أرسل عمر رسالة إلى أبي عبيدة بن الجراح في أرض الشام مع مولاه يرفأ، جاء فيها:
عن تاريخ دمشق لابن عساكر: "أما بعد فإن أبا بكر الصديق خليفة رسول الله قد توفي، فإنا لله وإنا إليه راجعون, ورحمة الله وبركاته على أبي بكر الصديق العامل بالحق والآمر بالقسط والآخذ بالعرف اللين الستير الوادع السهل القريب الحكيم, ونحتسب مصيبتنا فيه ومصيبة المسلمين عامة عند الله تعالى وأرغب إلى الله في العصمة بالتقى في مرحمته والعمل بطاعته ما أحيانا والحلول في جنته إذا توفانا فإنه على كل شيء قدير، وقد بلغنا حصاركم لأهل دمشق وقد وليتك جماعة المسلمين فابثث سراياك في نواحي أهل حمص ودمشق وما سواها من أرض الشام وانظر في ذلك برأيك ومن حضرك من المسلمين ولا يحملنك قولي هذا على أن تغري عسكرك فيطمع فيك عدوك ولكن من استغنيت عنه فسيره ومن احتجت إليه في حصارك فاحتبسه (أي أن عمر بدأ يوجه القائد بنفسه، من مكانه كخليفة للمسلمين، فيأمره بإخراج السرايا إلى حمص، وما حولها، وألا تكن تلك السرايا كثيرة، فيضعف ذلك من شأن الجيش المحاصر دمشق) وليكن فيمن يُحتبَس خالد بن الوليد فإنه لا غنى بك عنه. (فاحتياج المسلمين لخالد بن الوليد أمر لا ينكره أحد، لذا نصحه أن يستبقيه مع الجيش الذي يحاصر دمشق)..
وعلى هذا النحو جاء خطاب عمر لأبي عبيدة بلهجة رقيقة، ليس فيها أمرٌ مباشر، فقرأ أبو عبيدة الخطاب، وأخذه المفاجأة لوفاة الصديق t، ثم نادى معاذ بن جبل فأخبره، فاسترجع وقال: وما فعل المسلمون؟، فقال له يرفأ: استخلف أبو بكر رحمة الله عليه عمر بن الخطاب t، فقال معاذ: الحمد لله، وُفِّقُوا وأصابوا، فقال أبو عبيدة: لقد خشيت أن أسأل يرفأ خشية أن يقول أن الخليفة غير عمر. (وهكذا كان الصحابة متفقين على خلافة عمر لأبي بكر الصديق رضي الله عنهما)، ثم قال يرفأ لأبي عبيدة: إن عمر بن الخطاب يسألك عن جيش المسلمين، ويسألك عن خالد بن الوليد، ويزيد بن أبي سفيان، وعن شرحبيل بن حسنة وعن معاذ بن جبل وهم قادة الجيوش، فقال أبو عبيدة: (أما خالد فخير أمير، وأشدهم على عدوهم من الكفار، فجزاه الله عنهم خيرًا) وفي هذا شهادة من أمين الأمة على أن خالد بن الوليد t ذو كفاءة عالية، وأن اختياره للقيادة كان اختيارًا صائبًا، ثم يذكر أن بقية القادة كانوا أشداء على المشركين رحماء بينهم..
ثم يقوم يرفأ لكي يعود إلى عمر، فيأمره أبو عبيدة بالانتظار حتى يكتب معه، ثم يجتمع هو ومعاذ بن جبل، فيكتبان رسالة إلى عمر t جاء فيها: في تاريخ دمشق لابن عساكر (من أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل إلى عمر بن الخطاب، إنك يا عمر أصبحت وقد وليت أمر أمة محمد أحمرها وأسودها، يقعد بين يديك العدو والصديق، والقوي والضعيف، والشريف والوضيع، ولكل عليك حقٌ وحصة من العدل، فانظر كيف تكون يا عمر، وإنا نُذَكِّرُك يومًا تبلى فيه السرائر، وتكشف فيه العورات، وتظهر فيه المخبآت، وتعنو فيه الوجوه، لملك قاهر قهرهم بجبروته، والناس له داخرون، ينتظرون قضاءه، ويخافون عقابه، ويرجون رحمته، وإنه بلغنا أنه يكون في هذه الأمة رجال إخوان العلانية، أعداء السريرة (يحذرونه من بطانة السوء) وإنا نعوذ بالله من ذلك، فلا ينزل كتابنا من قلبك بغير المنزلة التي أنزلناها من أنفسنا (أي أن يهتم به كما اهتموا بكتابته) والسلام عليك" .
أبو عبيدة يتكتم الأمر :
فمضى الرسول بالكتاب إليه , وقال أبو عبيدة لمعاذ بن جبل والله ما أمرنا عمر أن نظهر هلاك أبي بكر للناس, وما نعاه إليهم فما ترى أن نذكر من ذلك شيئًا دون أن يكون هو الذي يذكره (يريد أن يكتم الخبر عن المسلمين، حتى لا يوهن من عزائمهم، وكتم ذلك الخبر يدل على مدى ما كان عليه أبو عبيدة من زهد في الدنيا , فقد ولاه عمر قيادة الجيوش بدلاً من خالد), قال له معاذ: فإنك نِعْمَ ما رأيت، فسكتا فلم يذكرا للناس من ذلك شيئًا.
وبقي الأمر على ما هو عليه، على الرغم من أنه فيه مخالفة لأمر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب t في تغييره لأمير جيش المسلمين، ويبدو من الرسالة أيضًا أنه كان يريد أن يبلغ المسلمين بوفاة أبي بكر، لأن ذلك التغيير الذي وضعه عمر يقتضي أنه هو الذي أصبح خليفة المسلمين..
ولكن أبا عبيدة -لخوفه t على معنويات المسلمين-لم يرد أن يعلن هذا الأمر لهم، فاستبقى الأمر على ما هو عليه تحت إمرة "خير أمير" كما يرى، وهو خالد بن الوليد t، فيرجع يرفأ الذي علم أن أبا عبيدة لم يخبر الناس بوفاة أبي بكر، ولم يغير إِمْرَةَ الجيوش، فأخبر عمر بن الخطاب بذلك، فأرسل عمر بن الخطاب رسالتين، الأولى: يرد فيها على رسالة معاذ بن جبل وأبي عبيدة في رسالتهما إليه، والثانية إلى أبي عبيدة خاصةً يقول له فيها: من عبد الله عمر، إلى أبي عبيدة بن الجراح، سلامٌ عليك، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، وأصلي على نبيه محمد t، وبعد، فقد وليتك أمور المسلمين، فلا تستحي فإن الله لا يستحي من الحق، وإني أوصيك بتقوى الله الذي أخرجك من الكفر إلى الإيمان، ومن الضلال إلى الهدى، وقد استعملتك على جند خالد، فاقبض جنده، واعزله عن إمارته.
وكانت هذه الرسالة في 26 من رجب عام 13هـ، وأُسْقِطَ في يد أبي عبيدة، فلم يكن راضيًا عن نزع خالد عن إمرة الجيش، لما يرى له من بأس على الكفار ورحمة على المسلمين ولمقدرته على القيادة، وخبرته بأمور القتال. فيطلب معاذ بن جبل t، ويستشير بعض المسلمين، ويتداول المسلمون الأمر فيما بينهم، حتى يصل الأمر إلى خالد بن الوليد t، (من تاريخ دمشق: فأقبل حتى دخل على أبي عبيدة فقال: يغفر الله لك يا أبا عبيدة؛ أتاك كتاب أمير المؤمنين بالولاية؛ فلم تُعْلِمْني وأنت تصلِّي خلفي والسلطان سلطانك!!)، (لأن الصلاة تكون للأمير، أو الوالي على المسلمين، حتى وإن كان مَنْ خلفه أقرأ منه، وكان هذا فقط ما أقلق خالدًا t، فلم يسأله: لم عزله عمر؟ ولم يعترض على رأي خليفة المسلمين!) فقال أبو عبيدة: وأنت يغفر الله لك، والله ما كنت لأعلمك ذلك حتى تعلمه من عند غيري، وما كنت لأكسر عليك حربك حتى ينقضي ذلك كله, ثم قد كنت أُعْلِمُكَ بعد ذلك، وما سلطان الدنيا أريد وما للدنيا أعمل، وإنَّ ما ترى سيصير إلى زوال وانقطاع، وإنما نحن إخوان وقُوَّام بأمر الله ، وما يضر الرجل أن يلي عليه أخوه في دينه ولا دنياه، بل يعلم الوالي أنه يكاد أن يكون أدناهما إلى الفتنة وأوقعهما في الخطيئة إلا من عصم الله وقليل ما هم.
وهكذا، لم يعلق خالد على مسألة عزله، وتولَّى أبو عبيدة بن الجراح إمرة جيوش المسلمين في الشام.
تحقيق مواعيد المعارك :
وكان للأستاذ أحمد عادل كمال بحث من أروع ما كُتِبَ في هذا المجال، وقد رجح فيه بعد الكثير من التقصي، والتحقيق، أن أول موقعة كانت أجنادين -كما ذكرنا- وكان فتح دمشق بعدها (14هـ)، وكانت اليرموك عام 15هـ.. وعلى ذلك يكون توقيت هذه الرسالة بعد موقعة أجنادين، لأن أبا بكر تُوُفي بعدها بنحو 20 يومًا، ومعروف عند المؤرخين جميعًا أن أول قرارات عمر كان عزل خالد بن الوليد رضي الله عنهما.. أي أن ذلك بعد أجنادين مباشرة، في حصار دمشق هذا (13هـ)...
وقفـة عـنـد عـزل خـالـد :
عزل خالد t كان موقفًا مهمًا بارزًا في التاريخ الإسلامي، يجب على كل مسلم أن يقف لتأمله، ذلك أن القائد العظيم الخليفة عمر بن الخطاب رأى أن المسلمين سيفتنون بقيادة خالد لجيش المسلمين، لانتصاراته المتتالية، ورأى أن في سيف خالد بن الوليد (رهقًا) , وأنه يقاتل الناس قبل أن يسلموا...
وأنه يرى الهدف من الجهاد دخول الناس في الإسلام والدعوة للإسلام، وليس فتح الأراضي الجديدة فحسب، وفي الواقع كان خالد بن الوليد كان يقوم برسالته خير قيام، وإنه كان حريصًا على إيصال الدعوة الإسلامية للناس، وكان أبو بكر الصديق مدركًا لذلك، فرحًا بانتصاراته، يدعو له ويقول: (أَعَجَزَتِ النساءُ أن تلد مثل خالد بن الوليد؟!!) فكان هذا رأي أبي بكر، وأبي عبيدة فيه، ولكن كان هذا اجتهاد عمر بن الخطاب، وعلى علمه بمهارة خالد، إلا أنه رأى أن من الأفضل عزل خالد وتولية أحد القادة الهَيِّنين اللَّيِّنين كأبي عبيدة..
وهي تضحية منه في سبيل الله، حتى يعم الإسلام الديار المفتوحة، فالهمُّ الأكبر لديه ليس كسب الأراضي الجديدة وفتحها، وإنما نشر دعوة الإسلام.. كما تجلى في هذا الموقف عظمة (أبو عبيدة بن الجراح) عندما تلقى أمر عمر بن الخطاب بالإمارة، بالحزن والهم، لأنه كان لا يريدها لنفسه.
ومن جهة أخرى تجلت عظمة تربية خالد بن الوليد في طاعته لأمر خليفة المسلمين، فبمجرد أن علم بأمر عزله، قال: "الحمد لله الذي ولَّى عمر بن الخطاب، وقد كان أبو بكر أحب لديَّ من عمر بن الخطاب، فالحمد لله الذي ولَّى عمر، ثم ألزمني حبه", فمنذ هذه اللحظة أصبح يحب عمر بن الخطاب، وليس فقط يطيعه.
ولم يعترض أحد على ما قرره الخليفة من عزل خالد، كما لم نسمع عن اعتراض على توليته على الجيوش، وقد كان أبو عبيدة أميرًا عليها، وهذا يعكس لنا إلى حد بعيد، طبيعة ذلك الجيش الإسلامي المنتصر، فلا فرق لدى المسلمين، فهم تحت أي إمرة يعملون، وفي أي صف يشاركون، وإنما هدفهم رضا الله ، والجهاد في سبيله. وهذا يوضح لنا أنه لا يمكن أن يعود الإسلام من جديد إلا بجماعة من المسلمين متحابين مترابطين.