الذاكرة الساحرة للهنود
على طول أمريكا الجنوبية تستند التربة إلى الجدار، الذي تشكله جبال الأنديز في سلسلة من القمم الشاهقة تصعد وتهبط ، تتجمع وتفترق ، وفي وسطها توجد هضبة كبيرة ، هي الهضبة البوليفية ، حيث توجد هناك البحيرة العملاقة، وكأن الأعمدة الصخرية تحملها على ارتفاع أربعة آلاف متر عن سطح البحر.
كان المسافر قد مشى أياما وأياما بين تلك السهول الشاهقة والمنعزلة والصامتة ، التي تشبه عالم ميت.
أحس المسافر بعاطفة قوية في تلك العزلة الجرداء
، في منطقة كأنها بحر من الحجارة , توقف لمرات عدة ، كي يستنشق الهواء الناعم الذي يأتي من الذروات العملاقة لتلك الجبال الجبارة وقممها الثلجية ، تلمع في السماء الصافية.
نظر القروي المسكين إلى البعيد ، حيث عاشت أجيال من الرجال صامتة لقرون ، مثل صمت القمم الشاهقة .أجيال قديمة أكثر قدما من الاينكا قد ضاعت هنا في أزمان مشاعيّة بلا ذاكرة .
ومن بعيد رأى المسافر نقطة سوداء ، بدأت تكبر وتكبر مع المسير ، وفيما بعد انفلقت النقطة ، وأفضت عن رجل هندي اقترب المسافر من الهندي وسارا معا بصمت في التربة الوعرة .
مشيا كثيرا ووصلا إلى هناك ، حيث الأرض تنحدر بمنحنى عنيف ، حتى جرف عميق وواسع قريبا من سور الجبال المائلة ، وكأنها مضطجعة على المنحدر.
ومن عمق الحفرة الكبيرة الضخمة خرجت مثل حكاية عجيبة مدينة السقوف الحمر بأعمدة بيضاء ، وبشجرات جذورها ضخمة، وبيوت وشوارع تتفرع وتتفرع على جنبات الطريق و السور، إنها " لا باث la paz* " مدينة عمرها قرون من السنوات هي أعلى العواصم في العالم ، أعلى من أربعة آلاف متر فوق سطح البحر ، مقامة على صحن رائع ، وساحر محاط بقمم الجبال والذروات التي تشبه عرف الديك.
أشار الهندي بإصبعه إلى المسافر عن المدينة وعن الجبال المقدسة وكانت عيناه تشعان بضياء ذاكرة القرون، ذاكرة العرق البشري الذي تسري فيه دماء الإله أيمارا**Aimara ، والتي سالت في العصور الأولى لمنطقة الأنديس الشاسعة.
قال الهندي:
" انظر يا أخي ! عندما كان الإله" ويراكوتشا WirAkocha" اله العمار كان يشيّد الحياة للناس في كل ما تراه عيوننا الآن ،لكن الإله "كجنو،Kjuno" اله الخراب كان يلاحق خطوات الإله الطيب ويدمر كل شيء يبنيه".
شيد الإله "ويراكوتشا Wirakoch " مدينة من الحجر ، فقذفها الإله "كجنو Kjuno بجبال من الثلج ، فبنى الإله الطيب مدينة إضافية كي يحيا الناس ،لكن إله الخراب كان يدمرها ، و يدفنها بنفس القوة ،عندها استدعى الإله "ويراكوتشا" إلها آخر لمساعدته هو "نيني ،Nine" اله القوة وأب النار.
مادت الأرض وماجت غاضبة وحارقة وظهرت حلقة من البراكين لحماية الإله الطيب "ويراكوتشا" وعمله الصالح. لكن، "كجنوKjuno” مدمر العالم بثلوجه طلب في الحال حماية من "هوايارا Huayra " اله الريح
, واستمر "ويراكوتشا" في كل الهضبة الرائعة يبني مدناً محاطة بجبال من نار ،لكن عندما ينتهي ويغادرها وينطلق ليعمر مدناً أخرى ، كان اله الريح ينفخ في البراكين ويطفئ لهيبها ثم يأتي "كوجنو ،Kjuno "متبوعا بثلوجه ويعيد تدمير كل شيء ، فتصارع الإله "ويراكوتشا" الذي يبنى مع الإله "كوجنو" الذي يدمر، واستمر الصراع لوقت طويل.
وهكذا كانت المدن تبنى، محاطة بالبراكين، لتبقى فيما بعد خربة ومدفونة بالبرد.
تعب ويراكوتشا من تلك الحرب التي لا نهاية لها ،ففكر بطريقة يحمي فيها أعماله من غضب خصمه، فقام بالتالي:
غرس وبشكل قوي كعب قدمه الجبارة في تراب السهل الكبير، وهكذا شكّل ما تراه اليوم صحنا عظيما ،والذي أقام المدينة عليه لاحقا..
هل ترى هناك دروع الثلج في كل القمم الجبلية ؟ إنها جيوش الإله "كجنو" التي لا تزال تترصد رغم هزيمتها ، فهم لا يجرؤن ، ولن يجرؤا أبدا على النزول إلى المدينة المحمية في هذه الحفرة ، فلقد أطلق الإله وايركوتشا عليها اسم " ماركا ماركاMarka" أي مدينة المدن. المدينة الأكثر ارتفاعا ، والأكثر قدما لما كان وسيبقى ملجأ للإنسان خلال قرون ،ملجئ آمن ومحمي في المكان الذي حفره الكعب المقدس، وكان اسمها "لاباث، La Paz” أي السلام..
صمت الهندي أمام عيون المسافر الغارق في التفكير ، وعاد فيما بعد يحكي ببطء وبلهجة أكيدة وبذاكرة قديمة:
"نحن نعرف كل شيء عن عالمنا هذا ،عالم الجبال الذي لا يعرفه أناس آخرون.أقول لك الحقيقة ، لان الآلهة أرادت أن يرى الناس هنا كيف انخلقت هذه الروائع؟
انظر إلى هناك !إلى الجبل وقممه الجبارة البراقة من الثلج فوق مدينة السلام "لاباث" !!انه " إييامامني /Illimamni " سيد الأنديس الأعظم بين النسور!!
وسأقول لك ما حدث:
"في الوقت المظلم ،ربما وتقريبا في الفجر الأول عندما كانت الأرض والجبال تتحركان ليأخذ كلّ منهم مكانه، جاء نسر الكوندور العظيم جدا ليحط على سلسلة جبال يراقب منها بناء الأنديس !!
مرت شموس وأقمار كثيرة كانت تتجاذب لتجد لها مكانا ، وفي كل الأيام مع الغسق ،عندما كانت تولد النجوم كان نسرالكوندور يطلق جناحيه الهائلتين المشتعلتين ليطير في الليل بإشعاع مذهل ، وفي النهار كان يعود دوما إلى الاختفاء عندما تأتى الظلال.
وهكذا استمر سنوات وسنوات وقرون يتحرك من أجل بناء كل هذا العالم الذي تراه ، وفي يوم من الأيام، عندما رأى" ويراكوتشا" إله العمل أن مهمته انتهت ،وكانت كل الصخور والمياه والجبال قد بقيت كل في مكانه بثبات، أراد ،و قرر أن يبقى الطير المشتعل المضيء الذي يراه الجميع، أن يبقى هناك أيضا والى الأبد..
خفق نسرالكوندور العجيب بجناحيه الهائلتين المنتشرتين على قمم الأحجار، فسقطت الثلوج من السماء كأنها جبل من البياض البراق وله عدة قمم، تلك القمم الثلاث هي في الحقيقة : رأس الكوندور والأجنحة الهائلة التي لا يمكنها التحرك بعد..
مرة ثانية سكت الهندي أمام العيون الثابتة للمسافر وبعد هذا عاد يقول وكأنه راوي الذاكرة المتقدة للهنود:
"هناك أشياء أخرى نعرفها ولا أحد غيرنا يعرفها ما لم يكن قد ولد هنا.. وإن كنت تستطيع استيعابي فاسمع هذه الحقيقة أيضا:
كان الزمن لا يزال ظلاما ،والأرض تضخمت كثيرا عدة مرات ،وفي محاولة لها خرجت من الماء، ونهضت إلى أن شكلت سلسلة الجبال هذه..
تحركت الجبال وجاهدت لتبقى عالية ومرتفعة ولها مكان ، بعضها بإكليل من ثلج وبعضها من نار البركان، و بفضل تلك الأنوار كان الجميع يرونها كمحاربين أشداء و غريبين إذ كان الزمان لم يزل ظلاما ، والسواد يعم..
أربعة من تلك الجبال تفوقت على ما تبقى بفضل قوتها، وكل واحد منها أراد أن يرتفع ويعلو أكثر ويمتاز بالضخامة، وعندما ذهبوا إلى "وايركوتشا" كي يحكم بينها ويقرر، قال الإله لهم:
"لن يكون أحدكم اكثر قوة من الآخرين.. سيكون هناك أسياد أربعة لسلسلة الجبال وهم:
سيد الضوء
سيد الحجارة
سيد الماء
سيد الهواء
سيد الحجارة وسيد الهواء اخترقا السماء بقممها الحادة و سيد الضياء وسيد الماء اتسعا وتمددا مثل مناشير متعجرفة في الآفاق، لكن في يوم من الأيام كان سيد الهواء يغار من سيد الماء فقال إلى سيد الحجارة الذي يحسد بقوة سيد الضياء:
" توحد مع سيد النار فأنا سأقضي على سيد الماء وانطلق الاثنان يزمجران ضد خصميهما".
كانت المعركة كبيرة وشرسة بين الأبطال الأربعة المتحاربين ،خاضوها بدون تعب طوال آلاف السنين ، ولا يزالون يخوضون تلك المعركة ، فالثلوج والنيران والرياح والصخور تتعارض بقوة في عواصف وأعاصير و حمم بركانية محترقة و وكوارث طائحة.. مزقوا بعضهم ، وغرق بعضهم ، لكنهم عادوا يبزغون ويظهرون اكثر عنفا و لا يموتون..
في النهاية وضع وايركوتشا الهدوء على الأرض الهائجة والمتحارب عليها ، واصدر إرادته:
يبقى الآن فقط ثلاث أسياد في سلسلة الجبال هم: سيد الضياء ،وسيكون اسمه من الآن فصاعدا "ايامفو Illampu" البرّاق المشرق،و سيد الماء ، و سيكون اسمه من الآن فصاعدا" اييماني Illimani " الرقراق المتلألئ ، وسيد الحجارة ، سيكون اسمه من الآن فصاعدا " وايانا فوتوسي Wayana Potosi " الشاب الهادر الذي يجأر..
وأما أنت يا سيد الهواء فستدفع ثمن تمردك ، لهذا ستبقى وحيدا وفي الأسفل.
أطلق الإله بمقلاعه الإلهي حجرا من ذهب على قمة الجبل المدببة ، فقصها كما تقص قصبة سكر، وسوى مكانا سديداً في قلب الجبل، وأما القطعة العلوية التي انشطرت عن القمة وهربت طائرة فقد قال الإله وايركوتشا لها: أنت ابعدي ابعدي أنت "ساهاما" أي المبعدة !! هكذا أناديك بسبب تمردك.
ومن تلك اللحظة بقي فقط ثلاثة آلهة في سلسلة الجبال هذه التي تراها الآن هي:
"ايامفو" و "اييماني" و "ايانا فوتوسي" ، أما " ساهاما “التي هربت ، فإنها موجودة بعيداً ووحيدة في الجانب الآخر من السلسة الجبلية ،لكنها مغطاة بالثلوج متشامخة وعظيمة ورائعة.
وصمت الهندي، وأحجم صوته القديم، وأخذ يشير بإصبعه إلى القمم الساحرة التي لا تزال تلمع وتضييء كأنها ألغاز وأسرار عند الغسق ..
* حرف الزاي يلفظ ثاء بالإسبانبة (المترجم )
** من الآ لهة التي يعتقد بها شعوب الهنود الحمر الذين سكنوا أعالي البيرو ( المترجم )