نسيت أقول في أول كلامي أنني حاولت البحث عن الجهة المسؤولة عن الفاو ، حيث أذكر أنها كانت جامعة الملك سعود ممثلة بقسم الآثار والمتاحف ، وهذا مثلما أشرت أنه قبل حوالي العشرين عاما أو تزيد .. في أواخر شتاء العام الماضي قررت زيارة القرية لمناسبة الطقس جنوبا ، واتصلت بالجامعة فأخبرني أحد موظفي القسم بأن خبري عتيق على قولة الكويتيين !! وأن الجهة المسؤولة عنها هي وكالة وزارة التربية والتعليم لشؤون الآثار ، حاولت الإتصال بالوكالة لكن لم أستطع التوصل لخبر يقين حول كيفية الوصول أو السماح بزيارة المدينة المذكورة ، بحثت في النت يمين وشمال لم أجد شيئا ، سألت البعض من الأصدقاء فوصفوا لي هجرة الفاو الواقعة شمال أم عشر !! فقلت : هالحين تذكرون قرية كبر بيز الدلة وتنسون آثار عمرها أكثر من ألفي عام ؟؟
توكلت على الله وعزمت المسير لها خاصة بعد أن قرأت في منتدى مكشات تأكيد أحد الأخوة هنا ( نسيت اسمه ) بأنه زارها ووجد الباب مشرعا ، المهم توكلت على الله وقلت إذا وصلنا خير ، وصلت لشبك الآثار قبيل الساعة السابعة صباحا ، ووجدت الباب موصدا بقفل كبر أقفال محلات قطع الغيار اللي بالصناعية !! إنا لله وإنا إليه راجعون ،، كان واحد معطيني كف !! وش يبي يفكنا من أبو عبدالله ؟؟ وش السواة ؟؟ قال اللي تبي سووه ، قلت أنا أقدر أتزحلق تحت الشبك أو أنط ، بس أنت كيف تدخل ؟ تقدر تنط فوق الشبك ؟ قال : أنا يبي لي ونش أو احتريك برا !
بالقرب من بوابة الشبك كان يوجد غريفات صغيرة وإلى جوارها حوش به عدد من النوق وعدد من الشجيرات ، وبقربها سيارتي جيب ونيت .. توجهت بمحاذاة الشبك شمالا حتى وجدت أنه ينتهي وبإمكان سيارتنا الجيب عبوره ، تنفست الصعداء حينها ، لكن قلت لابد من المرور على تلك الغرف ومعرفة كيف الدخول للمكان ، فقد يكون لديهم خبرا بذلك ، أو أنهم المسؤولون عن الدخول ، ولو دخلت .. فأعرف بعض أهل تلك المناطق لا يتحرك إلا وداير حدش معه ، و أنا ما معي ولا مسواك ، ويبي يجينا زعلان أنتم طابين وتبون تخربون حلال الحكومة !! وتبون تسوون وتفعلون وتتركون !! وعااااااد وش يفكنا من الحكومة وحلاله ؟؟ ويتركون خلق الله ونصير حنا اللي نبي نخرب ونسرق حلال الحكومة ..
عدت واقتربت من الغرف التي يجاورها ما يشبه الخيمة أو الصندقة بتهمل لكي يحسن من فيها بصوت السيارة أو قد يكون معهم نساء ،،، فعلا .. خرج أحد الرجال متظاهرا أنه يبحث عن شىء ما ، وهو يرقبنا ، اقتربت منه سلمنا ، حياك ، أبقاك ، تفضلوا اقلطوا .. قلت : والله حنا جايين من مكان بعيد وقاصدين نشوف الآثار !! و الباب مقفل ، فقال : والله الحارس يجلس عند الكبرة اللي هناك مشيرا إلى غريفات يحيط بها شجيرات ، قد تكون بئرا ارتوازية لفرق التنقيب القديمة ، لكن قد يكون رايح للوادي يقصد وادي الدواسر ، قلت : والله شكله كذا خاصة إن اليوم جمعة ، لكن لو مالقيته كيف ندخل ؟ فقال :إن الناس يدخلون مع نهاية الشبك جنوبا و تقدر سيارتكم تطلع العقم الترابي .. قلت : والله ياليت ندخل بشكل رسمي ، لأننا ماودنا يزعل علينا أحد .. شكرناه بعد أن لزم علينا ، توجهت للغرف القريبة التي أشار إليها وإذا الباب مقفل بواسطة سلك قد غطاه الصدأ ، قلت : الظاهر ما حولنا أحد ، وقد يكون هم الحراس وعجزانين يفتحون الباب لأنه يبعد عنهم حوالي الثمانين مترا .. وشغلة فتح وقفل الباب الذي تعيقه سوافي الرمل ..
بعدها قررنا المسير حسبما وصف لنا مكان العبور ودخلنا ولله الحمد بعد أن صدمت بمنظر القفل ، لأنه قد يذهب مشوارنا لأكثر من الف وأربعمائة كيلو وتعبنا أدراج الرياح ونعود خائبين ..
كان أهم عامل لقيام وازدهار ( قرية أو الفاو ) هو التجارة مثلما أشرت سابقا ، وكانت أهم السلع التي تُنقل من جنوب غرب الجزيرة العربية للشمال هي الطيوب ممثلة بالبخور واللبان حيث يقتصر وجوده في هذا الجزء ولا توجد في دول الشمال الباردة ، كما أشير إلى الحبوب والنسيج والمعادن التي أهمها الذهب والفضة ، هذا انعكس على المستوى المعيشي لسكان الفاو ويتضح ذلك من خلال طريقة بنائهم للبيوت و المعابد وما كانوا يزينون به البيوت من مقتنيات ثمينة بعضها من الذهب وبعضها من المرمر الثمين .
في أوائل القرن الرابع الميلادي تدهورت هذه التجارة عامة في جنوب الجزيرة وهذا ما أثر سلبا على سكان تلك المنطقة أو المناطق التي تعتمد عليهم كالفاو ، ولم يعد اليمن سعيدا ، خاصة أنها عمود التجارة الرئيس في ذلك الوقت ، وللحاجة لهذه السلعة من قبل المناطق المجاورة ، وقد أرجع المؤرخون ذلك لضعف الإمبراطورية الرومانية في حوض البحر الأبيض المتوسط والانفلات الأمني على طرق التجارة لأن القوافل تنتقل من مكان لآخر تحت حماية الدولة ، ولو لم تكن تحت حماية أحد لأصبحت ( طعم جحوش الحنشل أعزكم الله ) ضعف الإمبراطورية أصبح عاملا مهما لمحدودية تنقل قوافل التجارة لهذه المسافات البعيدة التي تتجاوز الألاف ن الكيلو مترات ، فمن الطبيعي أن يخاف كل رب تجارة على تجارته ، وعامل آخر هو انتشار الديانة المسيحية وتناقص أعداد الوثنيين الذين تصاحب ممارستهم للعبادات ايقاد البخور ، وهذه نلحظها الآن في الدول البوذية كالهند و الصين و بعض أنحاء دول جنوب شرق آسيا فتجد ان البخور هام جدا في المعابد .. كما أن دويلات اليمن تتقاتل فيما بينها طمعا في السيطرة على البلد عموما وهذا جعل الأوضاع تتدهور أكثر ، والأمن يختل ، ومما لا شك فيه أن تدهور هذه الأشياء أصبح عاملا مهما لتدهور عوامل الحياة في الفاو المعتمدة أصلا على التجارة ، خاصة أنها في بيئة قاسية زراعيا ومناخيا ، ومحاطة بظواهر مكانية لا يستطيع البشر التغلب عليها ، و رأيتها خلال أقسى أيام الشتاء ومع ذلك لم أر تغيرا في طقسها مقارنة بالمناطق الشمالية من المنطقة الوسطى ، محصورة بين جبل منيع شرقها وكثبان رميلة كبيرة غربها ، كانت التربة خليطا بين التربة الجيرية غير الصالحة للزراعة وبين التربة الرملية التي حملتها الرياح من أطراف الربع الخالي ، فلا هذه تصلح للزراعة ولا هذه ، خاصة باستخدام الوسائل البدائية المستخدمة في تلك الفترة من الزمن.
