تأبين
صعد إلى المنبر، وفي يده رزمة أوراق كبيرة. فسمعت في القاعة همهمات وتأففات تنم عن ضيق وضجر، ونظر بعض الحاضرين إلى ساعاتهم، وراهن آخرون على الزمن الذي تستغرقه كلمة التأبين التي سيلقيها على مسامعهم.
منذ أيام وهو يلف على آل الفقيد، وعلى القائمين على حفل التأبين، ويلح على أن تكون له كلمة في هذه المناسبة. فلا أحد، كما يدّعي، عرف الفقيد كما يعرفه، وما من أحد وَفَّاهُ حقه أكثر منه.
فَرَد أوراقه، ورسم على وجهه علامة حزن وأسى... ثم قال:
إننا نجتمع اليوم لتأبين رجل جليل، وصديق عزيز. نعم... كان المرحوم صديقاً لي... صداقتنا عمرها عقود من الزمن، فقد عرفته منذ أن كان يحاول أن يطرق باب الفكر والأدب والمسرح.
ولا أذيع سراً إذ أقول.. أنا احتضنته وشجعته يوم كان يشق طريقه بخطى متعثرة. كنت أقرأ ما يكتب، فأصحح له وأرشده إلى الصواب، وأشد على يده.
لقد كتبت عنه في دراساتي.. تلك الدراسات التي ملأت الصحف والمجلات.. وذكرتُ اسمه أكثر من مرة في كتبي التي أثارت اهتمام القرّاء والنقاد، وعقدت من أجلها حلقات وندوات.
هذه الكتب التي أكلت مالي وعمري وعافيتي. فإذا ادعى بعضكم جهله بما لي من فضل في ساحة الفكر والأدب، وما لجهدي من دور فاعل في رفد الحركة الثقافية، ودعم المفكرين والمبدعين فما عليه سوى الرجوع إلى مؤلفاتي التي انتشرت في المدن والأقطار، والتي تزين واجهات المكتبات و..... و......
تبادل الحاضرون نظرات الدهشة والاستنكار، وتحول الهمس إلى ضجة وضوضاء، وتساءلوا: هل يؤبن الفقيدَ أم يؤبن نفسه؟! وعلّق آخرون قائلين: هذه دعاوة وإعلان تجاري.. وتسلل بعضهم خارجاً من القاعة، وظل من بقي منهم مكرها.
لم يسمع كلمة مما يقولون، أو إنه تغاضى عنه. فقد سد أذنيه، واستمر بقراءة التأبين.