الكتاب الخامس
أفريقيا
بلاد النيجر
في شمال غرب أفريقيا وبين حدود الصحراء وغابات النيجر وفي قرى من أكواخ مدورة ،هناك، يعيش فلاحون الفلوبيس* Flubes ، الذين يتقاسمون السهل الكبير مع قبائل متنقلة من طوارق وعرب و أفارقة .
في كل المنطقة تلك تم اكتشاف آثار مدن ، وأنقاض وأسوار وقلاع كعلامات عن حضارة قديمة ومزدهرة ، قد تقوضت واختفت .
شعب الفولبيس المكون من رجال لهم سحنة قمحية وذكاء حاد متخصص بالرعي وزراعة الحقول و أعمال أخرى .
ويمثل شعب الفولبيس تأكيداً كبيراً لأولئك الذين في أزمان أخرى ، صنعوا واحدة من أهم الحضارات الإفريقية والمثيرة للفضول .
وإلى جانب الآثار والأنقاض ، فلقد تم اكتشاف والتقاط أساطير وحكايات قيّمة عن الحب والفروسية ، رغم أن شعب تلك المنطقة كباقي شعوب أفريقيا قد عانى من استعمار القوى الغاشمة .
* تطلق على الشعوب التي تسكن في القسم الغربي من الصحراء الافريقية(المترجم)
سامبا غانا*
في مدينة " واغنا Wagna " كانت الملكة " أناليا- تو-باري/
Analia Tu-bari" ، وكان والدها هو أمير واغنا وسيد قرى كثيرة ، وفي إحدى المرات خاض حرباً مع أمير عدو انهزم فيها والد " أناليا " ، فتم تجريده من ممتلكاته ، وكان عليه أن يسلّم احدى قراه ، لكن كبرياءه لم يسمح له بتحمل ذلك ، فمات كمداً وغماً و ورثت أناليا كلّ المملكة عن أبيها .
حضر أعدادٌ كبيرة من الفرسان إلى مدينة "واغنا" ، يطلبون يدها للزواج ، لكن " أناليا " كانت تحزم بطلبها ، ليس فقط أن يستردوا القرية الضائعة ، إنما ثمانين مدينة أخرى !! لكن لا أحد من الفرسان تجرأ على هذا المهر الحربي .
ومرّت السنوات وفقدت " أناليا " كل سعادتها ، ومع أنها كانت تزداد جمالاً في كل يوم ، إلا أنها كانت تزداد حزناً
في بلدٍ مجاورٍ كان لأميرها ولدٌ يدعى "سامبا - غانا" ، وعندما كبر هجر مدينة أبيه حسب عادات البلد ، وخرج ليحتل أراض ٍ ومدن ٍ أخرى ، كي يقيم عليها مملكته .
كان "سامبا- غانا" شابا مبتهجاً دائماً ، وقد خرج سعيداً من مدينة والده يرافقه اثنان مدرعان .
أعلن سامبا الحرب على أمير مدينة و تحدّاه إلى منازلة فتصارع الاثنان ، والمدينة كلها تشاهدهم ، وأخيراً انتصر "سامبا غانا " فطلب الأمير المهزوم منه أن يعفوعن حياته ، ويقدم له مدينته . فبدأ سامبا يضحك ويقول:
" ابق َ مع مدينتك فهي لا تهمني ".
تابع " سامبا " طريقه ، وهزم الأمراء واحداً تلو الأخر ، و دائماً كان يعيد كلّ ما يحصل عليه بفوزه إلى كل أميرٍ مهزوم ، ويقول له:
" ابقَ مع مدينتك فمدينتك لا تهمني ".
تمكن " سامبا غانا "من هزيمة كل أمراء البلاد ، ومع ذلك لم يكن يملك أرضاً ولا مدينة ، لأنه بعد كل انتصاراته كان يعيد كلَّ شيءٍ ، ويمضي ضاحكاً مبتهجاً و حالماً .
وفي يوم كان يرتاح فيه مع مرافقه عند ضفاف نهر النيجر ، غنّى المرافق الأغنية الرائعة لـ"أناليا- تو- باري" ، و المليئة بالحزن وعزلة الأميرة .
قال المرافق : " الرجل الذي سيحظى بـ"أناليا" وسيجعلها تضحك هو فقط ذاك الفارس الذي سيسترد ثمانين مدينة "
عندما سمع "سامبا غانا" ذلك وثب بقفزة سريعة ، وصاح : " هيا يا أصحاب العضلات اسرجوا الخيول !! هيا بنا إلى بلاد أناليا- تو- باري ".
انطلق سامبا بمسيرة مع المرافقين المدرعين ، واستمروا أياماً وليالي يمتطون الجياد يوماً ،حتى وصلوا إلى مدينة
" أناليا تو باري " ، فرأى "سامبا غانا" امرأةً رائعةَ الجمال وشديدة الحزن . فقال لها : " أناليا أنا سأسترد المدن الثمانين ". وقرر أن ينطلق في مسيرة ثانية .
قال لمرافقه : "ابق هنا مع أناليا ،غنّ لها وروّحها عن نفسها ، اجعلها تضحك ". فبقي المرافق في مدينة "أناليا توباري " ، وكلّ يومٍ صار يغني لـ"أناليا " أغنيات عن أبطال بلادها ، وعن مدنها ، وعن أفاعي النهر التي تجعل مستوى المياه يرتفع ، فتجعل الناس يخزنون الأرز لسبع سنوات ويبقون جائعين لسبع سنين أخرى .
وكانت اناليا تستمع له ، بينما " سامبا غانا " كان يقطع الأمصار ، ويحارب الأمراء واحداً تلو الآخر . فأخضع ثمانين أميراً ، ولكلّ مهزومٍ منهم كان يقول :
" عليك الحضور أمام أناليا توباري ، وأن تقول لها : إن مدينتك صارت لها ".
ذهب الأمراء الثمانون يرافقهم أعداد كبيرة من المحاربين إلى مدينة "واغانا" ، وسكنوا هناك ، فأخذت مدينة أناليا تتسع وتتسع ، إلى أن أصبحت ملكة على الأمراء والمحاربين في كل الأمصار .
قال سامبا غانا لها: " كل شيء تمنيته قد أصبح ملكا ً لك ".
فقالت أناليا : " لقد وفّيت بوعدك ،سأكون زوجتك ".
فقال سامبا غانا :
" لماذا أنت حزينة؟ إنني لن أتزوج منك إلا عندما تعود البسمة إليك ، وأراك تضحكين ".
قالت أناليا : " لقد كان عار والدي المهزوم يبعث الحزن فيّ ، والآن لا أقدر على الضحك ، لأنني لم أجد أحداً يقدر على اتمام رغبتي " .
قال سامبا غانا: " أشيري عليّ ماذا عليّ أن أفعل ؟ " .
قالت : " اقتل الأفعى التي في النهر !! فهي تأخذ الخيرات لسنة كاملة فيكون هناك مجاعة لسنة كاملة ، وأنا سأكون سعيدة لقتلها " .
قال سامبا : " لم يجرأ أحدٌ على ذلك ، لكنني سأقوم به " .
اتجه سامبا غانا مع رجاله الثلاثة نحو النهر، و بحث عن الأفعى واستمر في المسير والبحث ، فوصل إلى مدينة فلم يعثر على الأفعى، واستمر يمشي مع النهر ويبحث عن الأفعى ، فوصل إلى مدينة أخرى ولم يجدها !
واستمر في البحث إلى أن عثر عليها أخيراً ، وبدأ يتصارع معها !! وفي النهاية انهزمت الأفعى وكذلك سامبا غانا !!
كان تيار النهر يأخذهما من جهة إلى جهة ، ويمر بين الجبال ، ثم يفتح أراض ويدخل فيها .
استمر الصراع ثماني سنوات بين سامبا والأفعى ، وفي العام الثامن هزمها . وخلال هذا الوقت كسر سامبا ثمانمائة رمح وثمانين سيفاً ، و أخذ أحد الرماح المليئ بالدم فأعطاه إلى مرافقه قائلا :
" خذها إلى أناليا ، وقل لها : إنني هزمت الأفعى ، وانظر إليها جيداً لترها إن كانت ستضحك " .
عاد المرافق وسلّم هدية سامبا غانا ، وعندما سمع سامبا كلام أناليا قال: هذا عظيم جداً .
أخذ سامبا السيف المبلل بالدم و غرسه في صدره وضحك مرة ثانية قبل أن يسقط ميتاً .
أخذ المرافق السيف المدمي ، و امتطى الخيل ، ومضى باتجاه أناليا ،وعند الوصول قال لها :
" هذا سيف سامبا غانا ، والدم الذي عليه هو دم الأفعى و دم سامبا الذي ضحك لآخر مرة " .
جمعت أناليا كلّ الأمراء والمحاربين في المدينة ، وامتطت خيلها ، فامتطى الجميع خيولهم ، وتبعوها نحو البلد الذي مات فيه سامبا غانا .
وصلت أناليا إلى المكان الذي كانت فيه جثة سامبا غانا وقالت:
" لقد كان بطلاً عظيماً ، ليس له مثيل عند من سبقوه ، أقيموا له ضريحاً ، وليكن الأعلى بين أضرحة الملوك والأمراء والأبطال " .
وبدأ العمل لذلك ، فحفر الأرض رجالٌ حاصل عددهم هو ثمانية أضعاف الرقم ثمانمائة .
ونفس العدد من الرجال قاموا ببناء الضريح ،و كذلك الرقم من الرجال قاموا بتجميع التراب فوق الضريح ، و رصرصوها ثم أحرقوها فظهر هرمٌ كبير .
عند كل غروب كانت أناليا وأمراؤها و رجالها المحاربون يصعدون إلى قمة الهرم وكل مساء كان المرافق يغني أغنية البطل ، وعند كل صباح كلّما كانت أناليا تستيقظ كانت تقول:
" الهرم ليس عالياً بما يكفي ، يجب رفعه كي تُرى منه كلُّ مملكة واغانا " .
ثمانية أضعاف العدد ثمانمائة من الرجال حفروا الأرض ورصرصوها ثم حرقوها .
وطوال ثمانية أعوام كان الهرم يكبر و يطول ويرتفع ، ومع نهاية العام الثامن نظر المرافق بعينيه الدائريتين وقال: "يا أناليا توباري اليوم يمكنك رؤية "واغنا"..
نظرت أناليا نحو الغرب وقالت: " ها أنا أرى "واغنا" و ضريح سامبا غانا هو العظمة التي يستحقها اسمه " .
وضحكت أناليا !! نعم ضحكت كثيراً !! وقالت:
" الآن انفصلوا أيها الأمراء ، تفرقوا في أنحاء الأرض ، و كونوا أبطالاً مثل سامبا غانا " .
وضحكت أناليا مرة ثانية قبل أن تسقط ميتة ، ويدفنوها في سرداب الهرم إلى جانب سامبا غانا .
* Samba Gana
الأصيل ابن الأصول
خلال زمن طويل كانت عائلة "الأردو" هي التي تحكم بلاد الفلوبيس* .وكان "غوربو—ديكي" الشاب القوي تنحدر سلالته من تلك العائلة النبيلة ، ولأنه لم يكن الإبن البكر ، لم تكن له مدينة يحكمها ، لهذا كان يمضي هائما في بلاد الـ"بام مانا/ Bammana" وبمزاجه المعكر ينشر المعاناة بين سكانها ، فجعلهم يخشون بطشه بشدة لأنه كان قاسياً و عنيفاً .
كان الباممانيون المرعوبون يستعجلون تدبير الأمر ، فنادوا على" ألآل" المدرع مرافق "غوربو — ديكي" وقالوا له :
" أنت الوحيد الذي يمكنه إقناع البلدة ، ويا ليتك تقدر أن تجعل "غوربو—ديكي" يرحل عن البلاد !! فسوف نعطيك كمية جيدة من الذهب " .
وبعد انقضاء عدة أسابيع قال" ألآل" لـ"غوربا ديكي": اسمع !! البامانا لم يفعلوا شيئا سيئا لك حتى تعاملهم بهذه الطريقة ، ولو كنت بمكانك ، لذهبت إلى عائلة الفلوبيس ليعطوني مملكة " .
: " لديك حق— قال غوروبا - لكن أية مدينة تريدني أن اختارها ؟ ". فسأله المدرّع : " ما هو رأيك لو أنك تذهب إلى بلاد "ساريام" التي يحكمها حمّادي أردو؟ " .
قال غوروبو: " يبدو لي حسنا ، هيا بنا إلى هناك " .
ووصلا قريبا من "ساريام" وفي قرية في الضواحي توقفوا عند بيت فلاح حرّاث .
قال غوربو لحامل الدرع : "ابق أنت هنا مؤقتاً ، وأنا أريد أن أرى المدينة لوحدي أولاً " .
خلع الملابس الفارهة ، وطلب من الفلاح ملابس عمل قديمة ، ارتداها وتوجه نحو المدينة ، و أول شيء فعله تحدث مع حداد وقال له :
" أنا من "الفلوبيس" وأحوالي سيئة الآن ، ومقابل القليل من الطعام أنا مستعد لمعاونتك في العمل ".
قال الحداد:
" لم لا !! هل تريد أن تعمل بالكير ؟ ".
قال غوروبو : " سأقوم بذلك بامتنان كبير " .
وبينما هو يشتغل سال الحداد : " من هو حاكم هذه المدينة ؟ " .
: "هنا يحكم حمّادي من عائلة آردو" . أجاب الحداد .
: " وهل عند حمّادي الأردو خيول ؟ ".
: " نعم !! -قال الحداد- لديه الكثير من الخيول ،إنه ثري جداً ولديه أيضا ثلاث بنات . اثنتان متزوجتان من اثنين من الفلوبيس ، وهما فارسان شجاعان ، أمّا البنت الصغرى واسمها "كودي أردو" فهي أجمل فتيات الفلوبيس في البلاد ، فهي تضع في إصبعها البنصر خاتما من الفضة ، وتقول إنها لن تتزوج إلا بالرجل الذي يدخل الخاتم في البنصر من أصابعه ، وتقول : " إن الرجل الفلوبي الحقيقي يجب أن تكون أطرافه ناعمة وأصابعه لطيفة ".
في اليوم التالي ، وكما في كل الأيام تجمع صفوة من شباب الفلوبيس أمام بيت "حمّادي أردو" ، فخرجت ابنة الملك الصغرى والفاتنة الجمال من البيت ، وسحبت الخاتم الفضي من بنصرها ، ثم بحثت بين الرجال الحضور عمن يدخل الخاتم في بنصره .
تمكن بعضهم من إدخاله بصعوبة حتى العقدة الأولى من الإصبع ، وبعضهم أوصله إلى العقدة الثانية ، لكن ، أي منهم لم يتمكن من إدخاله كلياً ، عندها فقد الملك "حمّادي أردو" صبره وقال لابنته : "عليك بالزواج من أيّ من الحضور " .
الحداد الذي كان يشتغل عنده "غوربو ديكي" سمع تلك الكلمات وقال:
" في بيتي يعمل رجل ملابسه رثة ، لكن علامات الفلوبيس تبدو واضحة عليه " .
: " احضر الرجل لي—قال الملك—وليجرب خاتم ابنتي ".
ذهب الحداد ليحضر غوربو وقال له: " تعال حالاً !! الملك يريد التحدث معك " .
ذهب غوربو بملابسه الرثة مع الحداد إلى الساحة ، حيث كان هناك الملك حمّادي أردو وجميع الشخصيات المعتبرة .
سأله حمّادي أردو: " هل أنت فلوبيس ؟ " .
أجاب غوربو: " نعم أنا فلوبي " .
: " ما اسمك؟ ".
أجاب غوربو ديكي: " لا اقدر على ذكره ".
فقال الملك : " جرب إدخال هذا الخاتم في البنصر من أصابع يدك ".
أخذ غوربو الخاتم ، وأدخله في إصبعه فاستقر الخاتم بسهولة .
: " أنت من سيتزوج من ابنتي " - قال الملك- فأخذت "كودي أردو" تبكي ، ثم قالت :
" لا أريد الزواج من هذا الفلاح ، من هذا الرجل البشع والقذر ، وبقيت كودو تبكي طوال النهار ، لكنها اضطرت أخيراً للزواج من الرجل البشع والقذر ، وأقيمت مراسيم الزواج .
في أحد الأيام حدثت حرب بين الملك والطوارق ، وتمكن الطوارق من الاستيلاء على ماشية الملك حمّادي ومواشي مدينة ساريام .
تسلح جميع سكان المدينة ، وخرجوا خلف الطوارق ، بينما غوربو كان جالساً في احدى زوايا المدينة ، فقال الملك له:
" ألا تريد أن تمتطي حصانا وتأتي معنا إلى الحرب ؟ " .
: " أن امتطي حصانا !! أنا لم اركب حصاناً في حياتي، أنا ابن ناسٍ فقراء ، وإذا أعطيتموني جحشاً فربما أقدر على ركوبه" . فصارت "كودي أردو" تبكي .
ركب غوربو على الجحش ، وذهب باتجاهٍ معاكسٍ لوجهة للمحاربين ، فقالت "كوردو" وهي تبكي:
" آه !! يا أبتي!! آه!! يا أبتي أي حظ تعس!! جلبته لي من تزويجك لي من هذا الرجل؟ " .
لقد ذهب غوربو ديكي إلى بيت الفلاح الذي كان قد ترك خيله هناك ، و سلاحه و درعه ، قفز عن الجحش وقال:
" يا ألآل !! لقد تزوجت ".
: " ماذا؟ تزوجت؟!! ممن تزوجت؟؟ " .
: "تزوجت أجمل نساء المدينة إنها ابنة الملك "حمّادي أردو" .
: " ماذا ؟! كيف حصلت على هذا الحظ الكبير ؟ ".
: " نعم !!-- قال غوربو—لكن يوجد هناك شيء آخر ، لقد سطا الطوارق على ماشية حماي ، فبسرعة البس وتسلح واسرج الخيل علي أن أتقدمَ الجميع ، واختصرَ الطريق " .
فحضّر المدرّع كلّ شيء وسأله : " هل يمكنني مرافقتك؟ " .
قال "غروبو ديكي" : " لا !! ليس اليوم " .
وانطلق بسرعة كبيرة حتى تمكن من اللحاق بهم فشاهده اثنان من أنسباء الملك حمّادي ، وشاهده جميع الفلوبيس وهو على حصانه السريع ، يقطع الحقول المجاورة فقال نسيب للنسيب الأخر:
" يبدو إنه "تشينار المستبد" ، وسيكون لصالحنا لو يقف إلى جانبنا فنفوز بالمعركة ، علينا أن نتحدث معه .
واتجه عدد من المحاربين نحو غوربو وسألوه : " إلى أين تذهب؟ ما هو غرضك؟ ".
: " اذهبُ إلى أين تكون هناك حرب ، وأساعد من يحلو لي " .
:" أنت !! ألست َ أنت تشينار !!؟ ".
: " نعم ، أنا تشينار " .
:" هل تريد مساعدتنا ؟ ".
:" كم عدد أنسباء الملك الذين يسيرون معكم؟ " .
: " اثنان " .
:" إذا دفع كلً واحدٍ منهما أذنه لي فسوف أساعدكم ".
:" هذا ليس ممكنا ً!! ماذا سيقال في المدينة؟ " .
:" انه بسيط جداً- قال غوربو- فليقولوا إنهم فقدوها في المعركة فهذا يحدث عادة ، وكذلك لأشرف الناس " .
مضى الرجال على خيولهم نحو المكان الذي يتجمع فيه الآخرون ، وقصّوا ما سمعوه على نسيبي الملك .
في البداية لم يوافقا ، وفيما بعد وافقا على أن تقطع أذناً واحدة من كل واحد منهم ، وبعثوا بهما إلى غوربو .
خبّـأ غوربو الأذنين في جيبه ، و تقدم إلى رأس القوات وهو يقول :
:" لا تقولوا إن "تشينار" قد ساعدكم " .
: " لا !! لا !! لا لن نقول " ، أجاب الفلوبيس .
لحقوا بالطوارق، وتحاربوا معهم ، فربح الفلوبيس الحرب ، ابتعد غوربو، ومضى على خيله نحو بيت الفلاح الذي يختبأ عنده رجله المدرع ،وهناك ترجل عن الحصان ، وخلع ملابسه والسلاح ، وارتدى الملابس الرثة ، وركب الجحش وعاد إلى المدينة .
وفي طريقه إلى هناك ، وفي طرقات " ساريما " رآه الحداد الذي أمّن له المأوى في اليوم الأول ، فقال له :
"لا تدق باب بيتي!! أنت لست فلوبيس!! أنت زنديق !! أو عبد !! أنت لست محارباً ولا فلوبياً !!".
وفي الأثناء عاد الفلوبين مبتهجين منتصرين ، ومعهم القطعان التي استردوها ، وقد خرج الناس سعداء ليحييوهم ، وكذلك خرج الملك لاستقبالهم ، وقال:
" لا يزال هنا محاربون شجعان ، لا يزال هنا فلوبيس ، هل عاد الجرحى؟ " .
أحد نسائب الملك قال: " عندما انطلقت إلى المعركة واجهني أحد الطوارق ، وكان ضخماً جداً فضربني بسيفه ، فأبعدت رأسي فقطع السيف أذني ، وبفضل ذلك فإنني قد نجوت " .
قال الصهر الثاني :
" عندما كنت أهاجم في الجانب الآخر أحد الطوارق ، وكان قصيراً ، فسارعني من الأسفل بطعنة من سيفه الطويل على عنقي، وكاد أن يقطع رأسي ، لكنني انحنيت فاخذ أذني " .
قال الملك حمّادي :
" إن سماع مثل هذه الأمور يفرح الروح ، أنتم أبطال ، لكن قولوا لي : ألم تشاهدوا صهري الثالث؟ " .
: " آه ذاك!! منذ البداية اتخذ اتجاه معاكساً . قال الجميع ذلك وهم يهزأون .
وفي هذه اللحظة كان "غوربو" يأتي من الجانب الثاني ، يركب على الجحش ، وعندما اقترب منهم ، سرّح الدابة فراحت تخبب .
وعند رؤيته قادماً بهذه الهيئة المسيئة بدأت "كودو" بالبكاء بمرارة ، وهي تقول:
" يا أبتي!! يا أبتي!! أية تعاسة جلبتها لي!! " .
خلال الاحتفال كان صفوة الفلوبيس يجلسون على شكل دائرة ، يروون ما فعلوه ، فسمعهم "غوربو" من احدى الزوايا ،غقال أحدهم:
" عندما جندلت أول واحد على مرأى من الأعداء...." .
وقال الثاني :
"عندما استوليت على الخيول... ".
وقال ثالث :
" نعم فأنتم لستم مثل زوج "كودي أردو" فأنتم أبطال بحق وحقيق " .
كان النسيبان الاثنان يكرران نفس الرواية عن فقدانهم لآذانهم في المعركة . وكان غوربو هناك في الجانب يستمع إلى كل شيء ،وفي جيبه كانت الأذنان .
وعندما حلّ الليل ذهب إلى البيت فقالت "كوردو" له :
"أنت جبان !! " .
في اليوم التالي هاجم الطوارق المدينة بأعداد كبيرة ، وعند مشاهدتهم من بعيد اجتمع كل رجال المدينة القادرين على حمل السلاح ، وركب غوربو الجحش، ثم انسل خفية من المدينة ، فأخذت الناس تصيح : " انظروا إلى هناك!! إلى نسيب الملك!! كيف يهرب نسيب الملك ؟ " .
وبدأت "كوردو" تبكي وتقول: " يا أبتي!! يا أبتي!! أية تعاسة جلبت لي!! ".
ذهب غوربو إلى بيت الفلاح الذي ترك ملابسه عنده وحصانه وسلاحه ، وعندما وصل قفز عن الجحش وقال لرجله المدرع :
" بسرعة! بسرعة! هيئ لي خيلي وأشيائي ، فاليوم هناك تطورات مهمة ، لقد هاجم الطوارق المدينة بأعداد كبيرة جداً ، ولا يوجد هناك من يعرف كيف يصدونهم " .
: " وهل يمكنني مرافقتك؟ ". سأل " ألآل" .
قال "غوربو ديكي ": "لا ، ليس اليوم " .
ارتدى ثيابه الجيدة ، وأخذ سلاحه ، و وثب إلى حصانه ، وانطلق على وقع الحوافر القوية والسريعة .
في الأثناء كان الطوارق قد اقتربوا كثيراً ، و هاجموا المدينة حتى انهم تمكنوا من دخولها ، وقسم منهم تقدم باتجاه قصر الملك .
وصل غوربو في الوقت المناسب ، اخترق صفوف الطوارق يضرب بسيفه يميناً وشمالاً . لقد وصل في اللحظة الحاسمة إلى قصر حماه .
في تلك اللحظة ، كان بعض الطوارق يحاصرون "كودو أردو" ، يريدون سبيها ، وعندما رأت "كودي أردو" الفارس الفولبي الشجاع يصل ، استغاثت بصوت عال:
" يا آخي العظيم!! تعال و خلصني !! لقد فرّ زوجي بجبن وخسة " .
وبرمح طويل أبعد "غوربو" أحد الطوارق ، وجرح طوارقياً آخر ، لكن أحدهم تمكن من جرحه قبل أن يفروا جميعهم ، وعندما رأت "كودي أردو" الجرح البالغ والخطير صاحت : " أوآه أيها الأخ العظيم !! لقد أنقذتني ، لكنك أُصبت " .
مزقت نصف ثوبها ، وربطت بالقماش فخذه النازف .
وفي الحال خرج "غوربو" من هناك وهجم على الطوارق ، يضربهم بسيفه في كل الاتجاهات ، ويجعلهم يفرّون ، عندها خرج الفلوبيس يلاحقونهم ، لكن غوربو ذهب الى بيت الفلاح ، حيث هناك رجله المدرع "ألآل " ، وهناك ربط الحصان وخلع ملابسه و سلاحه ، ثم ارتدى ملابسه الرثة ، وعاد إلى المدينة وهو يركب الجحش .
وعندما رآه الحداد الذي كان قد استقبله أول مرة من قبل صاح الحداد:
" انظروا إلى هذا البائس! الزنديق! هذا الكلب الأجرب! هذا الجبان ! هيا أسرع بالمرور من جانب بيتي !! " .
فقال غوربو: " ماذا تريد؟ منذ أن جئت إلى هنا وأنا أقول إنني ابن ناسٍٍٍٍ فقراء " .
وبعد أن قال ذلك ، سرّح الجحش واتجه إلي الساحة الكبيرة ، حيث كان هناك عدد كبير من الفلوبيس مجتمعين في مجلس الملك حمّادي ، يتحدثون عما جرى ذلك اليوم وكانت كودو بينهم .
عندما وصل غوربو بهيئته البائسة ، بدأت كودو تبكي و تقول : " آه ياأبتي آه يا أبتي أية تعاسة جلبت لي!! فلقد كان من بين الفلوبيس رجال أكثر شجاعة وفروسية " .
فقال غوربو :
" منذ اليوم الأول لزواجنا قلت لك : إنني ابن ناسٍٍ فقراء ، وقلت لأبيك : إنني لا أفهم في الخيول ولا في الحروب " .
فأخذت كودو تبكي وتقول: " جبان! بائس ! خوّاف!" .
وجلس غوربو غير مبالٍ في إحدى الزوايا .
حلّ الليل و ذهب الفوليبس إلى بيوتهم ، ولم تقدر كودو على النوم ، كانت تفكر في زوجها الجبان وفي الفارس الشجاع الذي أنقذها ، وفي منتصف الليل نظرت إلى مكان نوم زوجها ، فشاهدت آثار دماء ، كانت تنزّ من ربطةٍٍٍ على فخذه ، والربطة كانت قطعة من ثوبها الذي مزقته من أجل إسعاف الفارس الشجاع .
كانت الربطة مشدودة على فخذ زوجها الذي عاد راكبا على الجحش ، فنهضت كودو وسألت زوجها:
" قل لي : من أين جاءتك هذه الجرح؟ " .
فرد عليها غوربو:
" خمّني " .
فسألت كودو:
"من قصّ الثوبَ لربط جرحك؟ " .
قال غوربو: " خمّني " .
فسألت كودو: " من تكون أنت؟ " .
فقال غوربو :
" ابن أحد الملوك ، لكن لا تقولي شيئاً الآن ، قومي و حضّري زبدة لتضعيها على جراحي " .
أحضرت كودو الزبدة ، وسخنتها ثم صبّتها على الجرح وربطتها ، وبعدها خرجت لترى أمها ، فجلست إلى جوارها ،وبدأت تبكي وتقول:
" زوجي ليس جباناً ، لم يهرب ، إنه الرجل الذي أنقذ اليوم المدينة من الطوارق ، لكن لا تقولي ذلك لأحد " . وانسلت بصمت .
في اليوم التالي عاد غوربي يركب الجحش ، وذهب إلى بيت الفلاح الذي ترك فيه رجله المدرع وأسلحته وثيابه و حصانه.
: " الآل !! قال لرجله المدرع ، لقد حل اليوم الذي علينا فيه أن نقدم أنفسنا إلى ساريام وإلى الملك العظيم حمّادي ، اسرج خيلي وخيلك أيضا ".
وارتدى غوربو ثيابه الفارهة ،وأخذ سلاحه ،ودخل ساريام ممتطيا حصانه يتبعه الرجل المدرع .
توقف في الساحة الكبيرة ، حيث كانت أعداد من الفلوبيس مجتمعين . غرس المدرّع قطعتين رائعتين من الفضة ليربط بهما رسن الخيل .
نادى غوربو على زوجته التي جاءت في الحال و حيّاها مبتسماً وبعدها اتجه نحو الفلوبيس وقال:
أنا غوربو ديكي وهذه زوجتي كودي أردو ، أنا ابن أحد الملوك ، أنا من هزم الطوارق البارحة وأول البارحة .
: " لا أصدق ذلك " . قال الملك .
فرد عليه غوربو: " اسأل من كان معي في القتال " .
فقال الجميع:
" هل هذا صحيح ؟ لقد رأيناك تفرّ دائما على الجحش " .
لكن نسيبي الملك فقط هما اللذان قالا : " لسنا متأكدين " .
عندها أخرج غوربو الأذنين من جيوبه ، و قال :
" هل تعرفون هذين الأذنين؟ " .
اخفض الاثنان رأسيهما ولم يقولا كلمة واحدة .
اقترب الملك من غوربو ، وركع أمامه قائلا: " اعذرني ، وهاك المُلكُ من يدي " . فقال غوربو:
" أيها الملك حمّادي أردو ، أنا لست أقل منك ، أنا أيضاً ابن عائلة من الأردو ، و بما أنني أصبحت ملكاً فإنني آمر بإحضار الحدّاد الذي هزّأني وسخر مني لمرات عدة . آمر أن يجلد مائة سوط على إليته .
وهذا ما حصل.
* Flubes :الفلوبيس تطلق على سكان القسم الغربي من الصحراء الافريقية (المترجم )
دان— أوتا
هذه إحدى الحكايات التي يرويها كبار السن في ليالي الشتاء حول مواقد النار عند القبائل في أراضي مالي الشاسعة .
قبل سنين بعيدة ، في وقت ألقى الزمان به من وراء ظهره ، تزوج رجل من امرأة ، وذهبا وحيدين إلى الغابة ، وهناك زرعا الأرض واستخرجا منها ما يكفي حاجتهما ، وبعد انقضاء سنة ولدت لهما ابنة أسميها "سارا " ، و استمرا وحيدين ، وعندما أصبحت " سارا " شابةً ، جاءهما طفلُ آخر أسمياه "دان—أوتا " .
وبعد فترة مرض الأب فقال لنفسه:" إنني أموت" . ونادى على ابنته سارا وقال لها :
" يبقى " دان أوتا " معك ، لا تتركيه ، وفوق كل شيء اعملي على أن لا يبكي دان أوتا أبداً " . و ما أن قال الأب ذلك حتى مات .
وبعد فترة مرضت الأم وقالت لنفسها :" إنني أموت " . ونادت سارا وقالت أمها لها:
" ليبقى دان أوتا معك ، لا تتركيه ، و فوق أي شيء إياك أن يبكي أبداً " . وماتت الأم بعد أن قالت ذلك .
بقي الطفلان وحيدين في الغابة ، وكان قد تبقى لهما مخزون قليل من الذرة ، ومن الطحين المستخرج من شجرة الخبز ومن الفاصولياء الناشفة ، فقالت سارا : " بهذا لدينا ما يكفينا ، لنأكل إلى أن يصبح دان أوتا رجلاً ويمكنه زراعة الأرض " .
وبدأت سارا تطحن الذرة لتحضّر الطعام، و عندما أصبحت الذرة طحيناً وضعته في إحدى القرعات ، وأخذته إلى الكوخ لتخبزه ، وبعدها خرجت لتبحث عن الحطب ،وقد تركت دان أوتا وحيداً يحبو على الأرض ، وبالكاد يحاول الوقوف على قدميه ، وعندما شعر أوتا بالملل اقترب من القرعة ، فقلبها ، وأخذ جمرة من الموقد ، وخلطها بالطحين . عندما عادت سارا ورأت ما فعله دان أوتا صرخت :
" أي ! يا أخي دان أوتا ماذا فعلت؟! لقد أتلفت طحين طعامنا اليوم !! " .
فبدأ دان أوتا بالبكاء ، لكن سارا قالت في الحال : " لا !! لا تبكِ يا دان أوتأ ، فأبوك وأمّك قالا لي ألا ّ أدعك تبكي أبداً " .
عادت سارا للخروج ، و عاد دان إلى الملل . وعندما رأى الجمرات تتوهج أخذ دان واحدة منها ، و زحف خارج الكوخ ، فأشعل النار في مخزون الذرة وفي طحين شجرة الخبز والفاصولياء ،عندها وصلت سارا ورأت كلّ شيء ، وقد أكلته النار فصرخت :
" أي !! يا أخي دان !! ماذا فعلت ؟ لقد حرقت كلّ شيء كان عندنا لنأكله !! كيف سنعيش الآن؟ " .
وعندما سمعها دان ، بدأ بالبكاء ، لكن سارا قالت له بسرعة: " يا أخي دان أوتا لا تبكِ لقد أوصاني أبوك وأمك ألاّ تبكي أبداً ،وها أنت قد أحرقت كل ما كان عندنا ، لا بأس ، تعال لنرى ماذا نفعل لنأكل " .
وضعت سارا دان على ظهرها ، وربطته بثوبها وانطلقت نحو الغابة ، فعثرت على طريق مشت فيه حتى وصلت إلى إحدى المدن ، فوجدت نفسها في حي الملك ، وهناك استقبلتهما الزوجة الأولى للملك ، وأبقتهما ليسكنا معها ، و صارت تقدم لهما الطعام يومياً .
كانت سارا دائماً تحمل دان أوتا على ظهرها ، فأخذت النساء الأخريات يسألنها :
" سارا لماذا تحملين دان على ظهرك دائماً ؟ لماذا لا تضعيه على الأرض و تتركيه يلعب مع الأطفال الآخرين؟ " .
فأجابت سارا:
" دعوني وحالي فان أبي وأمي أوصياني ألاّ يبكي أبداً ، وعندما أحمله على ظهري فإنه لا يبكي ، عليّ أن أحرص ألاّ يبكي " .
لكن دان أوتا في يوم من الأيام قال لسارا : " أريد أن ألعب مع إبن الملك " .
فوضعته سارا على الأرض ، و أخذ دان يلعب مع ابن الملك ، تناولت سارا جرّة وخرجت لتبحث عن الماء ، وفي الأثناء أخذ ابن الملك غصنًا فأخذ دان غصناً أخر وبدأ الاثنان يلعبان بالأعواد ، فقلع دان إحدى عيون ابن الملك والذي ارتمى سريعاً على الأرض .
في هذه اللحظة كانت سارا قد وصلت ، ورأت دان و قد اقتلع عين ابن الملك . لم يكن أحدٌ هناك ، لكن ابن الملك بدأ يصرخ، فتركت سارا الجرّة ، وأخذت دان اوتا و خرجت من حي الملك ، ومن ثم خرجت من المدينة كلها بما أمكنها من عجلة .
لم يكن أحدٌ موجوداً عندما اقتلع دان عين ابن الملك ، لكن الطفل استمر بالبكاء والصراخ فسمعه الملك وسأل:
" لماذا يبكي ابني؟ " .
خرجت نساؤه ليرين ماذا حدث ، وعندما لاحظن المصيبة ، أخذن بالصراخ فسمع الملك صرخات زوجاته الأربعين ، فهرع إلى المكان .
: " ما هذا؟ من فعل ذلك؟ " . سأل الملك . فأجابه ابنه: " إنه دان أوتا " .
قال الملك لحراسه: " اخرجوا ، اذهبوا في كل أرجاء المدينة ، ابحثوا عن سارا و دان أوتا " .
انطلق الحراس وبحثوا في كل بيت ، لكنهم لم يجدوا ضالتهم، فجمع الملك كل ناسه وكل جنوده الراجلين المشاة والخيالة وقال لهم :
" لقد هربت سارا ومعها أخوها دان أوتا من المدينة ، فابحثوا عنهما في الغابة ، وأنا سأذهب بنفسي مع الخيالة للبحث عنهما " .
لقد مضى يومان متتاليان على سارا وهي تمشي ، ودان أوتا على ظهرها ، ولم تقو بعد ، لكنها رأت من بعيد الملك وجنوده قادمين ، وكان بالقرب منها شجرة ضخمة، فقالت سارا لنفسها :
" سأصعد هذه الشجرة ، وهكذا يمكنني الاختباء بين أوراقها " .
وصعدت إلى الشجرة يرافقها دان على ظهرها ،واختبآ بين الخضرة الكثيفة ، وبعد قليل وصل الملك وجنوده إلى الشجرة فقال الملك :
" لقد امتطيت خيلي ليومين وأنا متعب ، ضعوا كرسيّ الخيزران تحت هذه الشجرة ، أريد أن أرتاح " .
نفذّ الجنود ما آمر به الملك ، واسترخى الملك على كرسيه تحت الغصن الذي تجلس عليه سارا ودان أوتا .
تململ دان أوتا ، لكنه شاهد الملك في الأسفل فقال : "سارا ! سارا !" .
: " اسكت يا دان أوتا !! اسكت!!". فبدأ دان بالبكاء ، وأخذت سارا تقول له : " لا تبكِ يا دان أوتا !! لا تبكِ فأبوك وأمك قالا لي : ألاّ تبكِ أبداً ، فقل ما تشاء " .
فقال دان أوتا :
" سارا أريد أن "أسوي بيبي" ، أن أبول على رأس الملك ".
فغضبت سارا و قالت : " أي يا دان أوتا !! سوف يقتلنا إذا فعلت ذلك " . فبدأ دان بالبكاء .
فقالت سارا له : لا تبكِ ،وافعل ما تشاء " .
وفعل دان ما يريد ، وسقط السائل على رأس الملك ، الذي وضع يده على رأسه ، وتحسس الشيء الذي سقط على رأسه وقال : " هذا براز !! " . فنظر الملك إلى أعلى ، و رأى سارا و دان أوتا . فصرخ :
" احضروا الفؤوس ، وقصوا الشجرة " . فركض رجاله ، و جلبوا الفؤوس ، وبدؤوا يضربون على جذع الشجرة .
أخذت الشجرة تهتز ، وازدادت ضرباتهم القوية ، فانحنت الشجرة ، عندها قالت سارا :" الآن سيقبضون علينا ، وسوف يقتلوننا " .
في الحال انطلق طائر عملاق فوق الغابة ، وجاء ليحطّ على الشجرة التي كانت سارة ودان يختبئان فيها ، شاهدت سارا الطير و هو يقترب فقالت :
" يا طائري العملاق إن رجال الملك سيقتلونني أنا و دان آخي ، إذا أنت لم تنقذنا " .
سمع الطير العملاق ما قالته سارا ، فاقترب منها ومن أخيها ، فوضعت سارا دان على ظهرها ، لكن الشجرة سقطت في الحال ، فالتقط الطائر سارا وأخيها وطار بهما عالياً فوق الغابة ، واستمر بالتحليق عالياً . نظر دان إلى الطائر، فلاحظ أنه يحرك ذيله كأنه مقود، فتمتع برؤية ذلك ، لكنه بعد قليل تململ وقال : " سارا ! سارا ! " .
ردت سارا : "ماذا تريد بعد يا دان أوتا ؟ " . فبدأ دان بالبكاء .
فقالت سارا:
" لا تبكِ !! لا تبكِ !! فأبوك وأمك أوصياني ألاّ تبكي ، افعل ما تشاء " .
: " أريد أن أضع إصبعي في هذه الفتحة التي تحت ذيل الطائر !! " . فقالت سارا :
" إذا فعلت ذلك فسيدعنا الطير نهوي ، و سوف نموت ، لكن لا تبك ، وافعل ما يحلوا لك " . فأدخل دان إصبعه في المكان الذي قال عنه ، عندها طوى الطائر جناحيه ، فسقطت سارة وهي تحمل دان على ظهرها ، وعندما كانا قريبين من الأرض ، بدأت رياح قوية تصفر بزوابعها ، فرأتها سارا وقالت لها : " أيتها الريح !! إننا نسقط ،و بعد قليل سنرتطم بالأرض ، وسنموت إذا لم تنقذيننا " .
فوصلت الريح ، و اختطفت سارا و دان وحملتهما إلى مكان بعيد، ثم ألقت بهما بهدوء على الأرض ، فكان ذلك المكان غابة في إقليم بعيد .
تقدمت سارا مع دان في الغابة وعثرت على طريق .
ومشت فيه ودان على ظهرها ، حتى وصلا إلى مدينة كبيرة وأكبر من كل المدن ، يحيط بها سورٌ كبيرٌ وقويّ ، وفي الجدار كانت بوابة ضخمة من الحديد ، كانت تغلق عند الليل لأنه كل ليلة وبعدما ينقضي النهار بقليل ، كان يظهر شبح مخيف يدعونه " دود/ Dod" ، كان مرتفعاً مثل البغل ، لكنه لم يكن بغلاً ، وكان طويلاً مثل أفعى ضخمة ، لكنه لم يكن أفعى ، كان قوياً مثل الفيل ، لكنه لم يكن فيلاً ،كانت له عينان تتقدان فتضيئان في الليل مثل الشمس في النهار ، وكان له ذنب .
كلّ ليلةٍ ، كان الدود يزحف باتجاه المدينة ، ولهذا السبب أقاموا السور والبوابة الضخمة ، ومن تلك البوابة دخلت سارا تحمل دان على ظهرها ، وخلف السور مباشرة ، والى جانب البوابة ، كانت تسكن امرأة عجوز، فطلبت سارا منها أن تشفق عليهما ، فقبلت العجوز وقالت لهما :
" كلّ ليلةٍ يأتي "دود" المريع أمام المدينة ، ويبدأ بالغناء بصوت قويّ وإذا ردد أحد غناء الدود فإنه يدخل المدينة ، ويقتلنا جميعاً ، فاحذري أن يصرخ دان ، وهذا هو شرطي الوحيد لاستقبالكما " .
سمع دان كلّ شيء ، وفي اليوم التالي ذهبت سارا إلى وسط المدينة ، لتحضر طعاماً ، وفي الأثناء أحضر دان أغصاناً يابسة وقطعا صغيرة من الخشب ، وجدها إلى جانب السور ، وبعد ذلك انطلق باتجاه المدينة ، وكلما رأى حجراً من "الماكودي/ Makodi" ، وهو حجر الصوان الذي يستخدم للجاروشة، كان دان أوتا يأخذه ، وهكذا جمع مائة حجر صوان وبعدها قال :
" تبقّى لي بعض الجمر ، وتابع في المدينة فرأى بعضها ملقى ومهملاً .
وإلى جانب السور الذي كوّم عنده الحطب ، وضع أحجار "الماكودي" وأخفى الجمرات تحتها . ولم يشعر أحد بفعلته هذه .
في الليل قالت سارا له : "ادخل بسرعة إلى البيت يا دان أوتا ، فـ"دود" المرعب سيأتي بعد قليل ، و يمكن أن يقتلنا " .
فأجاب دان أوتا: " هذا اليوم أريد أن أبقى في الخارج " .
قالت سارا :" ادخل إلى البيت " .
وبدأ دان بالبكاء ، لكن سارا بسرعة قالت له:
" يا أخي دان أوتا !! لا تبكِ !! فأبوك وأمك أوصياني ألاّ تبكي ، وإذا أردت البقاء خارج البيت ، فابق " .
دخلت سارا إلى البيت عند العجوز وبقي دان أوتا في الخارج، يجلس أمام بيت العجوز.
كان كلّ سكان المدينة في بيوتهم ، وقد أغلقوا الأبواب عليهم ، وكان دان أوتا هو الاستثناء الوحيد ، فركض إلى المكان الذي كوّم فيه الحطب ، وأشعل فيه النار فصارت أحجار الصوان حمماً متقدة ، وفي هذه اللحظة أحس بقدوم الوحش "دود" ، فصعد دان أوتا على السور ، وشاهد "دود" قادماً من بعيد ، كانت حدقات عينيه تضيئان مثل الشمس ، وسمع دان أوتا "دود" وهو يغني بصوت قوي و مرعب :
: " فوايانني أغارينانا ني "دود " /vuayanni agarinana ni dod " . ومعناها : من يشبهني في هذه المدينة أنا "دود"...
عندما سمع دان أوتا ذلك ، وهو يجلس على الجدار ، فلقد بدأ بالغناء و بكل قوته وجه صوته نحو "دود":
" ناي ياكاي أغارينانا ناي ياكي ني أوتا/ naiyakay agarinana naiyakai ni auta " ومعناها: " أنا أشبهك في هذه المدينة أ نا أوتا " .
عندما سمع "دود" ذلك ، بدأ يقترب من المدينة ، و يقترب ، ويقترب ، فوصل قريباً جداُ ، وصار يغني : " من يشبهني في هذه المدينة أنا "دود" " .
وعندما غنى "دود" ذلك ، بدأت الأشجار تهتز في الغابة ، والأعشاب اليابسة بدأت تشتعل ، لكن أوت أجابه : " أنا من يشبهك في هذه المدينة ، أنا أوتا " .
قفز "دود" عن السور ، ونزل أوتا راكضاً ، وذهب إلى جانب النار التي أشعلها ، فكانت أحجار الصوان تتوهج متقدة .
عندها غنّى الدود ثانية بصوت أكثر رعباً من قبل ، فأجابه دان أوتا مرة ثانية ، بينما كان الناس في المدينة يرتجفون من شدة الخوف والهلع لسماعهم صوت الشبح المريع .
فاستوحش "دود" واستشرس كما لم يكن من قبل ، و بدأ يردد أغنيته ، وعندما فتح فمه وقال :
" فواياننيvuayanni/من يشبهني .... " . قذفه دان أوت بأحجار الصوان العشرة ، فدخلت إلى حلقه . واستمر "دود" ، يريد إكمال أغنيته وقال:
" في هذه المدينة..." . عندها قذفه أوتا بعشرة أحجار اخرى ، فبلع الصوان المتقد ، وهاج ، و بصوت منخفض أتمّ المقطع الأخير من أغنيته : أنا"دود"...
انتهز دان أوتا فتح الشبح لفكيّه ، وأدخل فيها ما تبقى من الصوان المشتعل ، فصار الشبح يتلوى ، ثمّ سقط على الأرض هامداً . فصعد أوتا إلى الجدار وبدأ يغني بصوته الطفولي: " من يشبهني في هذه المدينة ؟ أنا أوتا ".
ونزل عن السور ،وأخذ سكينا كان قد أخرجها من بيت العجوز وأخفاها عن أخته ، وبتلك السكين قطع أوت ذيل الشبح ، وأخفاه في مخلاة ، ودخل بها إلى غرفة العجوز،حيث انسل إلى فراش سارة ونام .
في صباح اليوم التالي ، خرج جميع الناس سكان المدينة من بيوتهم ، أمـّا أرفعهم شأنا ، فلقد ذهبوا للقاء الملك ، الذي سألهم: ما هذا الذي جرى في الليلة الماضية؟ ".
فأجابوه :
" لا نعرف ، لقد كدنا نموت من الخوف، ولقد جرى الحادث قرب السور والبوابة الحديدية " .عندها قال الملك لوزيره المتخصص بشؤون الصيد: " اذهب ، وانظر ماذا حصل " .
ذهب وزير الصيد إلى المكان ، و صعد إلى السور فشاهد "دود" ميتاً . فعاد راكضاً إلى الملك وقال له : " إنّ رجلاّ جباراً قد قتل الدود " . فأراد الملك رؤية ذلك ، وامتطى جواده ، وانطلق إلى السور ،وهناك رأى الشبح ممدداً وقد فارقته الحياة ، فصاح:
" حقاً !! لقد مات الدود !! و قد قُُطعَ ذيلـُه !! احضروا لي الرجل الشجاع الذي قتله " .أحد الرجال ممن كان يمتلك لبوة ، قام بقتلها وقطع ذيلها ، وآخر كان عنده جمل فقد ذبحه وقطع ذيله ، وآخر كانت عنده بقرة فذبحها وقطع ذيلها .
و ذهب كلّ واحد منهم إلى الملك و أبرز ذيل حيوانه وكأنه ذيل "دود" ، لكن الملك عرف الخديعة فقال:
" كلكم مخادعون !! ولم تقتلوا "دود"!! فالدود لم يقتله رجل من المدينة ، أنا والجميع سمعنا صوت طفل " . وسأل: " هل يسكن بالقرب من البوابة الحديدية أيّ طفل غريب؟ ".
فذهب الجنود إلى بيت العجوز وسألوها: " أيتها العجوز !! هل يسكن هنا طفل جاء من الغابة؟ " .
: " يسكن معي سارا وأخيها دان أوتا " .
فتوجه الجنود بالسؤال إلى سارا:
" سارا !! هل كان أوتا الصغير هو من قتل "دود" ؟ " .
أجابت سارا : " أنا لا أعرف شيئاً !! اسألوه هو!! ".
:" دان أوتا !! هل أنت من قتل "دود" ؟، فالملك يريد أن يعرف ذلك " .
لم يجب دان أوتا ، إنما أخذ المخلاة وذهب مع الجنود إلى الملك ، وهناك فتح المخلاة وأخرج ذيل "دود" ، ثم أبرزه إلى الملك ،عندها قال الملك :
" نعم دان أوتا!! دان آوتا هو الذي قتل "دود" المريع " .
وقام الملك بمنح مائة زوجة إلى دان آوتا و مائة حصان و مائة عبد و مائة بقرة ومائة ثوب و مائة نعجة و نصف المدينة .