طلب أخير
أبناء القرية التي أطعمتهم وكستهم، وجعلت منهم شباباً ورجالاً.. عاقون، ناكرون للجميل. هجروها واحداً بعد الآخر. حتى الشيوخ منهم.. تركوا البيت والزوجة والأولاد. قالوا للأرض والزرع وداعاً وحشروا أنفسهم في السيارة التي تمر بالقرية كل صباح.. مَنْ لا يجد له مقعداً يصعد على ظهرها.. يغادرون القرية ولا يعودون إلا للزيارة.. نزيف بشري متواصل. انظر.. من بقي منهم.... لا أحد سوى الأطفال والنساء والعجائز.. وأنا وأنت.
هكذا يقول المختار لمن يلتقيه من المسنين والعاجزين من أبناء قريته.
ثم يضيف غاضباً:
-مصيبة، والله مصيبة. ولا عجب ألاّ يقول الناس عني، يا مختار، مختار على من؟! على الأطفال والنساء والعجائز والدواب والحجارة. يا للأسف!.
ثم يستطرد متحسراً:
-زمانك ولّى يا مختار.. لم يبقَ سوى أن تجالس النساء، وتلعب مع الصغار.
في الصباح الباكر كان المختار يقف على ناصية الطريق. وفي السيارة المغادرة تخلّى له أحدهم عن مقعده بجانب السائق... فتهالك عليه مكفهر الوجه مقطب الجبين.
سأله السائق مداعباً:
-أنت أيضاً يا مختار، تهجر القرية، وتلحق بالشباب إلى المشروع الجديد؟!.
رماه بنظرة غاضبة.. كتم غيظه ودمدم بكلمات غير مفهومة. فاستطرد السائق قائلاً:
-اعذرهم يا مختار.. الحق معهم، العمل في المشروع غير العمل في الأرض. ماذا يفعل الشباب في القرية، وقد جفت الينابيع، وشحّت السماء، وصارت الأمطار مثل دموع المسعودات؟! لقد عوّضهم هذا المشروع عما حرمتهم الطبيعة.. امتلأت بيوتهم بالأثاث والمؤونة، وكسيت عظامهم باللحم، وجرت الدماء في عروقهم، فاشتدّت زنودهم وتورّدت خدودهم.. تكاد لا تعرفهم حينما تراهم.
غرق المختار في صمته.. إنه يدرك كل ما قاله السائق ويفهمه، أما في رأسه فقد كان يدور حديث آخر.. سوف يقابل مدير المشروع، نعم، سيقابله حتى لو انتظر ساعات وأياماً ويقول له: إنه لا يقف ضد إنجاز حضاري كهذا، ولا يعترض عليه.
لن يقدم اتهامات أو ملاحظات.. فكل كلمة تحسب عليه. سيقول كلاماً منطقياً معقولاً، وهو يتقن فن الكلام والحوار والمحاكمة. يثني على المشروع وعلى العاملين فيه، ويثمّن عالياً فوائده وخيراته للبلد. ثم يرجو المدير أن يوقف تعيين أبناء قريته. لا لشيء، إلا لأن القرية تكاد تصبح أطلالاً مهجورة، ينعب فيها البوم، بعد أن نضبت قواها العاملة. وفي هذا ضرر على الاقتصاد لا يرضاه أحد.
هذا الكلام كله، وغيره، وأكثر منه. قاله للمدير عندما وقف أمامه. فابتسم المدير وقال:
-تِكرم يا مختار. أنت على حق. الأرض بحاجة لمن يعمل فيها أيضاً. سوف أرد كل طلب يردني من أبناء قريتك.
انفردت أسارير المختار وأشرقت ابتسامته، فخرج من مكتبه شاكراً مستبشراً متهللاً. وما هي إلا لحظة، حتى كان يدق الباب ويدخل إليه قائلاً بتردد:
-أستاذ.. طلب أخير، إذا سمحت..
-تفضّل يا مختار.
صمت المختار برهة.. أمسك لحيته البيضاء بأطراف أصابعه وقال بمسكنة واستجداء:
-عندك شغل.. لهالختيار.