الحمد لله الذي قصم بالموت رقاب الجبابرة و كسر به ظهور الأكاسرة و قصر به آمال القياصرة الذين لم تزل قلوبهم عن ذكر الموت نافرة حتى جاءهم الوعد الحق فأرداهم في الحافرة فنقلوا من القصور إلى القبور و من أنس العشرة إلى وحشة الوحدة و من المضجع الوثير إلى المصرع الوبيل فانظر هل وجدوا من الموت حصنا
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف خلق الله محمد ابن عبد الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هو العالم الفاضل الجليل الألمعي شمس عصره و زينة مصره الشيخ عبد الرحمن بن علي بن محمد العربي خليف القيرواني قدس الله ثراه و أكرم مثواه .ولد المغفور له إن شاء الله تعالى يوم 5 شعبان1335 الموافق للسابع و العشرين من ماي 1917 .كان والده فقيرا إذ كان يشتغل بنجارة المحاريث الخشبية.عرف بصدقه و أمانته و نصحه لمن يقصده.و كان محبا للقرآن وأهله لذلك حرص على إدخال ابنه عبد الرحمن إلى الكتاب رغم الموجة الرائجة آنذاك و التي ترى في المدارس مستقبلا واعدا.دخل الكتاب و حفظ القرآن كجُلِِ أترابه على الشيخ المؤدب عليََة بن غانم رحمه الله وأسكنه فراديس جنانه.فكان له الأثر الكبير في تكوين الشيخ عبد الرحمن و الذي برز بتفوقه فأتم حفظ كتاب الله في ثلاث سنين أي سنة 1931 .التحق بالتعليم الزيتوني في جمادى الأولى 1350 سبتمبر أيلول 1931 .ثم انتقل إلى تونس سنة 1934 و حصل على الشهادات التالية و كلها بتفوق :
- شهادة الأهلية سنة 1355- 1936 .
- شهادة التحصيل في القراءات السبع 1358 – جويلية 1939
- شهادة التحصيل في العلوم 1359- ديسمبر كانون أول 1940 .
- شهادة العالمية في فن القراءات 1360 – 1941 .
- شهادة العالمية في العلوم بالقسم الأدبي 1363 – 1944 .
شارك في مناظرة للتدريس بعد وفاة الشيخ عبد الملك بن فرحات وقبل فيها من بين 3 مرشحين وذلك سنة 1943. و بعدها شارك في مناظرة للتدريس من الطبقة الثانية في تونس سنة 1944 فقبل فيها و أقام بحمام الأنف و بقي فيها حتى سنة 1952 .امتاز عام 1952 بوقوع حادث سير أليم على مشارف عين دراهم بالغرب التونسي حيث انقلبت سيارة تقل ستة أشخاص : الشيخ الأمجد قدية الذي توفي على عين المكان و الشيخ محمد بوشربية الذي توفي بعد أربعة أيام و الشيخ محمود قريبع و الشيخ الطيب الورتتاني و الأستاذ البشير جراد و الشيخ عبدالرحمن خليف الذي أصيب بكسر في عموده الفقري ألزمه الفراش أربعة أشهر . رحم الله الجميع برحمته الواسعة .وعاد الشيخ على إثر الحادث إلى القيروان و استقر بها للتدريس منذ أكتوبر تشرين أول 1952 .و انطلقت مع سنة 1952 قراءة الحزبين القرآنيين اليومية إثر صلاة المغرب بجامع عقبة بن نافع و مازالت هذه الختمة الشهرية تقرأ إلى يومنا هذا كما انطلقت إملاءات يشرف عليها خريجو الزيتونة من أمثال الشيخ صالح البحري حفظه الله ورعاه و الشيخ الطيب الورتتاني رحمه الله تعالى و شيخنا الفاضل عبدالرحمن رحمه الله و ذلك بالمساجد: الزيتونة عقبة المصلى. الحنفية وغيرها .وبعد حركة المديرين عين الشيخ عبدالرحمن على إدارة الفرع الزيتوني بالقيروان خلفا للشيخ يوسف بن عبدالعفو رحمه الله و ذلك سنة 1956 . و كانت له المبادرة بإنشاء معهد للطلبة خارج الجامع الأعظم فكان الحي الزيتوني بالوسط و المعروف الآن بمعهد ابن رشيق و تم تكليف لجنتين لجمع التبرعات عن طريق مقتطعات ذات 100 و 500 مليم .اللجنة الأولى فيها الشيخين سالم الشعباني و علي بوحولة و اللجنة الثانية فيها السيدان خالد القهواجي و المختار الحولة .و في أكتوبر تشرين الأول 1960 تم عزله عن إدارة المعهد مع بقاءه به كأستاذ و لكن في 17 جانفي كانون الثاني حدثت واقعة ما أطلق عليها " الله أكبر ما يمشيشي " حيث عمدت السلطة آنذاك بعد إزاحته من إدارة المعهد إلى نفيه إلى حامة قابس بالجنوب التونسي لإبعاده عن النشاط الديني . مما أثار غضب القيروانيين الذين خرجوا للتعبير عن رفضهم ذلك الإجراء . و على إثرها حوكم الشيخ مع العديد من المشايخ و من تلاميذ الشيخ بجامع عقبة .وقد حكم على الشيخ آنذاك بالسجن المؤبد مع الأشغال الشاقة . وعلى إثر تدخلات عديدة تم الإفراج عن الشيخ عبدالرحمن في أوت 1962 . و تم نقله إلى مدينة سوسة للتدريس بالمعهد الثانوي للذكور مع الإقامة الجبرية بها .و بقي بها حتى سنة 1970. وفي الأثناء أصبح مرشدا تربويا في التربية الإسلامية . وحين عاد إلى القيروان عام 1970 كان جامع عقبة ما زال تحت الترميم و إعادة البناء . فقام بالتدريس في جامع الباي إثر صلاة العصر و ذلك خلال شهر رمضان .و لما تم فتح جامع عقبة تولى الإمامة و الخطابة به مع الشيخ الطاهر صدام . وعادت الدروس الليلية مع الإملاء القرآنية .باشر الخطابة في أحد جوامع تونس كخطيب نائب وذلك ارتجالا حين تغيب الإمام الراتب . و سمي خطيبا بجامع عقبة بالقيروان سنة 1955 .ثم عاد إلى الإمامة والخطابة بعد عودته من مدينة سوسة و بعد إعادة فتح جامع عقبة في السبعينات من القرن الماضي . فكان شعلة في النشاط . كان في النهار يسافر إلى بعض المعاهد من خارج القيروان ( القصرين . سبيطلة...) ثم يعود مع المغرب إلى الجامع لتلاوة حزبي القرآن ثم يتولى الإملاء القرآني ثم التدريس . كان قلبه وفكره و كل كيانه معلق بالجامع : فلا راحة أسبوعية و لا سنوية إلا لعذر ( سفر. حج . مرض) فكان يجمع بين الإمامة و الخطابة والإملاء و التدريس .وبقي على هذا النسق حتى أواخر التسعينات حيث بدأ المرض يفل من قواه .فبدأ يتغيب عن الإملاء القرآنية ثم عن الدروس ثم عن الخطابة . ولكن كلما شعر بتحسن في صحته عاد إلى نشاطه في التدريس أو الخطابة . فكانت آخر دروسه في صيف 2005 حول فقه الصيام و ذلك قبل حلول رمضان .أما آخر خطبه فكانت سلسلة خطب رمضانية لعام 1426-2005 .أذيعت له حوارات مباشرة في التسعينات من إذاعات المنستير و صفاقس .ساهم مع استوديوهات لطفي زيني رحمه الله في إنتاج مسلسل تلفزيوني على قناة اقرأ و التلفزيون التونسي .المسلسل حمل اسم " السلام عليكم " و تناول بأسلوب تمثيلي رائع عدة مواضيع اجتماعية وأخلاقية و تربوية و فقهية . ولاقت هذه السلسلة استحسان العديد من المشاهدين مما حدا بقناة اقرأ و قنوات " راديو و تلفزيون العرب" من بثها عدة مرات لسنوات متتالية .كما وأن الشيخ واصل إنتاج مسلسل آخر بعنوان " الحل بين يديك" بنفس الأسلوب التمثيلي و المواضيع المتنوعة والواقعية . وقد تم بثها مع سلسلة خاصة بمناسك الحج على قنوات "راديو و تلفزيون العرب " . هذا المشروع الضخم بدأ إنجازه في أواسط السبعينات .كان حلما يراود الشيخ رحمه الله . كان يرى ضرورة ارتباط الشباب بكتاب الله و حتى لا يصبح القرآن غريبا بين أبناءه سعى بكل جهوده إلى بعث هذا المعلم الذي أصبح قبلة الشباب من داخل الوطن ومن خارجه . و بعون الله سبحانه وتعالى وبمساعدة المؤسسات المحلية وأهل الخير تم بناء هذا الصرح قرب جامع عقبة ليبقى شاهدا على مدى علاقة المعلمين ببعضهما .توفي رحمه الله تعالى وأسكنه فراديس جنانه و رضي عنه عصر الأحد 19 محرم 1427 -19 فيفري 2006 .ودفن صباح الاثنين . و شهد جنازته وفود رسمية من وزراء (أوفد رئيس الدولة وزير الشؤون الدينية نيابة عنه) و كتاب دولة و رؤساء مصالح و من تلاميذه و أصدقائه و من عامة الناس ما لا يحصى . و لكن قدرت الجموع بحوالي ثلاثين ألفا .وكان لوفاته صدى واسعا في كثير من البلدان و القنوات الفضائية التي تناولت خبر الوفاة وكذلك الصحف الوطنية والعربية .
و في الختام يجدر بنا أن نسجل أمرين :الأمر الأول هو أن السماء بدأت تقطر بقطرات من الماء منذ خروج جثمان الشيخ من جامع عقبة بعد الصلاة عليه و ذلك حتى وصوله إلى مكان الدفن . نعم كانت قطرات ولكنها عبرات .لقد بكت السماء على رحيل عالم رباني ترك فراغا من الصعب ملأه إلا أن يرحمنا الله .الأمر الثاني : هو أنه كان لوفاته وقعا على بعض العصاة من الذكور و الإناث الذين شاهدوا موكب الجنازة فعادوا إلى جادة الطريق . عاش شيخنا داعيا إلى الله و مات داعيا إلى الله ..فهنيئا له و تغمده الله من عفوه بما يفوت آمال المُؤملين و يوجب له مرافقة الأنبياء و المرسلين .اللهم نور له البرهان و ألبسه الرضوان و فسح له الجنان و اجمعنا و إياه مع خاتم الأنبياء و المرسلين صلى الله عليه وسلم في أعلى عليين .