الصين
الصين بلد عظيم صاحب حضارة قديمة كباقي الحضارات القديمة في العالم ، لكنه خضع في مرحلة تاريخية إلى الاستعمار ، وعانى الشعب الصيني العذاب والبؤس جراء ذلك الاستعمار ، لكنه استطاع التخلص من عبودية الاحتلال ، وأسس جمهورية شعبية حقق فيها مكانة متقدمة في التطور العلمي والاجتماعي ، وأصبحت الصين إحدى الدول العظمى في التاريخ الحديث .
هذه الحكاية تروي التقاليد القديمة للشعب الصيني وعن مناقبه كشعب عظيم ونبيل وقوي ومكافح .
حكاية اله الخزف " البرسلان "
من هو أول إنسان اكتشف سرّ الخزف؟ من الذي اكتشف سر الغبار الناعم الذي يتحول إلى أحجار بلورية بيضاء مثل الثلج في أعالي الجبال؟من هو مكتشف الفن الرائع للبرسلان الخزف؟
نعم انه فو Pu ، الإنسان الذي رفعه الصينيون القدامى إلى مرتبة اله واعتقدوا به طيلة قرون ، إنه "فو" إله الخزف البرسلان.
لكن في الحقيقة فان الرجل العبقري الذي عمل في أفران صهر التراب كان قد عاش قبل ذلك بكثير ، فقبل خمسة آلاف سنة كانت الإمبراطورية الصفراء قد علمت رعاياها فن التشكيل بالتراب للجرار الرائعة التي يتم شّيها في النار المستعرة في الأفران، وبعد ذلك بألفي سنة ولد فو الرجل الذي أراد رب السماوات له أن يكون إلها للخزف .
حتى الآن يتم الاحتفاظ بأعمال العظيم فو التي خلّفها لتكون ملهمة لعمال الفخار والخزافين الذين يخبئون سر الفن العظيم.
والأشياء التي خلفها فو تشبه كنوز بورسلانات صافية كالسماء ، وبراقة مثل المرآة وأنوار الشفق مع طيران اللقلق فوق البحيرة والبيضاء مثل الثوب وندى دمعات الأرامل اللواتي لم تتم مواساتهن.
والأكواب الكبيرة على شكل حرباء فعندما تكون فارغة فإنها تحتوي على بياض اللآلئ ، و عندما تفيض بالماء ،تبدو كأنها مليئة بأسماك الأرجوان .
والتي للسماء عند المغيب الأزرق مع غبار النجوم وانعكاسات القمر. والخضراء التي لخضار طازجة. مع غيوم المرمر. والشموس محاطة بتنينات سماويات ..والكثير الكثير من الأعمال الفنية الرائعة لـ" فو".
لقد نسي الناس الكثير من الأسرار التي علمهم إياها إله الخزف . لكن الذاكرة لم تفقد التاريخ العاطفي لإله البرسلان.
ربما أحد كبار السن من الذين يطحنون الألوان طيلة اليوم في مصانع البرسلان الضخمة، ربما أحدهم يكون قادرا أن يروي لنا إن فو كان عاملا صينيا بسيطا وراح بالتدريج يتطور إلى أن صار فناناً عبقرياً عظيماً ، و له قدرة فائقة على الصبر.
كان يوّلف بين الألوان ، ويمزج التراب ، وكان يرسم ، و ويجلس على ركبتيه أمام الأفران بانتظار أن يخرج منها عمل كامل وجديد لا يعرفه الناس .
لقد حصل على سمعة كبيرة ، لقد ظنه الكثيرون ساحراً ،عالماً بالأسرار التي تبدل الحجارة إلى ذهب ، وقد سُمِح له بقراءة أسرار الكون عبر النجوم. لهذا كان من الممكن أن تخرج من بين يدي "فو " الأشكال الرائعة ونغمات النور السحرية من البرسلان الناعم.
في يوم من الأيام استطاع العامل الساحر أن يبعث بأحد أعماله المذهلة إلى الإمبراطور .
وراح الإمبراطور ابن السماء وهو مندهش يتأمل الجرة الرائعة التي تظهر عليها انعكاسات الفضة والشمس مع العاب نارية ، تغير لونها مع كل حركة لكل من ينظر إليها ،
فأمر ابن السماء أن يحضروا له ذلك العامل العجيب. وفي الحال أُخذ البسيط فو إلى صالة العرش .
ركع "فو" أمام الإمبراطور ثلاث مرات كي يلمس الأرض بجبهته ثلاث مرات متذكرا أوامر الكاهن اغوستوAugusto .
قال الإمبراطور:
" بنيّ لقد قبلنا هديتك اللطيفة ، ولكي نثبت لك سعادتنا بعملك المفرح فلقد قررنا منحك خمسة آلاف قطعة نقدية من الفضة ،لكن اسمع هذا جيدا:
" سيكون لك ثلاثة أضعاف هذا المبلغ إذا تمكنت من صناعة جرة لها ألوان و ملامح اللحم الحي ".
اسمع جيداً :" لحم يرتعش لكلمات الشعراء المبهجة ، ويتعكر ، ويتأثر بالأفكار، فكر بطلبنا هذا وعليك بالطاعة!! " .
انسحب "فو" من القصر ملتاع القلب ، وهو يسأل نفسه: كيف يمكن للإنسان أن يمنح للمادة الميتة نبض الحياة وهو سر المبدأ الأعلى؟
كان "فو" يعمل دائما كي يحقق أشياء لم يعرفها أحد من قبل, فلقد تعلم من الزهرة اللمسة الناعمة والحساسة . والأخضر الزمردي من الجبال ، والأزرق والدم من الشفق ، واللمعة البراقة من الذهب ، والأخضر المزرق من الأفعى ، وقزح الفضي من الأسماك، لكن كيف يستطيع الإنسان أن يمنح التراب ملامح اللحمة الحية ؟ وأن يجعلها قادرة على الارتعاش مع نبرات الكلام وفي ظلال التفكير؟
في كل الأحوال كان عليه أن يطيع ، وينفذ طلب الإمبراطور ، كان عليه أن يفنى في المحاولة من اجل إسعاد ابن السماء.
في ورشته مزج التراب والألوان ،عجن وفرك بيده ، وركع أمام النار، يتوسل الإله ، لكن من غير نتيجة ..
وعلى هذه الحال مرت الشهور ، وعبثاً كانت توسلاته للفرن في أن يساعده .
:" آه !! أنت يا عبقري النار في الأفران ساعدني !! كيف اقدر من تلقاء نفسي أن انفخ الحياة في الصلصال؟ كيف أقدر على منح هذه القطعة الميتة صفات اللحم الذي يقشعر للأفكار؟
فأجابه عبقري النار بلغته العجيبة وهي ألسنة النار:
" كبيرة هي نيتك الطيبة ،لكن هل يقدر أي ميت أن يتبع أثار التفكير وارتعاشات الحياة "؟
وعلى الرغم من هذه الإجابة المخيبة لآماله ، استمر العامل الطيب بتجاربه بلا توقف ، و عبثاً كان كل ذلك ..
لقد نفد منه احتياطي الخزف ، وقد خارت قواه ، وأنهك عبقريته وكذلك نفد صبره المقدس ، وبدأ المرض يأكل منه ، وحلت عليه الفاقة والشقاء.
وحاول من جديد ، لكن بلا قوة ، لكن في اللحظة التي كان على الفرن أن يصهر فيها تراباً وألواناً في مادة شفافة ، ارتجفت واهتزت الطاولة الفقيرة والمتسخة بالألوان بينما كان "فو" يشتكي وفي قلبه لوعة ..
"آه يا عبقري النار في الفرن!! إذا لم تنقذني فكيف لي أن أضبط رنة ونفخة الحياة التي ينتظرها ابن السماء؟ "
فأجابه صوت النار بشكل غرائبي:
" تريد أنت أن تفعل ما يفعله الملون اللامتناهي الذي يصنع قوس قزح بأقلام ضوئية؟" فعاد " فو" من جديد إلى العمل.
أحيانا كانت الألوان تبدو وقد انصهرت في التدرجات المضبوطة ، وسطح الجرة كان يهتز بالألوان مثل لحم حيّ ، لكن عندما راحت تبرد فكانت تتجعد وتتشابك خطوط فيها كأنها جلدة فاكهة يابسة .
وعاد " فو" يتضرع ويتوسل باكيا :
" آه يا عبقري النار!! إذا أنت لم تساعدني !!كيف لي أن أصهر خزفي وأحيله لحما حيا في فرني ؟
فأجابه عبقري النار بشكل غرائبي للمرة الثانية: "هل تسعى لإعطاء الروح إلى الحجر؟ هل تقدر أنت أن تجعل باطن الروابي الغرانيتية تقشعر وتحس بالتفكير؟"
صرخ فو وهو محبط جدا:
" أيها الرب الجبار !! لماذا تتخلى عني؟لماذا نسيتني أنت يا من عبدتك دائما؟"
عندها قال عبقري النار بصوت من نار:
" أنت تريد أن تعطي روحا للشيء الذي صنعته ، لكن الروح لا يمكن قسمتها ، لا يمكن أن تعطي قسما من روحك ؟ إني احتاج إلى روحك كاملة مقابل إعطاء الروح لعملك ".
نهض " فو" وقد امتلأت عيناه بالحزن ، لكن قلبه كان منفطرا .
وللمرة الأخيرة أعد "فو" عمله ، نخّل الرمل مائة مرة ، وكذلك التراب الناعم جداً غسله بالماء الأكثر صفوا لمائة مرة وعجنها بحب .
راحت الألوان تمتزج رويداً رويدًا ليتوصل إلى الدرجات التي حلم بها ابن السماء .
وفيما بعد بدأ العامل الملهم يعطي شكلا لتلك العجينة الصافية النقية ، يلمسها ويداعبها بأصابعه ، حتى صار جلد الجرة الرائع كما لو انه قبض على خفة وشفافية الحرير و ونعومة الشمع الزهري ودم من لحم الأميرات .
عندها أمر فو المساعدين أن يغذوا الفرن العظيم بأغصان ناعمة وصافية من شجرة الشاي .
وخلال تسعة أيام وتسع ليالي كان الفرن مشتعلا أحمر يتغذى على أغصان شجرة الشاي النقية والناعمة .
وخلال تسعة أيام وتسع ليالي حرص الرجال على أن تلفّ النار الجرة الوحيدة التي كانت تتجسد في لحم سحري .
مع اقتراب الليلة التاسعة أمر "فو" مساعديه أن يذهبوا ليرتاحوا فلقد بدا العمل ، وقد انتهى ، وقال لهم:
"مع بزوغ الفجر إذا لم تجدوني هنا فاخرجوا الجرة من الفرن، إذ أنه في تلك الساعة ستكون كما أراد ابن السماء ".
و بقي "فو" لوحده قبالة الفرن في الليلة التاسعة ،ركع أمام النار، وقال أمنيته إلى عبقري اللهب:
"آه ياربّ النار لقد استوعبت أعماق معاني كلماتك ! إقبل حياتي فداء لحياة عملي وروحي فداء لروحها ".
وقبل أن تنتهي الليلة التاسعة ألقى" فو" بنفسه إلى النار الحية في الفرن .
عند فجر اليوم العاشر جاء العمال ليخرجوا الجرة الغالية من الفرن ، لكنهم لم يجدوا معلمهم!! لكن يا للمعجزة !! كانت الجرة متأججة بحق مثل اللحم الذي يقشعر مع نسق الأفكار.
وإذ لمسوها ببصمة إبهام فقط أصدرت صوتا خفيفا كصوت روح موجوعة ، جعلت الأسماع تلتقط بالأنفاس اسم الذي صار بعد هذا إله الخزف.