ضوء أحمر
الضوء الأحمر يضيء فوق بابه، منذ الساعة الثامنة صباحاً إلى الثانية ظهراً، إلا في أوقات نادرة. والحاجب الذي يقف أمام بابه مثل كلب الحراسة، يعرف تماماً أنه ينفرد وحيداً بنفسه في المكتب إذا لم يكن خارج الدائرة ومع ذلك، يقول لمن يسأل عنه: السيد المدير عنده اجتماع.. عنده اجتماع.. ألا ترى النور الأحمر؟! فقد بلغه وأكّد عليه أن لا يسمح لأحد بالدخول إلا إذا كان من ذوي الشأن، وعليه قبل ذلك أن يدق الباب دقات خفيفة بإيقاع معين.
وفي الدائرة، بدأت الألسن تنسج حوله قصصاً وحكايا، منذ أن اعتلى عرش الإدارة وتربع على الكرسي الدّوار فهمْ يقولون إنه يقصد من وراء ذلك أن لا يجعل من المكتب مضافة للزوار، واستراحة للأصدقاء والمعارف، كالمدير السابق، الذي انتهى به المطاف موظفاً بلا وظيفة، تحت تصرف السيد المحافظ، ريثما يجدون له زاوية يركنونه فيها.
ويعتقد بعضهم أن شخصية الرجل معقدة، فهو انطوائي بطبعه، متكبر، مغرور، وربما يعاني من عقدة نقص يحاول أن يعوضها. ويرى آخرون أنه يسعى، بموقفه هذا، أن يفرض هيبته على المرؤوسين قبل المراجعين. فمن لا كرامة له في داره لا كرامة له خارج داره.
ما رآه أحد منهم يوما ضاحكاً أو مبتسماً. فهو مقطّب عابس دائماً، يتكلم بقدر ويصدر أوامره وتعليماته بقدر، لا يرد التحية على أحد، لا يستقبل مراجعيه إلا في ساعات محددة،
يجيب بكلمات مقتضبة، وقد يكتفي بإيماءة أو إشارة.. فإن سألوا صرخ في وجوههم واتّهمهم بالغباء والبلادة، ووصفهم بنعوت غير لائقة.
أثناء مروره على أقسام الدائرة، يتبعه مستخدمه الخاص الذي يسرع إلى إشعال لفافته كلما دسها في فمه.
وكثيراً ما رقّت قلوب الموظفين والمراجعين على زوجته التي لا يعرفونها. وتساءلوا: كيف تحتمل امرأة في هذا الزمان رجلاً قاسياً جلفاً غليظ القلب كهذا.
الأمر الذي يحيّرهم ولا يجدون له تفسيراً، أنه يغادر الدائرة في الساعة الواحدة، أو قبل ذلك، أغلب الأيام.. يقول لرئيس مكتبه: عندي مهمة، ربما أتأخر وقد لا أعود. وغالباً لا يعود.
لا يعرف أحد أين يذهب وأية مهمة خطيرة تنتزعه من كرسيه الدوار قبل نهاية الدوام.. وهذا ما أثار شكوكهم وزرع الرهبة في قلوبهم.
فقد يكون للرجل مداخلاته التي يجهلونها، وقد يكون على صلة بإحدى الجهات، التي يثير ذكرها الخوف في النفوس والرعشة في المفاصل والأوصال، وقد.. وقد...
ذات صباح، همس مدير مكتبه في أذنه، وهو يهم بالدخول:
-سيدي.. تزورنا اليوم لجنة تفتيشية. لقد اتصلوا بنا من المحافظة، وبلغونا..
ارتسمت على وجهه علامات جد واستفهام. نادى حاجبه وقال له: دع الباب مفتوحاً.. ولا حاجة للضوء الأحمر.
ذلك اليوم لم يعد إلى بيته إلا بعد الثانية والنصف... زوجته تسترخي على مقعد وثير، بثوبها الحريري الرقيق أمام التلفزيون، تطلي أظافرها، بعد أن خرجت من الحمام، وصبغت شعرها ووجهها بالألوان والمساحيق.
رمته بنظرة لوم وتأنيب، وهي تنظر إلى الساعة وتشير بيدها مستفسرة مستنكرة.
وقف أمامها كطفل يشعر بالذنب، أو كتلميذ قصّر في أداء واجبه المدرسي. وقبل أن يضع المئزر على وسطه ويدخل المطبخ قال متلعثماً بصوت ضعيف:
-لا عليك يا حبيبتي.. تأخرتُ اليوم، كانت عندنا لجنة تفتيشية... دقائق وتكون المائدة جاهزة.