لعنة الخبز
قبل مئات السنين كانت "ستافورن/Stavoren" أغنى المدن التجارية في هولندا .كان ميناؤها غابة دائمة بالصواري والمراكب المحملة بشباك الصيادين ، ومن هناك كانت تنطلق السفن التي تجوب كل البحار ، وتعود محملة بالمنتجات الأكثر جمالاً والأغلى من كل البلدان .
كانت خيرات "ستافورن" تنمو ، وكذلك تزداد القصور من المرمر المزين بالذهب.
إلى جانب ذلك كان في المدينة ناس فقراء ، بينما عدد الأغنياء المتكبرين كان كبيراً كانوا يبعثرون ثرواتهم في حفلات فاخرة يأكل فيها الغرور والشهوات .
من بين أولئك التجار الأغنياء في ستافورن لم يكن أحدهم اكثر ثراءً وسطوة من الشابة "ريشبيرتا/Richberta " كانت قطع أسطولها التجاري كبيرة العدد ، تمخر بحار العالم ، وتعود محملة بالماس والمجوهرات والذهب من أراض بعيدة .
كانت ثروة "ريتشبيرتا" لا تحصى ، فقصرها كان الأكثر جمالاً في ستافورين ، وملابسها كانت مشكشكة بالأحجار الكريمة الرائعة ، وفي الحفلات كانت تستعرضها كلها ببريقها الكبير الذي كان يثير دهشة المدعوين ، وفي الاحتفالات الكبرى لم تغب ألذ المأكولات وأغلاها واندرها . وهكذا كانت تنمو كنوز ريتشبيرتا كما نما غرورها وازدراؤها للناس الفقراء المساكين .
في أحد الأيام وفي حفلة عشاء حضرها عدد كبير من المدعوين ، حضر رجل مسن قال إنه جاء من بلاد بعيدة ، و يريد أن يقدم إعجابه بثروات ريتشابرتا التي سمع عنها في محافل الملوك الأكثر جبروتاً .
وهي تكاد تطير من ذلك المديح رجت ريتشيل من الرجل الأجنبي أن يجلس إلى طاولتها .
كان الرجل الغريب يلبس على الطريقة الشرقية، ويظهر إحساسا بالكرامة والنبل عبر حركاته وإيماءاته ، وفي عينيه كان يخفي نظرات ثابتة فيها طاقة الشباب .
وعند اقترابه من ريتشبيرتا كان ينتظر أن يرى في يدها الخبز والملح الذي يقدم في بلده الى الزائر الضيف في إشارة للترحيب والضيافة ، لكن على تلك الطاولة المليئة بألذ الطعام و أكثره ندرة لم يكن هناك خبز .!! كلّ شيء كان متوفراً حتى الورود والزجاج ماعدا غذاء الفقراء والمساكين.
جلس الضيف إلى الطاولة ، وفي نهاية العشاء حكى عن حياته الجوالة بين كل بلدان العالم ، تحدث عن أراضٍ بعيدة ورائعة ، وعن عادات شعوب الشرق ، وعن مغامراته الشخصية في الرحلات الطويلة تحدث عن أفراحه وأحزانه بين الناس الفقيرة والناس الثرية ، وعن الأراضي الخصبة الطيبة ، وعن استحالة السعادة البشرية .
كل الذين كانوا يأكلون على المائدة كانوا مهتمين بالروايات التذكارية للضيف الغريب . كلهم ما عدا ريتشبيرتا فلقد كانت تنتظر سماع المدائح فقط عن ثرواتها . فعندما تحدث المسافر عن المحافل الفاخرة للملوك ، قارن قصورهم و كنوزهم بما تملك ريتشبيرتا ، لكنها تفاجات عندما قال :إنه لا يجد على الطاولة الضخمة للدعوة ذلك الشيء الذي يقدره كل العالم كأفضل واكثر ضرورة من كل الخيرات . ولم يقل الأجنبي أكثر من ذلك ، وعبثا كان سؤالها وإلحاحها في أن يفسر معاني كلامه ، لكنه سرعان ما حيّاها باحترام ومضى دون أن يعرف أحد عنه أي شيء .
المتعجرفة ريتشبيرتا لم تقو على مقاومة معاناة الحيرة تلك، فلقد كانت تملك كل الأشياء التي تمنتها ، و قصرها كان مليئاً بكل الأغراض الثمينة ومن كل الثروات وأطياب أكل الأرض والبحار ، فما هو الشيء الذي كان ينقص؟ والذي يعتبر أفضل كل الخيرات؟
حاول حكماء كثيرون و منجمون اكتشاف اللغز ، وكانت ريتشبيرتا تفقد الصبر ، وهي مصرّة على أن تعثر على ذلك الخير الكبير ، ولذلك أمرت أن ينطلق أسطولها في البحر .. وأن لا يعود إلاّ وقد استطلع كل البحار وكل اليابسة..
نفخت الريح أشرعة مائة مركب لرحلات طويلة ، وتشققت قبعات البحارين ، وامتزجت مياه البحر الأجاج بالمؤونة المخزونة، فأتلف الملح كميات الخبز وأكياس الطحين .
لقد نفدت كمية النبيذ الفاخرة والأسماك واللحوم المقددة بالملح ، وصار نقص الخبز معاناة لا تطاق فطلب ربان البحارة أن يعود إلى الميناء الأكثر قرباً من أجل الحصول على الطحين ، وعندها عرف قبطان الأسطول ما هو الشيء الأفضل بين كل الخيرات ..
لم يكن الذهب أو عطور الشرق ولا البهارات الطيبة الفاخرة و لا اللألىء في أعماق البحر . كان ذلك هو الخبز.. خبز كلّ يوم.. غذاء الفقراء والأغنياء.. لقد تم اكتشاف اللغز في كلام ذلك الغريب الذي قاله في الحفلة الكبيرة..
ومع هذه الأفكار اتجه الربان مباشرة نحو ميناء البلطيق ،فحمّل سفنه بحبوب القمح القوية والمذهبة وعاد سعيداً منتشيا إلى ستافورين .
: " سيدتي ريتشبيرتا !!هنا أحضر شحنة من الكنز الثمين!! انه الخبز !!انه ما كان ينقص على الطاولة!! اسمعي كيف وصلت لاكتشاف ما كان يفكر فيه ذلك المسافر الغريب .
تركت ريتشبيرتا القبطان يتكلم وصاحت بحالة من الغضب: " اسمع جيداً ما آمرك به!! حضّر رجالك !! وقبل أن يحلّ الليل يجب على شحنتك الغبية أن تلقى في البحر !! ".
وعبثاً كان احتجاجه ومحاولته للتوضيح ، وعبثا توسل ريتشبيرتا أن لا تدمر ثروة يمكنها أن تنهي بؤس ومجاعة فقراء المدينة ، لكن الشحنة الثمينة أُلقي بها إلى البحر على مرأى حشودٍ من الجائعين، كانت تلعن ريتشبيرتا وجبروتها وإساءاتها ..
الكمية الهائلة من الحبوب الذهبية اختلطت في البحر مع طمي القاع ، وبعد فترة لا بأس بها بدأت تنمو هياكل مستقيمة وصلبة وأخذت تنمو وتنمو بقوة ، ارتفعت من أعماق البحر بصخب مرعب أكوام من الرمال والطمي التي امتزجت بين غابة كثيفة من القصب ، فتشكل بذلك ارتفاعات كبيرة كالروابي ، لقد نما القمح حتى سطح الماء ، وشكّـل أمام ستافورن حاجزا لا يمكن تفتيته .
إلى الميناء الرائع في "زويدرز/Zuiderzee " عاد البحارة و داروا ولفوا أياما وليالي دون أن يقدروا عبور ذلك الجدار المائي ، ورويداً رويداً بدأت الأمواج تتحطم على سور الطحين ، و فقدت ستافورن بشكل سريع ثرواتها وقوتها . هاج البحر وهدر، يرغي زبده الأبيض أمام المياه الهادئة في الميناء القديم .
وبعد زمن لا بأس فيه جاءت ليلة عاصفة ، وحطمت بقوة الحاجز فوصلت المياه إلى المدينة تسحبها و تجرجرها حتى الأعماق على ألواح من القمح البحري ، وغمرت مياه زويدرزي الوادي العريض حيث كانت ستافيرو .
وفي أيام الهدوء يقترب البحارة بحذر من مقدمات سفنهم ، لينظروا إلى الأسفل ، إلى المياه الشفافة ويروا الأجراس العالية والأبراج والقصور في المدينة المغمورة بالماء .