الجزر البريطانية
حكايتان قديمتان من العصور الوسطى ، من زمنٍ كانت فيه الحياة في الجزر البريطانية حياة فلاحية في الغابات الكبيرة ، حيث أدغال البلوط سَتـُرُت المغامرين ، الذين كانوا يعشقون الحرية ، وغطّـتهم بأيكها الذي شهد المآثر الفروسية .
حكاية: وليم دي كلاوديزلي*
بالقرب من مدينة "كارلايزل Carlisle " التي تحيطها الأسوار كان في أزمان أخرى غابة كبيرة و كثيفة ، حيث كان الملك يخبئ أيائله ، و كذلك فـزّاعات لتخيف الحيوانات واللصوص .
كان خادمو الملك يطاردون بقسوة جماعة من الصيادين الجريئين ، الذين كانوا يعيشون دائما في الغابة كعشاق للحرية وأعداء للقمع الذي يقوم به الأسياد .
والشجعان الثلاثة هم : “آدم بيل “ و "كلايم" و "وليم دي كلاوديزلي" ، الذين كانوا يقودون مجموعة الصيادين ، وهم يشعرون بالسعادة ، وينعمون بروعة الحرية في الغابة .
كان "ويليم" صاحب العائلة الوحيد فيهم ، والتي كانت مكونة من : زوجته أليسيا و أبنائه الثلاثة الذين يعيشون في أحد أكواخ مدينة "كارليزل".
أحسّ ويليم الشجاع بالرغبة لرؤية زوجته وأبنائه بعد غياب طويل ، فأعلم أصدقاءه بذلك كي ينتشروا في الطريق تحسباً لأي شيء حتى وصوله إلى كوخه ، ومن ثم يعودون في الصباح إلى الغابة علماً أنهم بذلك سيتعرضون لخطر وقوعهم في الأسر من قبل عسس وجنود "الشريف / العمدة".
دخل ويليم إلى المدينة عندما كان الظلام قد عـمّ تماماً ، و وصل إلى بيته ثم نادى عند الباب بصوت يكاد لا يسمع ، ففتحت زوجته اليسيا الباب ، وهي متفاجئة و مرعوبة من رجال "الشريف" الذين كانوا يراقبون البيت بشكل متواصل .
نظر الأولاد بدهشة كبيرة إلى والدهم ، وفي تلك الليلة امتلأ البيت بالسعادة والفرح .
لكن أحدهم وشى بوجود الصياد ، ولم تتأخر الوشاية بالوصول إلى الشريف ، وقبل بزوغ الفجر كانت القرية تقف على أقدامها مرغمة على معاونة الشريف والقاضي في القبض على المغامر .
كان جنود الملك يحقدون على الصياد ، بينما كان رجال القرية معجبين به ويتعاطفون معه .
سمع "وليام" خطوات المسلحين فصعد مع زوجته وأبنائه بسرعة إلى الطابق العلوي ، ومن خلال نافذة عريضة شاهد الجنود ، وهم يحاصرون البيت ، كان الصباح قد بدأ يتفتح بصفاء ، لكنه امتلأ بالأصوات .
لم يشعر ويليم بالخوف ، كان قد أحضر معه حفنة من السهام استعداداً للمقاومة ، ومن النافذة الواسعة شاهد القاضي والشريف وكلاهما أعداؤه .
صوّب قوسه ، ثم انطلق السهم بقوة ، وهو يصفر ، فحطّ على صدر القاضي المحمي بدرع من مشبك الحديد.
:" استسلم يا" ويليم دي كلاوديزلي !!" ، كانوا يصرخون عليه من الخارج .
فردت عليهم "اليسيا" الشجاعة بفخر :
" زوجي لا يستسلم !! زوجي ليس جباناً مثلكم !!
كانت سهام "كلاوديزلي" صائبة ، وقد جرحت بعض الذين يحاصرونه ، لكن "الشريف" الذي يحتقن بالغضب أمر بإضرام النار بالبيت دون شفقة أو رحمة للمرأة وللأولاد .
وبدأ البيت يحترق، و وصلت ألسنة اللهب إلى الغرفة التي كان الأطفال فيها يبكون من شدة الخوف .
توقف وليم عن إطلاق السهام ، وأخذ عدة شراشف من القماش المتين ، و ربطها مثل الحبل ، بينما "اليسيا" وأولاده تمكنوا من النزول عبر النافذة ، وعندما تأكد" وليم" أنهم نجوا صاح:
" أيها الشريف لقد أرعبت زوجتي وأطفالي ، وجـّه انتقامك نحوي ، لكن حذار أن تمسهم بأقل الأذى " .
واستمر من بين السنة اللهب يطلق السهام حتى آخر سهم عنده ، فلم تعد المقامة ممكنة وقد صار البيت على شفى أن ينهار .
ومثل وحشٍ كاسرٍ قفز "وليم " من النافذة فأطبق الجنود عليه ، و شدّوا وثاقه بقوة ، ثم سجنوه في قفص مغلق .
قال الشريف له:
:"ويليم كلاوديزلي !! غداً في ساعات الصباح الأولى ستكون معلـّقا في الساحة العامة ، ولن تـُفتح أبوابُ المدينة إلا ّ بعد موتك ، لا تنتظر الآن من رفاقك أن يأتوا ليخلصوك !!".
في اليوم الثاني عند الشفق كان سكان المدينة في الساحة العامة ، والجندي الذي كان يحرس أبواب المدينة أمر أن لا تـُفتح إلا بأوامر عليا .
أحد الرعيان الذي لم يتمكن من إخراج قطيعه للرعي سأل أحد سكان القرية عن اسم المتهم، فقال الرجل : " إنه النبيل والشجاع "وليم" الذي لم يفعل أيّ شيء يؤذي أكثر من الصيد والعيش في غابات الملك ، إن إعدامه بسب ذلك و بإسم السماء لهو جورٌ كبير !!".
كان الراعي يعرف" ويليم" الذي تصادق معه في الغابة ..فكر للحظة .. وبعدها تسلل من جدار السور وقفز إلى الحقل دون أن يراه أحد . ركض بكل قوته إلى أن وصل إلى مخيم الصيادين ، وأخبرهم عما جرى.
اخذ "آدم بيل" و "كلايم" أسلحتهما ، وركضا باتجاه أبواب المدينة عندها طرأت فكرة جيدة لـ"كلايم":
" فلنقدم أنفسنا أننا مبعوثون من الملك ، وبهذا يفتحون الأبواب لنا ".
زوّر آدم بيل خط ّوختم الملك في صحيفة ، والتي لفها لاحقاً، فبدت أنها أمر ٌ رسمي .
طرق الاثنان بوابة المدينة بقوة ، وأعلنا انهما مبعوثان يحضران أمراً طارئاً من القصر إلى القاضي .
ُفـتحت البوابات ، و ركع الحراس عندما رأوا الختم الحقيقي، لكن" آدم" و"كلايم" ألقيا بنفسيهما على الحارس ،وربطاه بقوة ، ثم حبساه في زنزانة قريبة ، وبعد ذلك ركضا إلى الساحة العامة.
كانت جموع الناس يتابعون التحضيرات لتنفيذ حكم الإعدام. وكان" وليم كلاوديزلي" هناك وسط الساحة موثقا بقوة بالحبال ، لكنه لحظ أصدقاءه الأوفياء .
صوّب الاثنان سهام قوسيهما على القاضي والشريف اللذين كانا بارزين من فوق حصانيهما من بين الحشود .
اهتز القوسان ، وصفرت السهام ، فسقط القاضي والشريف على الأرض بإصابات قاتلة .
سادت لحظة ذهول ، وتبعها فوضى ، استغلها رماة السهام للاقتراب من رفيقهم فقطعا الحبال التي كانت تشد وثاقه ، وعندها تسلح " وليم" بفأس أحد الجنود .
بدأ الصيادون الثلاثة يقاومون القوات التي كانت هناك ، كانوا يقاتلون وظهر كل منهم محميّ بظهر الآخر ، بينما يعطون وجوههم للمهاجمين ، كان الصيادون الشجعان يطلقون سهامهم وهم يتراجعون خطوة خطوة نحو أبواب المدينة .
نفدت السهام ، و لمعت السيوف ، وخارت قوى المتمردين الثلاثة، وبجهد أخير فازوا بالخروج ، وأغلقوا البوابة الكبيرة بالمفتاح الذي استولوا عليه من الحارس ، وانطلقوا بسرعة نحو الملجأ الآمن في الغابات التي عاشوا فيها دائما وناضلوا وكافحوا للاحتفاظ بالحرية .
مشى الرفاق الثلاثة تحت ظلال الأشجار الضخمة ، يتندرون على أحداث مغامرتهم الكبيرة، فسمعوا همهمات وأصوات استغاثة، تخرج من السور الكثيف، فباعدوا الأغصان ،واقتربوا من المكان الذي كانت الشكوى تسمع منه ،فعثروا على "اليسيا" الشجاعة هناك ، وقد هربت إلى الغابة ومعها أطفالها الثلاثة .
كانت منتشية من السعادة ، أحضر "آدم" و"كلايم" صيداً وفيراً، وفي نفس المكان جهـّزوا الغذاء الذي سيسترد لهم القوة التي بذلوها .
وفي وقت الراحة وهم يتسامرون حول النار قال" وليم":
" أظن انه يجب علينا أن نذهب في الحال إلى لندن، لنطلب الصفح من الملك قبل أن تصله الأخبار من "كارليزلي" ، فعندي ثقة بأنه سيستمع لنا، لكنني سأترك هنا زوجتي "اليسيا" واثنين من أبنائي في بستان قريب ، وسآخذ معي ابني الكبير، حتى يتمكن من نقل أخبار حظنا إلى أمه ."
استعدّ رماة الأقواس الثلاثة، وكذلك الطفل الرائع ابن السبع سنوات من العمر، وانطلقوا باتجاه لندن . وبعد ثلاث دوريات متعبة من المسير، وصلوا إلى القصر، وأعلنوا انهم صيادون في غابات الملك وقد جاءوا يطلبون الغفران .
استقبلهم الملك يشكل سيئ ، وعندما علم بأسمائهم أمر غاضباً أن يودعوا السجن ، كي يدفعوا بحياتهم ثمن إساءاتهم ، لكن نبل و لطافة الصيادين جعلت الملكة تتعاطف معهم، وتطلب من الملك أن يعفوا عن الثلاثة .
فوافق الملك على العفو بسبب حبه لزوجته، وفي تلك اللحظة وصل أحدهم يحمل رسالة يشرح فيها ما حدث في مدينة "كارليزلي" ، وما فعله الرجال الثلاثة أمام المدينة كلها .
وقف الملك مشدوهاً و حانقاً أمام تلك الواقعة المستحيلة ،وأمر رجاله من رماة السهام أن يخرجوا إلى حقل الرماية ، ليمتحنوا مهارة المغامرين.
امتلأ الحقل الشاسع بالناس والجنود ينظرون بازدراء إلى الصيادين الثلاثة.
قام رماة الرماح التابعين للملك والرفاق الثلاثة بإطلاق سهامهم على دريئات بيضاء ، فقال" وليم دي كلاوديزلي": " يبدو هذا مثل لعبة أطفال ، فأنا لا أسمّي أبداً رامي سهمٍ جيد للذي يفرح بالتسديد على هذه الأهداف الكبيرة جداً، والتي تشبه الدروع في المعارك ، فأيّ كان يمكنه القيام بذلك".
قال الملك: "فلتختر الدريئة التي تحب ، وارني ما أنت قادر على فعله ".
قال وليم بصوت جهوري:
"من أجل شرف رماة السهام سأقوم بما لا يمكن لأحد القيام به ، فهذا الطفل الموجود هنا هو ابني ، وعن مسافة أربعمائة قدم سأسدد سهمي على تفاحة تضعها على رأسه.
قال الملك : " إن هذا لمغامرة كبيرة وخطرة ، وإن لم تحققها فسوف تدفع الثمن حياتك أنت وحياة رفاقك ". فاستعد وليم لتنفيذ كلمته.
كان الطفل بعينين مفتوحتين جاحظتين، وقد تم ربطه إلى جذع شجرة ، ثابت في الأرض و وضعوا تفاحة على رأسه الأشقر الجميل .وابتعد كلاوديزلي مسافة أربعمائة قدم ، ووضع في قوسه أطول سهامه والأكثر استقامة .
كانت حشود الناس تنظر إليه بأسى ، والنساء تبكي من شدة تأثرهم العاطفي .
استدار كلاوديزلي إلى الناس، وقال :" إياكم أن يتحرك أحدكم فيعكر صفائي .. توسلوا لي ".
ووسط الصمت ثبت الرامي قدميه ثم سدد فصفر السهم ، وسقطت التفاحة مشطورة إلى نصفين متساويين .
انفجرت الحشود بصرخات كبيرة تعبر عن فرحها ، وجميعهم يصفقون تملؤهم السعادة .
اتخذ الملك الصمت ، وبعدها قال:
" أمنحك العفو يا "وليم دي كلاوديزلي" ، ومن الآن أمنحك لقب كبير حراس غاباتي إن كنت لا تزال تفضل العيش مع رفاقك تحت حمايتي ".
لكن الأصدقاء الشجعان اختاروا أن يواصلوا حياتهم ، حياة الحرية والمغامرات في غابات كثيفة من أشجار البلوط المعمرة مئات السنين .
* William de Cloudlessly