سم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وأجمعين
ونبدأ بالجزء الأهم من الموضوع ، وسأكتب عنه حسبما أعرف - خاصة القسم الجغرافي منه - و كما رأيته مقارنة بما قرأته سابقا ، وما أجمل أن ترى الأشياء التي قرأت عنها رؤية الهاوي المتفحص المتخصص .. وسأدون ذلك من الذاكرة ، وقد تجدون أني أنتقل من نقطة لأخرى لا اراديا ( مثل جواد الغنم ) ، وحسب توفر المعلومة التاريخية في ذاكرتي التي قد أكون نسيت بعضا منها ، وبعضها دونته في مذكراتي ، و أأكد أن هذه الكتابة لا تعتبر مرجعا لمن يريد التقصي عن هذا المكان و أتشرف بمن يصحح لي معلومة خاطئة ..
إلى الجنوب الغربي من مدينة الرياض ، وعلى مسافة تزيد على السبعمائة كيلو متر تقع الفاو أو كما تعرف أحيانا ب ( قرية ) مدنية أثرية قديمة جدا ، قدر المؤرخون عمرها بأكثر من ألفين وثلاثمائة عام ، أي أنها سبقت ميلاد المسيح عليه السلام بأكثر من ثلاثمائة عام .. ازدهرت لأكثر من ستمائة أو سبعمائة عام وقيل أكثر ، واندثرت وانتهت بأسباب ازدهارها ، وسأفسر هذه العبارة الأخيرة ..
تقع إلى الغرب من أقصى جبال طويق الجنوبية وقبل التقائها برمال الربع الخالي ، و تعتبر من أكبر المدن المعاصرة لها سواء في شبه الجزيرة العربية أو خارجها ، أما أبعادها حسبما أُشير فتبلغ أكثر من الكيلومترين من الشمال للجنوب ، ومن الشرق إلى الغرب حوالي الكيلو متر الواحد ، وهذا لم أره على أرض الواقع إلا أن يكون علماء الآثار أضافوا أجزاء بعيدة كالتي رأيتها مسيجة في جنوب غربي المدينة ، وفي جنوبها ، وفي شمالها ، والآثار القريبة جدا من سفح الجبل الشرقي التي خمنت أنها مصائد للوحوش التي تتسلل من أعالي الجبال ليلا ، وهذا ما جعلهم يحددوا مساحتها بكيلو مترين في كيلو متر واحد ( هناك من المصادر من أشارت إلى الخمسة كيلومترات ) ..
نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة
سبب نشؤوها : مثلما تعرفون فأقدم الحضارات التي وُجدت في الجزيرة العربية كانت حضارة مملكة سبأ ومعين وقتبان وحضرموت التي تقع في الجنوبي الغربي ، بعضها متزامن مع البعض الآخر وبعضها منفردة ، أي أنها سيطرت على المنطقة كاملة ولم يشاركها أحد ، ومما لا شك فيه أنه لا توجد حضارة لم يكن لها علاقات بالحضارات المجاورة لها ، فمن الطبيعي أن اتصال حضارة جنوب غربي الجزيرة العربية كان مع سواحل الجزيرة الجنوبية ، و الحضارات الصغيرة التي تزامنت معها على سواحل الخليج كحضارة دلمون بالبحرين وأجزاء من سواحل الخليج العربي الغربية وجزره الصغيرة ، و الحضارات الموجودة في العراق ، وكانت كل حضارة تزود الحضارات الأخرى بما تتميز بانتاجه ، فكانت أبرز السلع التي تصدرها حضارة الجنوب الغربي من الجزيرة العربية هي البخور الذي يعتبر جزء هاما من ممارسة الوثنيين لعباداتهم واللبان الفاخر الذي يعتبر أطيب و أغلى السلع التجارية في حضارات الشرق القديم و المنتج في بلاد المهرة وفي منطقة ظفار والتي تقع ضمن حدود عمان حاليا ، إلى جانب مصنوعات السلاح آنذاك ( أشارت بعض المصادر أنه كانت بعض الدول كانت تسعى للسيطرة على طرق و تجارة هذه السلعة الثمينة لما تراه من أهمية عظمى في ذلك ) ، وحضارات العراق التي كانت تصدر الحبوب والمؤن الاستهلاكية ..
( الآن لو تروح للي يبيعون العلك اللبان ، كم يا عبده ؟ يقول بخمسين ريال للأوقية .. ليش ؟؟ غالي . يقول لك عبده هذا عماني أصلي .. تراه أرانب كلام فاضي !! لأن العماني والحضرمي غالي جدا وقليل جدا وإنتاجه قليل جدا - وقرأت أنه قد تتعرض أشجاره للانقراض بفعل الإهمال وجني محاصيله بصورة غير سليمة طمعا في المال ، والآفات التي تهدد نمو وتكاثر أشجاره – أما الموجود واللي تطقطق فيه العجر جاي من الصومال ، بعضه ممتاز والكثير منه جودته وسط ) ..
نرجع لمحور حديثنا : ولابد للقوافل التجارية من أن تسلك طرقا معروفة ومحددة مسبقا منها المتجه برا ومنها الطرق البحرية ( مبينة على الخريطة اللاحقة ) وأحد أهم هذه الطرق هو الطريق الذي يمر بنجران ثم يتفرع إلى طريقين رئيسيين : غربي يمر نقاط معينة أبرزها يثرب ( المدينة المنورة حاليا ) و ينتهي بمدن سواحل البحر الأبيض المتوسط ومصر ، وطريق آخر وهو المار بالفاو ، ثم الأفلاج فاليمامة فشرقا إلى هجر ( الإحساء والقطيف ) و أرض دلمون في جزيرة البحرين ، أو للشمال الشرقي لأرض العراق وسواحل الخليج الشمالية ..
نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة
( كما تعرفون فإن للمدن القديمة كما الحالية أسباب لنشأتها ، فقد يكون السبب دفاعي أو محصن ، أو مصادر المياه وخصوبة التربة ، أو مكان للرعي ، أو على طريق القوافل كما الفاو ، أو سبب ديني .. إلخ ) .. وإذا مررتم بأعينكم على خط التابلاين في شمال المملكة فستجدون أن مدنا لم تكن معروفة منذ أكثر من سبعين سنة ونشأت على الخط كالقيصومة ورفحاء والعويقيلة وعرعر وطريف ، أي أن خط البترول تسبب في نشأة هذه المدن بفعل وجود تجمعات عمالية كبرت هذه التجمعات مكونة مدنا حديثة ، ولولا دعم الحكومة لها بعد انتهاء استخدام الأنبوب لانتهت هذه المدن لأن مقومات الحياة فيها شبه معدومة لا زراعة ومتطرفة مكانيا ومناخيا ..
نعود لمحورنا الأهم : قد يقول أحدنا لماذا لم تتجه القوافل ناحية الشرق مباشرة واختصارا للمسافة الطويلة ناحية العراق وسواحل الخليج ، و سؤاله في محله ، لكن لابد من الرجوع لسبب ذلك وهو اتجاه القوافل من نجران ناحية الشمال للفاو ثم للشمال الشرقي جهة الأفلاج ثم كذلك للشمال الشرقي جهة أرض اليمامة ، ثم شرقا مباشرة لهجر و سواحل الخليج ، بالطبع هناك سبب واضح وهو وجود مانع كبير جدا لا تستطيع القوافل السير عبره بسهولة وهو رمال الربع الخالي في جزئها الشمالي ، إلى جانب تقسيم جبال طويق أرض نجد إلى قسمين شرقي وغربي ، وأماكن قليلة يستطيع الإنسان النفاذ من خلالها للقسم الآخر ، فكيف باالإبل ؟ ومن يعرف جيدا سلسلة جبال طويق التي تمتد مسافة تتجاوز الثمانمائة كيلوا متر يعرف أن أماكن النفاذ قليلة جدا ، ويوجد مكان يمكن العبور من خلاله ويقع شمال الفاو بحوالي مائة كيلو متر تقريبا ، يسميها بعض الناس : فكة طويق ( أي أن الجبل ينفك إلى جزئين ) و تقع جنوب غرب السليل وبعد بلدة تمرة ، وبعد الفكة توجد بلدة الفايزية التي يفرق من خلالها لطريق نجران..
البعض منا من تتوقع أن ثقافته عالية ، عندما تقول ما ذا تعرف الفاو ؟ يقول : إييييه اللي لقاها الأنصاري ؟ طبعا لابد من أن تصحح له المعلومة أن الدكتور عبدالرحمن الأنصاري ومساعديه أشتهر من خلال إشرافه على مشروع التنقيب عن آثار الفاو ، والفاو أشتهر من خلاله .
لكن الحقيقة تقول أنها مدينة قديمة ومعروفة للمؤرخين ، وقد نبه لوجودها أحد موظفي أرامكو الأجانب عام 1940م في العصر الحديث، ثم زارها البريطاني الذائع الصيت الذي يذكر بدوره الكبير في التغييرات التي حصلت في المنطقة العربية في القرن الفائت إنه هاري سانت جون فيلبي الذي أسلم وغير اسمه لعبدالله فيلبي .. وزارها علماء آثار أجانب ، ولم تتنبه جامعة الملك سعود لها إلا في أواخر عام 1390هـ ، حيث أصبحت دراستها كأحد مقررات قسم الآثار والمتاحف الذي افتتح بكلية الآداب بالجامعة إلى جانب الربذة الواقعة شرق المدينة المنورة وعمرها أقل بكثير من الفاو .. لكن يعود الفضل للجامعة في زيادة البحث عن الآثار والمقتنيات وغيرها حيث جلب بعضها لمتحف الجامعة حسبما أذكر ، وبعضها رأيته في المتحف الوطني بالرياض .