مسيرة الولاء والفهم بالإسقاط
يعتمد العقل البشري على الإسقاط لفهم الأفكار، خصوصًا المجردة والمعقدة منها. والإسقاط إما أن يكون بالتشبيه أو الاستعارة أو المجاز أو القياس أو أي إطار إدراكي آخر. وقلما يستطيع العقل أن يستوعب أي فكرة خارج هذه الدوائر. فالله حين أراد أن يفهمنا فكرة الله نفسها، كونها فكرة عُلوية مجردة، أسقط عليها أفكار حسية مألوفة جيدًا كفكرة الملك وفكرة النور وكي يُفهمنا فكرة النعيم الذي وعد به عباده المتقين أسقط عليه أفكار حسية تألفها العرب كفكرة الجنة أو البستان والخيول والثمار. هكذا، بوعيٍ منه أو بدون وعي، يفهم العقل البشري كل الأشياء المعقدة و"الغريبة".
مسيرة الولاء بالأمس هي أحد هذه الأفكار الغريبة في هذه المرحلة من عمر عمان التي تختض بأكملها مما يحدث في المحيط العربي.
ليت المنظمون لهذه المسيرة أدركوا بأن الفهم بالإسقاط يتم بين الأفكار الأقرب زمانيًا ومكانيًا وذهنيًا، وهذه هي الفكرة التي أسوق لها هنا.
مسيرة الأمس لن تُفهم خراج سياقها المرحلي، فهي لن تُفهم بقياسها على مسيرات والولاء العمانية في سبعينيات القرن الماضي، ولن تُفهم وفق أي بعد من أبعاد خريطة النهضة العمانية كحب كل العمانيين للسلطان ومراهنتهم عليه، ولكن ستُفهم وفق "مسيرات الولاء" المرحلية. هكذا يشتغل العقي البشري، شئنا أم أبينا. العقل البشري سيفهم مسرة الأمس من خلال قياسها بالمسيرات الموالية التي نُظمت في مراحل مشابهة وفي نفس الإطار السياسي والاجتماعي العام: والإطار الأقرب زمانيًا ومكانيًا وذهنيًا هنا هو بالطبع الإطار التونسي والمصري واليمني والليبي.
فمثلًا، الإعداد الجيد والحضور الأمني المكثف والتغطية الإعلامية الاحتفالية واستدرار العطف والتلاعب بالعقول والمشاعر والبكائيات والنوائح "الخالد-زدجالية"، كانت هي نفسها وفي نفس الوقت تمامًا على قناة عربية أخرى وهي القناة الليبية.
للأسف الشديد هذا هو ما حدث تمامًا. وللأسف الأشد، فإن القارئ لخريطة المرحلة سيبدأ بإسقاط كل تفاصيلها الخفية على الفكرة العمانية. أكرر مرة أخرى: هكذا يعمل العقل البشري، ولن يعمل خارج هذه الإطار رغم معجزات الإعلام العربي.
سيستنبط قارئ الخريطة، صوابًا أو خطأً، بأن هناك نظامًا عمانيًا مرتجًا متخلخلًا، وبأن هناك إضرابات واضطرابات، وهناك فساد ورشاوى وابتزاز، وهناك قمع وإرهاب وهناك مستنفعون متملقون راكبون على الموجة وخائفون على الكراسي نظموا هذه المسيرة واستغلوا البسطاء والطيبين لتحقيق مآربهم وبأن أجهزة الأمن العمانية شاركت في تنظيم المسيرة لأغراض لا يعرفها إلا هم، وبأن الإعلام العماني إعلام منافق ومهادن وفاقد المصداقية. كما سيستنبط قارئ الخريطة بأن هناك من يحاولون الإصلاح، كانوا معتصمين على بعد بضعة كيلومترات ولكن لم يلتفت إليهم أحد.
للأسف الشديد، لقد تم يوم أمس إسقاط شخصية بن علي ومبارك والقذافي وصالح على شخص جلالة السلطان وشخصيته: لقد سرقوا منه في لحظة خاطفة كل أمجاده الحقيقية.
الإعلام والأمن العمانيان يعتبان على المخربين في صحار إغلاقهم الشارع العام، والمصلحون بالأمس أغلقوا شارع السلطان قابوس، الشريان الحيوي الأهم في مسقط. أغلقوه لعدة ساعات تحت سمع وبصر الأمن والإعلام.
لقد أغلقوا شارع السلطان قابوس...