رحلة
مع شروق الشمس كنا نتجمّع أمام بوابة المدرسة، للقيام برحلة إلى تدمر وآثارها.. أربعون فتى من طلاب المرحلة الإعدادية، من جهات عدّة، ومن بيوت وأسر تتفاوت في الغنى والفقر. وقد بدا هذا التباين واضحاً في ثيابنا وفي الطعام الذي تزوّد به كل منا، وفي مطرات الماء التي أكّد مشرف الرحلة عليها... فالطريق من دير الزور إلى تدمر لم يكن حينذاك طريقاً معبّداً وسالكاً.... مجموعة من الدروب الترابية تتفرع وتتقارب وتتباعد وتنقطع أحياناً، رسمت معالمها قطعان الجمال والأغنام والسيارات القليلة التي نادراً ما تمرّ بالبادية. وليس من قرية أو مزرعة وربما لانعثر على بئر أو غدير، فالأرض تعاني من انحباس المطر في ذلك الشتاء الذي يكاد أن ينقضي.
قلوبنا واجفة وأعصابنا مشدودة... السيارة لم تصل، وكذلك المدير والمعلم المشرف على الرحلة. وقد فضّلنا البقاء في الشارع، رغم أن باب المدرسة كان مفتوحاً.
طال انتظارنا، فتسرّب القلق واليأس إلى نفوسنا، والنهار قصير، وكل دقيقة لها ثمن. ولم تنقشع الغمامة إلا عندما سمعنا هدير محرّك السيارة، التي لم تلبث أن توقفّت وترجّل منها المدير والمعلم.
لم تكن سيارة حديثة. منظرها لا يبعث على الطمأنينة والرضى، لكن المدير أعلن بلغة فصحى، بعد أن أمرنا بالصمت والهدوء:
-بصعوبة عثرنا عليها، بعد أن خرق سائق الأمس الاتفاق الذي كان بيننا وسافر إلى حلب... كل هذا لايهم... الرحلة قائمة وأتمنى أن تكون ممتعة ومفيدة.
صعدنا إلى السيارة، وتوزّعنا على مقاعدها. ومن لم يجد له مقعداً جلس فوق المحرّك أو ظلّ واقفاً في الممر.
قال المعلم: (دبروا حالكم) وتحملّوا قليلاً. تناوبوا على المقاعد في الطريق.. هذه رحلة ولا طعم لها إن كانت خالية من الصعوبات.
وقف إلى جوار السائق وأعطاه الأمر بالاقلاع، وتعهّد أن يكون دليله ومرشده، لأن السائق- يسلك هذا الطريق أول مرّة.
ماإن صرنا خارج المدينة، حتى لعلعت أصواتنا بالنشيد والغناء... ويشاركنا المعلم دائماً والمدير أحياناً. فتلاشت الحواجز وتقلّصت الفواصل بيننا، وبدا مختلفاً تماماً، وهو يمزح معنا، ويلقي على مسامعنا النكات والتعليقات الساخرة. ثم لايلبث أن ينظر أمامه ويشير إلى السائق موجهاً ومرشداً، إذ علّق في عنقه بوصلة، وحمل بيده مصوّراً يهتدي بهما كي لا نضيع في الفلاة الممتدة إلى مالانهاية.
مرّت ساعتان أو تزيد والسيارة تلهث على الطريق الترابي، وبدت كبعير متعب ينوء بأحمال ثقيلة. حَرَنَتْ مرّة أو مرتين فأضاف السائق ماءً إلى محركها، وتوقّفت مرات عندما كنا أمام مفترق طرق، أحدها ينحرف يميناً، والآخر يساراً، حيث ينظر المعلم إلى المصوّر والبوصلة، ويقول للسائق بعد تأمل وتفكير: خذ اليمين أو خذ اليسار، اسلك هذا الدرب أو ذاك.
كان المدير رجلاً كبيراً، يميل إلى الصمت والهدوء، يفضّل الجلوس وراء مكتبه ومسك الدفاتر والسجلات، وتدوين الصادر والوارد.. خوفُه علينا وشعوره بالمسؤولية حملاه على المشاركة في الرحلة.
انتصف النهار والسيارة مازالت تجوب البادية.. ارتسمت علامات القلق على وجه المعلم، وبدا الارتباك واضحاً في سلوكه، فتجهّم وجه المدير وقال بصوت يائس:
-يبدو أننا أضعنا الطريق، وإلا وصلنا منذ ساعتين على أكثر تقدير.
استجمع المعلم بعض الثقة وقال:
-لا... كيف!؟ أنا أعرف الطريق. ولكن... ربما سلكنا آخر أطول قليلاً.. على أسوأ تقدير، ساعة أخرى ونصل.
البادية خالية تماماً.. لا شجرة ولاخيمة تبدو في الأفق.. لاشيء إلا بعض طيور القطا والنسور التي تحلّق في السماء. السيارة تلقلق بنا على الأرض الوعرة مثيرة وراءها سحابة من الغبار والدخان، وإحساس بالتعب والضعف يتغلغل إلى نفوسنا، وشيء من الحزن والندم يراودنا.
توقفت السيارة بأمر من المدير والمعلم. وقالا لنا:
-لاشك أنكم تشعرون بالجوع والتعب.. انزلوا... تناولوا طعامكم واستريحوا قليلاً قبل أن نتابع رحلتنا.
لم يكن هذا مقرراً في برنامجنا. كنا نودّ تناول الطعام في تدمر وبين آثارها. ولكننا بحاجة إلى الراحة. تفرقنا وبحثنا عن أماكن مستورة، وهذا دفعنا للتنقّل عشرات الأمتار، وقضاء وقت ليس بالقصير قبل أن نعود إلى مقاعدنا.
وفي السيارة، خيّم علينا صمت ثقيل... انطفأت بسمة الأمل، وظل في نفوسنا سؤال يلح باستمرار:
-هل نصل؟ ومتى؟ وكيف؟
ودعتنا الشمس وتوارت خلف التلال. خيّل إلي أنها اليوم اختصرت مسارها، ثم هوت فجأة واختفت.. الظلام يزحف والمعالم تتلاشى والسيارة بضوئها الخافت تتلمّس الطريق الذي يؤدي إلى أين... لا أدري.
قال المعلم: غير معقول. أنا أعرف الطريق.. سلكته مرّات مستعيناً بالمصور والبوصلة. فكيف حصل هذا؟!
نطق المدير بعد صمت:
-المعقول أن نكون الآن قد عدنا إلى بيوتنا. يا إلهي.. ماذا أقول لمديرية التربية؟ ماذا أقول لأولياء الطلاب؟ لاشك أنهم الآن ينتظرون عودة أبنائهم وقد أكل الخوف قلوبهم. ربما بلّغوا مدير التربية وربما وصل الخبر إلى الوزير.
تملكنا الخوف واليأس، وسمعنا الذئاب تعوي في البرية، أو هكذا خيّل إلينا، فتكورنا على مقاعدنا، واستسلم بعضنا إلى نوم قلق من شدّة التعب والإعياء.
كانت الليلة ظلماء داكنة، وفي السماء تبعثرت نجوم يحاول المعلم أن يهتدي بها. أما مصابيح السيارة فقد أبت إلا أن تعاكسنا فتذوي كذبالة شمعة، أو تنطفئ أحياناً، فيعلو صوت المعلم محذّراً السائق: انتبه... حفرة.. احذر.. منحدر.. خذ اليمين، خذ اليسار...
همستُ في أذن رفيقي سائلاً: كم الساعة؟
أجاب: السابعة ليلاً.
قلت: أعرف أنها (ليلاً).
قال: يجب أن نكون الآن في بيوتنا. أليس كذلك؟
كتمت صرخة يأس في صدري، واستسلمت للقدر، وإن ظل في نفسي شيء من الأمل. تخيلت وجه أمي وأبي.. إخوتي الصغار وبيتنا المتواضع. شعرت أنني ابتعدت كثيراً عن منبع الدفء والحنان.. المعجزةُ وحدها يمكن أن تعيدني إليهم.
أصوات صاخبة ضجّت في السيارة فجأة، أيقظتني من شرودي. وقف التلاميذ يهتفون، وعلى وجوههم علامات البشر والسرور.
قفزت من مقعدي ونظرت...
ثمة في الأفق أضواء تناثرت كالنجوم. قال المعلم مبتهجاً:
-تلك هي تدمر.. تأخرنا في الوصول إليها.. المهم أننا وصلنا.
زوّدنا بتوجيهاته: نقضي الليلة في تدمر.. نبيت في أي مكان... في السيارة أو نقصد بعض معارفنا. وفي الصباح نزور الآثار ونعود إلى مدينتنا.
بقينا لاصقين بزجاج السيارة، والأضواء منارات ترشد السفن الضالة تومض حيناً وتختفي آخر... عندما نهبط في واد أو نقبل على مرتفع.
تقلّصت المسافة بيننا، اقتربنا كثيراً... بدت بعض المعالم.. يبدو أن المدن تتشابه.
ارتسمت علامات الحيرة والذهول على وجه معلمنا. وردّد مستنكراً:
ماهذا؟ أين نحن؟.
كانت المفاجأة كبيرة، عندما أعلن المدير: هذه دير الزور وليست تدمر... على أية حال.. الحمد لله على السلامة.