص المواتية لنفث جراثيمنا الفتاكة في نفوس شعوبهم ومن ثم سنفرض عليهم سطوتنا وتحقيق مأربنا ))( ) .
ان ما تقدم من حديث يعد دليلا لما حصل للدولة العثمانية ،فقد عصفت بها الفتن وتفككت بعض أجزائها واختلف سكانها واستعلت قومية على أخرى ،واظهر هذا كله ضعف حكم السلطان عبد الحميد الثاني ، حتى بات مقتنعاً من انه لا يقوى على محاربة اليهود والماسون ،بعد ان اظهروا له مدى قوتهم حتى أذعن لهم بإعادة دستور عام 1876 ، الذي عطله في شباط 1878 ( ) ، دون ان يعلم انهم بذلك سيكونون من اقرب الناس اليه ، وبواسطة الدستور الذي أعيد العمل به في تموز 1908 ( ) ، تمكنوا من تثبيت أقدامهم في الدولة الجديدة .
وهذا لا يعني ان ما ذكرناه سابقاً ، من موقف السلطان عبد الحميد الثاني المعادي للأماني الصهيونية ، كان السبب الوحيد لخلعه من العرش ، وانما كانت هناك أسباب أخرى يمكن إضافتها للسبب الأول والأساس المذكور أعلاه ، والتي استخلصناها من خلال ما أظهرته الشواهد والدلائل التاريخية وبعض كتابات الباحثين التي تناولت سيرة السلطان عبد الحميد الثاني وأحداث عصره من تطورات سياسية واجتماعية ، حتى انتهائه بالعزل عن الحكم . وهذه الأسباب التي توصلنا اليها هي :
1. ان خلافة السلطان عبد الحميد الثانـي ، لم تكن تمثل الاسلام ولا لغة القرآن وانما كان يستخدم اسم الخلافة للسيطرة والحكم، وهذه كانت دعوة أعدائه فهم عزلوا السلطان لا نقاذ الخلافة ، الا ان الذي توضح فيما بعد خلال فترة حكم الاتحاد والترقي ،ان الخلافة زالت معالمها وحلت اللغة التركية محل اللغة العربية لغة القران ( ) ، وأصبح السلطان الجديد مجرد واجهة وألعوبة بيد دعاة القومية التركية المتطرفين ،الذين مارسوا سياسة التتريك قسراً على جميع شعوب الدولة العثمانية رغم اختلافهم القومي ( ) .
2. ان السلطان عبد الحميد الثاني ، لم يكن حازماً في وسائله التي كان يستخدمها ضد خصومه من الاتحاديين وغيرهم ، وانما كانت وسائل غير مجدية وغير فعالة ، تتلخص بإسداء النصح إليهم واستمالتهم بمنحهم المناصب العالية ، او نفيهم وتحديد إقامتهم هنا او هناك مع مخصصات مالية اكبر من رواتبهم الأصلية ( ) ، مثلما فعل مع كاظم باشا احد اكبر المتآمرين على السلطان عبد الحميد الثاني في عام 1896 ، إذ نفاه حاكماً على شقودره في البانيا ( ). وهذه الصفة تمثل احد عوامل الضعف لدى السلطان التي استغلها خصومه للتخلص منه .
3. انتهج السلطان عبد الحميد الثاني ،أسلوباً كان يدعوا الى حكم الفرد الواحد والسعي الى الانغلاق ، والاعتماد على أساليب تهدف الى تقويض الحريات العامة كالتجسس العام ، ومحاربة الأفكار التحررية ( ) .
4. ضعف الجهاز الحكومي العثماني ،ففي الوقت الذي كانت فيه الحكومة العثمانية صارمة تجاه الهجرة اليهودية علناً ، الا ان تلك الحكومة كانت لا تملك لا السلطة المعنوية ولا القوة الفعلية التي تمكنها من تطبيق قوانينها وفرض إرادتها ،فقد كان الجهاز الحكومي العثماني فاسداً يتلقى الرشاوي ويسهل دخول القادمين من اليهود الى فلسطين او الى أماكن أخرى ضمن الدولة العثمانية فكان العامل المادي نقطة الضعف التي استغلها المعارضون وأعضاء جمعية الاتحاد والترقي لتقويض حكم السلطان عبد الحميد الثاني واكتساب المؤيدين لجانبهم ( ) ، وبسبب هذا الخلل تمكن اليهود من الاستيلاء على الاراضي في فلسطين ، رغم موقف السلطان الرافض لذلك والتي تقدر بـ(25) الف دونم في عام 1882 و(107)الف دونم في عام 1890 و(220) الف دونم في عام 1900، الى ان أصبحت في عام 1914 (420) الف دونم( ) .
5. ظهور حركة التمرد الاجتماعي ، التي ما لبثت ان تحولت الى حركة تحرر قومي في مختلف أنحاء الدولة العثمانية ، بسبب فرض الضرائب الباهضة على الرغم من التدني الاجتماعي والفقر الذي كانت تعاني منه سائر الولايات التابعة للدولة العثمانية ، فشاع التمرد بين القبائل العربية في اليمن وحوران وجنوب فلسطين وجبل الخليل ،وانتفاضة جبل الدروز في الأعوام 1896،1899،1906 ، وانتفاضة حلب 1895 ، وانتفاضة بيروت 1903( ). اذ كان لتلك الحركات أثر كبير في خلخلة أركان الدولة العثمانية .
6. التوجه الالماني في التوسع نحو الشرق (الممتلكات العثمانية) وعلاقة السلطان عبد الحميد الثاني الجيدة مع ألمانيا ، وتسابق الدول الأوربية الكبرى ، في الحصول على المزيد من الامتيازات بمنافستها ألمانيا ، أي كل من فرنسا وبريطانيا في الدولة العثمانية ، واختيار السلطان عبد الحميد الثاني ، المانيا على هاتين الدولتين ، جعلهما الحاضنة المثلى لكل حركات التمرد والعصيان( )، ضد السلطان عبد الحميد الثاني( ) .
7. اعتماد السلطان عبد الحميد الثاني ، على الدول الأوربية في رفع مستوى قواته المسلحة فقد أظهرت الحرب العثمانية – الروسية (1877-1878) ، ضعف وتخلف الجيش العثماني ( ) ، مما اضطر السلطان عبد الحميد الثاني الى الاستعانة بكل من فرنسا وبريطانيا والمانيا من اجل تدريب الجيش العثماني وبهذا أتيحت الفرصة الذهبية لتلك الدول من اجل استمالة الجيش وخاصة كبار الضباط وكسب ولائهم، اذ ان اكثرهم كانوا قد انضموا الى الحركة الماسونية او كانوا من يهود الدونمة ، أصلا وكثيراً ما يثار سؤال عند حدوث الانقلابات عن دور الجيش والى أي صف يكون ، ولكن في حالة الدولة العثمانية كان الجيش وكبار الضباط هم من ساعدوا على قيام الانقلاب في عام 1908 وإسقاط نظام حكم السلطان عبد الحميد الثاني في عام 1909 ، أي بمعنى آخر ان الجيش هو قائد الانقلاب ولاسيما الكتائب الموجودة في مقدونيا ( ) .
8. اكتشاف النفط في بعض الولايات التابعة للدولة العثمانية ، في العراق مثلاً عام 1871، وفي مصر عام 1908 ، وكانت هذه الاكتشافات للنفط قد دفعت السلطان عبد الحميد الثاني ، الى إلحاق ولايتي بغداد والموصل بسلطته المباشرة ،عام 1888، وعام 1898 ، حماية لها من الأطماع الأجنبية وعاد ليجدد ذلك بفرمان آخر صدر في عام 1902 ( ) ، لهذا يمكن عد النفط احد الأسباب التي دفعت بريطانيا وفرنسا الى تشجيع التمرد والثورة ضد السلطان عبد الحميد الثاني .
9. بالغ الكثير من الكتاب والباحثين في قوة جهاز الجاسوسية لدى السلطان عبد الحميد الثاني ( ) ، الا ان الأدلة التاريخية تؤكد لنا ان هذا الجهاز كان حاله حال أي جهاز استخباري آنذاك ، بل ان الأحداث تؤكد ضعف ذلك الجهاز ، والذي هو احد أسباب سقوط السلطان عبد الحميد الثاني ، ففي مذكراته يذكر السلطان عبد الحميد الثاني في حديثه عن احد معارضيه من رجال جمعية الاتحاد والترقي ، المدعو ناظم بك ، بأنه شخص متقاعس وعديم الهمة وانه عضو غير فعال في جمعية الاتحاد والترقي( ) . الا ان الحقيقة التي تؤكدها الأحداث ، هو ان الدكتور ناظم بك ، كان من ابرز ، ان لم يكن أفضل رجال الجمعية الذي كان له دور كبير في تنسيق عمل الجماعات المعارضة لحكـم السلطان عـبد الحميد الثانـي المنتشرة داخل وخارج الدولة العثمانية( ) .
اما الدليل الثاني ، فهو تمكن أعداء السلطان عبد الحميد الثاني، من اختراق هذا الجهاز والوصول الى مكتب السلطان عبد الحميد الثاني في قصر يلدز وان يضعوا له تهديداً بالقتل على منضدته ( ) . والدليل الثالث، وجود بعض المتآمرين ضد السلطان عبد الحميد الثاني ، في أركان حكومته ، دون علم جواسيسه ويظهر ذلك في شخص القنصل العثماني في فيينا نوري بك الذي قدم الى هرتزل في عام 1904 ، مشروعاً غريباً للحصول على مبتغى الصهيونية بالقوة ، وكان مقترحه ما يلي (( أبحروا الى البسفور في باخرتين ونسفوا يلدز [قصر السلطان عبد الحميد الثاني] ، ودعوا السلطان يهرب او اقبضوا عليه وعينوا سلطاناً اخر (مراد او رشاد) ، ولكن قبل ذلك أقيموا حكومة مؤقتة تعطيكم الامتيازات لفلسطين ))( ) .
الدليل الرابع ، بلغ عدد المنتمين الى جمعية الاتحاد والترقي سبعة الاف شخص دون ان تعلم الحكومة بهم في سلانيك ( ) ، فأين كان جواسيس السلطان عبد الحميد الثاني من ذلك ؟ لذا كان اعتماد السلطان عبد الحميد الثاني ، على جهازه الاستخباري الضعيف احد اسباب سقوطه لانه لم يستطع تقدير حجم عدوه الحقيقي بسبب ما كان يصل اليه من معلومات امتازت بعدم الدقة .
ومما تقدم يمكن القول ان موقف السلطان عبد الحميد الثاني المناهض للحركة الصهيونية ، لم يكن السبب الوحيد الذي أدى الى خلعه ، وإنما هو عامل مهم وقف في مقدمة تلك العوامل التي عجلت من نهاية عهد السلطان عبد الحميد الثاني .