* استراتيجية إسقاط الشرق:
تظهر النظرية السياسية الأميركية أن العمل السياسي لابد له من عدو حتى يصبح للسياسة معناها.. وهنا نستذكر قول كسينجر: "إنه لو لم يوجد الاتحاد السوفييتي لأوجدناه". وعليه فقد ذكر الجنرال تومي فرانكس قائد العمليات الأخيرة في أفغانستان والعراق أنه لو لم تكن أحداث 11 أيلول لما كان في نية الولايات المتحدة إقامة قواعد عسكرية دائمة في منطقة آسيا الوسطى.. وصرح نائب وزير الدفاع الأميركي السابق ريتشارد أرميتيج "أن الحضور الأميركي في تلك المنطقة فاعل كما لم يكن من قبل".
وبالعودة إلى الوراء قليلاً نجد أن السياسة الغربية عموماً قد استفادت من نظريات ماهان وماكيندر وهاوسهاوفر وتجلى ذلك في الاندفاع نحو تقسيم العالم على أساس جيوبوليتيكي من منطقة البلقان حيث تعد منطقة متوهجة كما (الشرق العربي) منذ القرن التاسع عشر حتى الآن أو كما أسماها البريطانيون فيما مضى بالمرجل الفائر، حيث تشكل مجالاً حيوياً استراتيجياً لصراع القوى ومصالحها الدولية والمنفذ الأهم للاندفاع عبر الأدرياتيكي إلى المتوسط فقلب العالم أفغانستان.. حتى أن مجرد الإشارة إلى البلقان تعني انفجار البارود، بل إن البارود نفسه قد اخترع في البلقان منذ صراع الإمبراطورية العثمانية وإمبراطورية النمسا ـ المجر.. وتعد البلقان منطقة نفاذ بحري وبري إلى بحر البلطيق والبحر الأبيض المتوسط وإلى الشرق حتى بغداد ـ كما رسمته ألمانيا وبريطانيا فيما مضى ويقوم على هذا الخط عدد مهم من الدول ـ النمسا، النرويج، فنلندا، وبولندا، والمجر، وماكيدونيا، واليونان، ويوغوسلافيا، وبلغاريا حتى تركيا فالمشرق العربي إلى قلب الجزيرة العالمية في شرق آسيا.
وعليه تكون شبه جزيرة البلقان معبراً للخطوط الدولية الحيوية تربط شمال أوربا بجنوبها من جهة وبالعالم من جهة ثانية، ولذا كانت هذه المنطقة المذراة التي تذرو الأحداث والصراعات وتقع باستمرار تحت مراقبة الدول الكبرى الجديدة وحروبها التي تحكم شعوب المنطقة على الدوام (والتي لا دخل لصربيا بها كما ادعى الأميركيون على عادتهم في إيجاد عدو لهم لتسويغ اندفاعهم الجيوبوليتيكي). فقد شكلت هذه الدول محوراً جديداً للصراع/ بعد زوال الاتحاد السوفييتي وانهيار فيدرالية يوغوسلافيا/ هو محور صربيا ـ كوسوفو ومحور كوسوفو ـ ماكيدونيا ألبانيا، ومحور صربيا البوسنة والهرسك.. وخلقت منها دول الغرب مركزاً متقدماً من السياسة القطبية العسكرية، وكما تطاحنت النمسا وروسيا عليه في القرن التاسع عشر لضمان طرق العبور إلى الأدرياتيكي. نشب الصراع في السنوات الماضية لنفس الغرض لكن بوجوه جديدة تولت أميركا عملية إدارة هذا الصراع بحجج دينية وعرقية وجغرافية ليست صعبة الافتعال وتندرج تحت شعار بريطانيا القديم "فرّق تمر". وفي البدء جعلت هذه القوى الحرب بين الصرب والبوسنيين حرباً دينية ما لبثت أن تراجعت عن هذا الشعار لأسباب تخص أمن أوربا بالذات. أما حقيقة الأمر فتعود إلى التنافس على الممرات البرية والبحرية الهامة في استراتيجية الاندفاع نحو الشرق. وكانت هذه الصراعات التي انتهت بتفتيت يوغوسلافيا بداية الانطلاق نحو الهدف الأكبر وهو النفاذ إلى قلب العالم ـ كما شهدنا بعد أحداث 11 أيلول الذي اخترعته واشنطن كمسوغ لتنفيذ الخطط الجيوبوليتيكية آنفة الذكر.. والتي دأب فوكوياما وصموئيل هنتنغتون على التبشير به في حديثهما الأخير عن العدو الجديد بعد زوال الاتحاد السوفييتي.. وكما كان كيسنجر يعلن عن عدوه السوفييتي فقد أعلن بوش عن عدو له هو العراق وجاء بوش الصغير ليعلن عن عدو جبار هو "الإرهاب الإسلامي" متمثلاً بدمية صنعتها أميركا قبل عقدين من الزمن في مواجهة النظام الأفغاني السابق.. وهكذا وصلت واشنطن إلى قلب العالم من البلقان إلى العراق فأفغانستان ونفذت نظرية ماهان وماكيندر بحذافيرها وضمن تحالف دولي هزيل وشكلي لتوطيد مراكز قواتها الاستراتيجية في قلب العالم..
وهنا لابد من التوقف قليلاً عند الشعارات والأفكار التي تطرحها الأوساط الغربية حول هذه المسألة وأعني بها "الإرهاب والتخلف الإسلاميين" التي حددها المشروع سيِّئ الذكر في مقدماته الذرائعية.
فقد طرح الغرب فيما مضى مقولة "العالم الثالث" وهو نتاج نهب الدول الاستعمارية حيث خرجت معظم هذه الدول من جوف البنية السياسية والاقتصادية الاستعمارية وهي لا تملك من هذه البنية سوى الفتات.. وقد عارضها الغرب بكل قوته.. وبعد 50 سنة من الظلم والحصار يعود الآن ليعمق الصراع على شكل صراع بين الحضارات أو الثقافات كما تشدق عراب السياسة الجيوبوليتيكية الجديد /هنتغتون/ وأنصاره.
إذن فالإرهاب الذي تصارعه واشنطن والغرب هو نتاج الغرب نفسه أو بكلمة أدق هو صراع الغرب مع نتاجه. وإن ما ينطبق على الإرهاب الأفغاني ينطبق على كل الحركات التي تتخذ من الدين وسيلة لتنفيذ خطط صانعيها عن سابق ارتباط وإصرار.. فالحركات المتأسلمة هذه كانت في فترة الخمسينات والستينات معادية للحركات القومية في بلدانها وخصماً عنيفاً لحركات التحرر العربية والعالمية.. وفي إطار الصراع بين العالم الأول والثاني وقفت هذه الحركات إلى جانب العالم الأول الغربي في مواجهة العالم الثاني تحت شعارات ومسميات لا تغرب عن البال ولم ننسها بعد.. وقد التقت مصالحها مع مصالح الغرب فدعمها بالمال والسلاح باسم الإسلام ودعمها إلى الدرجة التي جعلتها تعيق التطورات الوطنية إلى حد بعيد.. ولكن عندما اصطدمت مصالح الغرب بمصالح هذه الفئات أو عندما وجد الغرب أنه استهلكها، رأى أن لا مندوحة من التخلص منها فجعلها طعماً للبدء بتنفيذ هدفه وهو "إسقاط الشرق" واغتيال التاريخ والهويات والحضارات.. أي أن هذا الربيب الذي أنتجته دول الغرب ليقف ضد الإسلام والعرب تركته الآن وجعلت منه عبداً سخرته ضدها لتسوغ الاندفاع نحو هدفها الذي عملت لـه منذ عدة قرون.. أما هذا النتاج الذي تحاصره القوات الأميركية الآن اختار جانباً من الإسلام ليحمي نفسه من مغبة ما أوقع نفسه فيه وهو يغرق تحت رمال أفغانستان المتحركة..
وإن ما نراه الآن وما سيحدث في الزمن المنظور ليس نتاج الحرب الباردة فقط، بل هو ردة فعل على معاناة الغرب من نتاجه التقني الذي دمر البرج في أميركا وهو نتاج عقل غربي وليس نتاج عقل الإسلام.. وإن الغرب الذي أوجد هذه المراجل الفائرة أن في أفغانستان، البلقان، العراق، أفريقيا هو نفسه الذي أنتج "إسرائيل" والظلم والعسف الدولي والإرهاب والرعب الفظيع والفقر والتخلف كالذي يقع كل يوم على رؤوس أطفال فلسطين والعراق وأفغانستان تحت شعار محاربة الإرهابيين وهو في الحقيقة يهدف إلى البدء بتنفيذ الحلقات التالية في استراتيجية أميركا الجيوبوليتيكية.. وهذا ما سوف يؤدي إلى تفجير الأمور ويدعو شعوب العالم المقهورة لمواجهة هذه الحرب القذرة واللاعدل والقهر بطريقة لا يتوقعها العقل الأميركي المتصلب الذي يرى أن التطور العلمي هو وقف على الغرب أو يظن بأن الله لم يخلق سواهم ولم يبدع البشر عبر التاريخ إلا ما أبدعه الغرب..