نظرة أولية على أسس المسؤولية الجزائية :
لم تعد المسؤولية الجزائية اليوم مستمدة من مفاهيم تتصل بما وراء الحس والطبعية وإنما من اعتبارات نفسية واجتماعية ونفعية. ففي منظور الفلسفة المعاصرة للتشريع الجزائي يظل الهدف من تقرير المسؤولية الجزائية مقاومة الجريمة التي ترتكب ومنع ارتكاب جرائم أخرى باتباع سياسة جزائية موضوعية يكون هدفها حماية المجتمع حتى يجد كل إنسان الأمان والسكينة. حيث يتنازع الفكر الجزائي اتجاهين في تحديد أساس المسؤولية الجزائية وهما : 1 ـ حرية الاختيار 2 ـ الجبرية أو الحتمية وهذا النزاع بدأ منذ أرسطو، مرورا بالفقه الإسلامي فالمدارس الفلسفية الجزائية ولايزال مستمرا حتى اليوم.
مبدأ حرية الاختيار :
أو حرية الإنسان المعنوية يقوم على عنصرين أولهما : ـ اعتبار الإنسان أصلا حرا في تصرفاته، يتخذ قراراته بمحض إرادته: إذا أراد الخير فعله وإن أراد الشر اقترفه. وثانيهما : إن الغرض من العقوبة هو القصاص للعدالة وتكفير ما حدث من خطيئة.
ولقد تبنى هذا الاتجاه : أرسطو وأفلاطون اللذان يعتبران الفضيلة والرذيلة إراديتان وكذلك المعتزلة الذين يعتبرون أن أفعال العباد مخلوقة لهم ومن عملهم وفي قدرتهم أن يفعلوها أو لا يفعلوها واستدلوا لذلك بآيات قرآنية "فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله وأصبح من الخاسرين" (المائدة 30) و"الم نجعل له عينين ولسان وشفتين وهديناه النجدين" (البلد 8، 9 ـ 10) والنجدين هما الخير والشر.
كما تتبنى هذا الاتجاه المدرسة التقليدية والتقليدية الحديثة.
مبدأ الحتمية أو الجبرية :
فيقوم كذلك على عنصرين متناقضين لسالفه وهما : أولهما : يعتبر الإنسان خاضعا خضوعا تاما لقوانين الحياة بحيث لا يكون له ذرة من خيار فهو يولد بغير خيار ويموت رغم أنفه وبالتالي فهو مسير في موضوع الجريمة غير مخير باعتباره سوق اليها بفعل مجموعة من العوامل البيولوجيا والنفسية والاجتماعية لا تترك له مجالا لقرار يتخذه بحريته.
وثانيهما : إن الغرض من الجزاء هو وقاية المجتمع من تكرار الجريمة بعلاج المجرم وإصلاحه أو إقصاءه. وتتبنى هذا الاتجاه المدرسة الوضعية الايطالية، وبعض الفقهاء المسلمين الذين يطلق عليهم أهل الجبر ويرى هؤلاء أن الإنسان مجبر كالجماد وحريته الظاهرية مجازية كحرية الجماد حين نقول : أثمرت الشجرة أو غرد العصفور. ويعللون رأيهم بأنه لو كان المرء خالقا لأفعاله لوجب الإقرار بقبول أفعال لا تقع على مشيئة الله وهذا مخالف للعقيدة فـ "الله خلقكم وما تعملون" (الصافات 96) و"ما رميت إذ رميت ولكن الله رمى.." (الأنفال 17).
موقف القوانين الوضعية المعاصرة
تفاديا من خطر الوقوع في متاهات نظرية، ساد في التشريعات المعاصرة اتجاه جديد هو الابتعاد عن قضايا الجبر أو حرية الإرادة والاكتفاء لتقرير المسؤولية أن يكون المجرم متمتعا عند ارتكابه الجريمة بالإدراك والإرادة أي أن يكون إنسانا عاديا فقط. وقد أتاح هذا الموقف الحيادي لواضعي القوانين الجزائية أن يختاروا من كل مدرسة ما يثبت صلاحه فالاتجاه السائد حاليا هو الاتجاه الانتقائي. وهذا ما نجده لدى المشرّع التونسي الذي وإن لم يعلن عنه صراحة فإنه يتبناه بصفة ضمنية في الفصلين 37 و387 م.ج (الإرادة والإدراك). وهو ما أكدته محكمة التعقيب التونسية بقرارها عدد 315 الصادر في 8/10/1964: "من الأركان الجوهرية لقيام المسؤولية الجزائية في الجرائم القصدية أن يرتكب الجاني جنايته عن قصد أي عن إرادة حرة وإدراك وتمييز...".
وبناءا على ما سبق يمكن تعريف المسؤولية الجزائية بأنها التزام شخص بتحمل العواقب التي تترتب على فعله الذي باشره مخالفا به أصولا وقواعد معينة. أو هي صلاحية الشخص لتحمل العقاب الناشئ عما يرتكبه من جرائم. وهذا يعني أن المسؤولية الجزائية تقوم على ركنين وهما الخطأ والأهلية: ولقد اعتبرت النظرية العامة للمسؤولية الجزائية القائمة على ركني الخطأ والأهلية إنجازا قانونيا إنسانيا ساهم الى حد بعيد في إقامة المجتمع الإنساني الحر.
فالخطأ يقصد بها التمييز (الإدراك) وحرية الاختيار.
والاهلية يقصد بها القدرة على تحمل تبعات الفعل.