* التشيؤ والتنميط والانقراض...
جاء إعلان "فوكوياما" الياباني الأصل أمريكي الجنسية، عن نهاية التاريخ، إيذاناً ببداية مرحلة ما بعد الحداثة ودفن منجزات النظام السابق ووقائعه المادية والروحية... ودعا هذا الكاتب أحادي الرؤية إلى أن وقت الحلم ببدائل تاريخية قد مضى وقد سقطت هذه البدائل كلّها ميتة على عتبة الموجة الثالثة للحضارة الراهنة، وقال بأن ما عايشته البشرية فيما مضى ما هو إلا أضغاث أحلام طفولية، وما على البشر إلا الخضوع لواقع الحال، والانصياع إلى البنية المادية والروحية الجديدة (العولمية)...
*والعولمة من حيث هي نظام عالمي جديد، تسعى أول ما تسعى إلى نسف عدوها (رقم واحد) وهو الهويات القومية التي تنظر إليها على أنها الصخرة الكأداء الهائلة التي تقف في طريق انتشار تلك القرية الكونية المنفلتة من حبال الماضي وحضورها في الواقع الراهن تأسيساً لمستقبل منسلخ عن تاريخه... وعليها، والحالة هذه نسف كل الهويات عدا هوية واحدة هي: هوية السوق واستبضاع الإنسان الرقم أو السلعة... وهذا هو محور فلسفة العولمة (التشيؤ والانقراض والتنميط).
وقد تكيّف عدد كبير من دول أوروبا مع هذه الموجة وخاصة تلك الدول التي انهارت أنظمتها بعد تفكك بناها ومؤسساتها في شرق أوروبا، فيما وقفت دول عديدة في غرب أوروبا موقفاً مناهضاً لهذه الظاهرة لما تحمله في طياتها من خطر على الأخلاق والقيم الوطنية، والهوية، وكل ما تشكل تاريخياً في مجتمعاتها لتحمل كلها قيم السوق وثقافة التشيؤ... وفي مقدمتها فرنسا وألمانيا وبعض دول النورماندي والأراضي الواطئة... فقد حذّر وزير خارجية فرنسا الأسبق (جاك فوبو) من ترك الأبواب الفرنسية مشرعة أمام فيضان الثقافة الأمريكية وخاصة الأفلام الأمريكية كما حذّر من غزو الثقافة الجماهيرية لشرائح المجتمع الفرنسي ونبّه إلى مخاطر النتاج السمعي والبصري مقابل زيادة الإنتاج الهوليودي الذي غطى العالم وراكم الأرباح الطائلة دون أن تدخل أوروبا إلى ميزانياتها أي ربح يساوي جزءاً من الأرباح الأمريكية. وقال فوبو: "أن المعركة ليست معركة الماضي بل هي معركة المستقبل وأن قلاعنا الثقافية مهدّدة من هذه الناحية لذا علينا أن ندافع عن ثقافتنا الخاصة وهذا ليس انغلاقاً عن التعدّدية الثقافية وهذا مطلب حر"( ).ونسوق مثالاً آخر على مسألة تعانيها المجتمعات الأوروبية الآن، نتيجة تغلغل موجة العولمة، وهي مسألة أو مشكلة المرأة. فبعد أن كافحت أوروبا منذ القرون الوسطى وحتى منتصف القرن الماضي من أجل تجاوز المقولة القروسطية (الإقطاعية) التي تفيد بأن "البيت لمن تلد والفريسة لمن يصطاد" استطاعت المجتمعات الأوروبية زج المرأة في معركة الحياة مع الرجل، نداً بند، وفي فعاليات المجتمع وحراكه كافة، ونالت حقوقها المساوية والموازية لحقوق الرجل، فيما أصبحت الآن فاقدة تماماً لهذه القيمة بل ولهويتها أيضاً بفعل ظاهرة الموجة الثالثة للحضارة وثورتها التقنية والمعلوماتية فأصبحت المرأة سلعة لكنها سلعة من نوع آخر، إذ تحولت من (النصف الآخر والجميل للمجتمع) والمنتجة الفاعلة في الاقتصاد الوطني إلى أنثى منتجة للغريزة واللذة والمتعة الجنسية معاً.
وفي مجتمعاتنا العربية، وإن لم تصل المرأة في مجتمعاتنا إلى هذه الدرجة الخطيرة، إلى أن ظاهرة تسليع المرأة وحرفها عن كونها من أمة لها قيمها [التي لم تكن فيها مظلومة أو مسفهة بل أن الرجل إذا أراد الفخر والاعتداد فإنه يتغزّل بها] منتشرة بصورة قد تكون حادة في مكان وضعيفة أو معدومة في مكان آخر...
في الوقت الذي لا تبدي فيه جامعاتنا وأكاديمياتنا قدرة على التحصين أو المواجهة المفاهيمية أو الفكرية أو الإنتاج المعرفي على هذا الصعيد لتعيش مجتمعاتنا هذه الحالة من الاضطراب المركب...
وفي إطار مرجعيات العولمة الأساسية الأخرى، الموجهة إلى الشرق كمقدمة للانقضاض على هويتها، فقد جعلت هذه الثقافة الإسلام قسمين: الإسلام الأصلي، والإسلام الأصولي...
أمَّا الطريق إلى ذلك، فقد كان عبر الجهات التي غذتها ودعمتها وموَّلتها منذ الخمسينات وجهزتها للوقوف في وجه المد التحرري القومي وطوّرت هذه الفئات وجهزتها لإنتاج مشروعها الجديد، فكانت بداية البدء من أفغانستان هذه المرة حيث بدأت تنفذ مشروعها هذا تحت شعار محاربة الأصولية الإرهابية، متحركة في المسارين فلسطين وأفغانستان ضمن استراتيجية واشنطن الجيوبوليتيكية وقد أنتجت هذه الفئات وقامت باستخدامها ضد الحكم الشيوعي في أفغانستان وساعدتها في ذلك دول إسلامية وعربية معروفة فيما مضى والآن تحارب منتجها، فهذه الأصولية هي أحد إنتاجياتها وثقافتها، وأن الإسلام واحد بمنابعه الفاضلة ومقاصده السمحاء وهو نسف الهوية التاريخية، في ظل نظام اقتلاع الهويات التي أنتجت تاريخاً وفلسفة امتلكت كل أسباب المدنية والحضارة، في ظل هذا النظام تتشكل معوقات فعلية للتاريخ والهوية، ربَّما ستكون إيديولوجية ـ فكرية تُلغي كل الهويات عدا هوية قاتلة هي: الاثنية والمذهبية والطائفية تستجيب لما يُراد لهذه الأمة من تخلّف وتدمير وبقائها دون تمثل لاستراتيجية تستجيب لمقتضيات التقدّم الأساسية، معرفية، ثقافية، وإيديولوجية واقتصادية في قائمة أولويات إعادة بناء الهوية التي يستهدفها نظام العولمة الراهن وإقصاء الماضي عن الحاضر والحاضر عن المستقبل بالقطبية المعرفية الكاملة (الماضي لاحتوائه لحظات حضارية متقدمة وغاية في الأهمية المعرفية، والحاضر كنتاج من المنجزات الحضارية) وتعمل العولمة الآن على فصله عن أن يكون توصيفاً لحالة حضارية... وكأنها تريد أن تُقصي الأمة عن ماضيها، وتملي على الماضي كيفية فهمه، وتدخل الحاضر المركب المضطرب بالماضي بتقديم الأداة التكنولوجية المتطورة لنسف هذا الماضي وقطع الجذور. لقد كانت استجابة الفئات المبهورة بالغرب فيما مضى، حتَّى في عصر النهضة العربية حيث ازدهرت فيه أفكار الغرب الأوربياني، أو عصر ترجمة هذه الأفكار بل وتبنيها، كانت كبيرة، لكنها لم تكن فاعلة كما تبين فيما سبق، إلا أن استجابة فئات عربية ومتوسطة ودنيا، لظاهرة العولمة والقرية الكونية، تسهل على النظام الجديد ابتلاع العرب، هذه الفئات التي تعيش على تخوم سياسة القطب الواحد وإسرائيل، افتقدت الانتماء والهوية، وتأسس الآن لمرحلة انهيار عربي، يقود إلى حطام عربي (كما يسميه د. طيب تيزيني) أو قاع عربي... وانتمت إلى المجتمع الاستهلاكي، مجتمع يستهلك ولا ينتج، مجتمع مُصنع غربياً ويستهلك عربياً، وثقافة منتجة غربياً وتستجيب عربياً... وبذا نشاهد هذا الحطام على هيئة تنميط رقمية... إلى تحويل البشر إلى أرقام.. وبعد فوكوياما، جاء دور صموئيل هنتينغتون ليعلن عن صدام الحضارات أو صراعها، أي صدام الحضارة الثالثة مع عدوها الأساسي وهو القوميات، أو الثقافات القومية وقد حدد هذا العدو بالاسم هو: الثقافة العربية والإسلامية... وتلتها دعوة أو بيان ستين كاتباً أمريكياً في فبراير من العام 2002، لتؤكد خطورة هذا التوجه الثقافي للموجة الحضارية الثالثة /فظيعة الذكر/... وحاول فوكوياما وهنتينغتون (كلاهما وبمساعدة البنتاغون) وضع صيغة تفسيرية للصراع في القرن الواحد والعشرين قائمة على العامل الثقافي كمحور للصراع، فهما بنظريتهما يروجان للثقافة الغربية والأمريكية وتعميم ثقافة الغرب وأمريكا على المجتمعات الأخرى من خلال أنظمة العولمة. وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي وضرب العراق اعتبر هذان المنظران التابعان للبنتاغون بأن نبوءتهما قد تحققت أي أن التاريخ انتهى لصالح أمريكا والحضارة اللاتين ـ أمريكية أو الكالفينية التي مرَّ ذكرها معنا سابقاً....
فرأى هنتينغتون أن ليس هناك ثقافة أكثر قوّة وكفاءة وأكثر قدرة على التحدّي ومواجهة الغرب إلا الحضارة الإسلامية والكونفوشيوسية اللتان ترفضان الانقياد للغرب وحضارته كما ترفضان برامج العولمة ودعوتها للهيمنة على شعوب الأرض... ولذلك استخدم هنتينغتون مفهوم الثقافة بمعنى الحضارة (والحضارة لديه تعني الثقافة وهذا خطأ منهجي ومعرفي تاريخي يلم به تماماً لكنه يكابر على ارتكاب الخطأ من أجل مأربه الذي يرمي إليه وهو إيجاد فلسفة للصراع ومبررات إيديولوجية ثقافية معرفية حتَّى ولو غالط أهل الأرض كلهم والثقافة والحضارة كلتيهما...) وذلك لينسف الماضي كله بقيمه ومعتقداته ورموزه وأفكاره... وصور الصراع أو الصدام الذي سيحدث في القرن الواحد والعشرين على أنه سيقتصر فقط على الحضارة الغربية من طرف والحضارتين الإسلامية والكونفوشيوسية من طرف آخر.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هنتينغتون ـ عندما يتحدث عن الصراع بين الحضارات الدينية ـ يتجاهل عن قصد وإصرار مبيتين للصراع بين اليهود والعرب أو بين اليهودية وعدوها الأول المسيحية، وأنكى من هذا أنه لم يستخدم الدين كمعيار للتصنيف إلا عندما يتحدّث عن الدين الإسلامي أو الحضارة الإسلامية... وفي تصنيفه الحضارات عبر معايير مخالفة للمنهجية العلمية والتاريخية تماماً فإنه يصنف الحضارات استناداً لمناطق جغرافية أو بيئية أو عرقية أو دينية وهذا لا يتفق مع تطلّب تحديد المعايير والمفاهيم حتَّى يكون التصنيف منطقياً متسقاً أي تصنيف الحضارات ـ على سبيل المثال ـ على أساس ديني كمعيار واحد، وهذا ما افتقر إليه هنتينغتون في هذا المجال، ومثال ذلك حينما يتم استخدام الدين كمعيار واحد وعليه يجب أن يكون تصنيف الحضارات على الشكل التالي: الحضارة المسيحية والحضارة الإسلامية والحضارة البوذية والهندوسية والحضارة الكونفوشيوسية وهذه تشير إلى الحضارة الصينية واللاتينية الأمريكية لماذا؟ إنَّ الثقافة أو الهوية الثقافية والتي في أوسع معانيها الهوية الحضارية هي التي تشكل نماذج التماسك والتفكك والصراع في عالم ما بعد الحرب الباردة. ويقع كتابه صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي في خمسة أجزاء رئيسية وكل هذه الأجزاء هي محاولة لتطوير نتائج ذلك الافتراض وهي أن العالم اليوم متعدّد الأقطاب والثقافات، وإن التحديث مختلف عن الغربنة. إنَّ توازن القوى بين الحضارات أخذ في التغير، الغرب يتقهقر في نفوذه النسبي وإن الحضارات الآسيوية تقوم ببناء وتوسيع قواها الاقتصادية والعسكرية والسياسية، والعالم الإسلامي يشهد انفجاراً سكانياً بعيد المدى في تأثيراته على مستقبل الدول الإسلامية ومصحوب بنتائج عدم استقرارها من جهة وعلاقاتها مع الحضارة الغربية من جهة أخرى. إنَّ نطاقاً عالمياً أساسه التنوع الثقافي أو الحضاري أخذ في الانبثاق: هناك مجتمعات تتقاسم روابط ثقافية تتعاون مع بعضها البعض والدول تجمع نفسها حول الدول الأساسية الرائدة أو الكبرى من نفس حضارتها أو ثقافتها. إنَّ دعوات الغرب إلى العالمية تضعه دائماً في صراع مع الحضارات الأخرى وبشكل أكثر أهمية وخطورة وتحديداً مع الإسلام والكونفوشيوسية وعلى المستوى الإقليمي حروب خطوط الصدع والتي تقع بشكل رئيس بين المسلمين وغير المسلمين، تؤكد الحشود التي تؤديها دول تشاطر حضارتها وتهدد بتوسيع حدود الصراع ممَّا يجعل الدول الكبرى تسعى إلى إنهاء تلك الصراعات. إنَّ حياة الغربيين تعتمد على الأمريكيين وهم يعيدون تأكيد هويتهم ـ الثقافة الغربية ـ وإن المجتمع الغربي قد هيّأ نفسه على اعتبار أن ثقافتهم ثقافة متميزة، وقد اتحدوا لغرض تجديدها وصياغتها ضد التهديدات من المجتمعات غير الغربية. ومن خلال صياغة هذه الأجزاء الخمسة ينطلق هنتينغتون بترويج فكرة صدام الحضارات مؤكداً في سياق أطروحاته على فكرة أساسية وهي أن الصدام في القرن الواحد والعشرين سيكون بين الغرب من جهة والإسلام والكونفوشيوسية من جهة أخرى باعتبارهما ثقافتين أو حضارتين تؤكدان على هويتهما الثقافية رافضتين الانصياع للثقافة الغربية... وبهذا هو يروج الصراع مع الشرق المحدّد لديه بالإسلام والصين، لصالح الغرب والأمريكان. وفي هذا بُعد سياسي خطير يستهدف إخضاع الشعوب الأخرى للسياسة والمصالح الأمريكية، أمَّا ما يتعلّق بافتراض هنتينغتون فإنه يقوم على أساس المصدر الرئيسي للصراع بعد الحرب الباردة فهو لن يكون صراعاً إيديولوجياً أو اقتصادياً إنما يكون صراعاً ثقافياً، ونظراً لأهمية الهوية الثقافية للمجتمعات الإنسانية فإن هنتينغتون يرى أن هذا العالم المتغيّر الذي يشهد صراعاً ثقافياً في المستقبل وصراعات أخرى على المستوى المحلي والتي ستكون بين ثقافات محلية تنطوي تحت حدود إقليمية أو الدولة وهي في الأساس ذات صيغة عرقية، أمَّا على مستوى العلاقات الخارجية فيرى أن صدام الحضارات سيكون عنوان العالم في المرحلة المقبلة كما أن المسائل الاستراتيجية ترتبط بتنوّع واختلاف الثقافات، وكان جورج بوش الأب يرى أن المستقبل سيكون مستقبلاً أمريكياً وأن النظام العالمي الجديد هو مجرّد إمكانية وطموح وفرصة متاحة الآن وسيكون حقيقة في المستقبل المنظور... وقال: "فبين أيدينا إمكانية استثنائية لم تنعم بها سوى أجيال قليلة، ألا وهي إمكانية بناء نظام دولي جديد وفقاً لقيمنا نحن ومثلنا نحن وليس في الوقت الذي تتقوّض فيه من حولنا النماذج والتقنيات القديمة ومُثل وقيم الآخرين"... وهذا ما قام بتوكيده وأدلجته هنتينغتون وفوكوياما لانهما ـ وبوش ومن قبله ومن بعده ـ هم في خدمة الاستراتيجية الأمريكية ومستقبلها. والثقافة التي يروّج لها الرئيس الأمريكي تتمثل في الحرية السياسية والاقتصادية وشرعية السلطة القائمة بالاتفاق الشكلي بين الحكام والمحكومين وحقوق الإنسان أو ما أسماه (الليبرالية الديمقراطية) والتي يجب نشرها في كل بقعة من بقاع الأرض ـ بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ودول شرق أوروبا ـ وعندما يتحقق هذا الانتشار فإن البشرية تكون قد وصلت إلى نهاية التاريخ. وهنا تبدأ أنظمة العولمة بالإحساس بنشوة الانتصار والتمدّد... إذن إنَّ فكرة الصراع التي تعبّر عن تصورات السياسة الأمريكية تقوم على الصدام بين الإسلام والغرب، إذن إنَّ ما جاء به هنتينغتون حول صدام الثقافات (بين الغرب والإسلام) يندرج في إطار السياسة الأمريكية تجاه المسلمين، ولعل هذا سيظهر عندما يصف هنتينغتون بأن الإسلام ومنذ البداية كان دين سيف وديناً يدعو للجهاد كوسيلة أساسية لمحاربة الأعداء وبهذا فإن الصراع بين المسلمين والغرب قديم، وهو ما سوف يكون ممتداً في القرن الواحد والعشرين لكن هذه المرة يجد نفسه ـ أي الإسلام ـ متحالفاً مع الكونفوشيوسية كثقافتين متفقتين في رفض النموذج الغربي على الرغم من الاختلاف بينهما في مسائل كثيرة. من هنا جاء تركيز هنتينغتون على مبدأ الصراع وتبريره. ثمَّ فلسف مقولته بأن العالم الإسلامي يشهد نمواً سكانياً بعيد المدى في تأثيراته على مستقبل العالم الإسلامي نفسه وعلى علاقاته مع الحضارات الأخرى. فهذا النمو في تصاعد مستمر ويأخذ أبعاداً خطيرة على مستقبل العلاقة مع الغرب ممَّا يجعل هذا النمو عاملاً أساسياً ومهماً في مدّ الصحوة الإسلامية بالعناصر الشابة النشطة المؤمنة بقيمة الحضارة الإسلامية وهذا سوف يشجع التطرّف وهجرة العناصر الشابة المدرّبة من المسلمين إلى أوروبا ـ التي تعاني من مشكلات كثيرة في هذا الإطار ـ ممَّا تتصاعد الصعوبة معها بخاصة إذا ما علمنا أن المجتمع الغربي نفسه لم يعد قادراً على استيعاب هذا التنوّع الثقافي، وأن الصحوة الإسلامية سوف يصيبها الكثير من الضعف بينما يضع الإسلام حسب اعتقاده حل إشكاليات التسلّط السياسي والتخلّف الاقتصادي والضعف العسكري ولعلّ الاستثناء الوحيد لذلك قد يأتي من كل من أندونيسيا وماليزيا إذا نجحت هذه البلدان بالحفاظ على تحقيق معدلات عالية للتنمية، وعندما يكون تقديم ـ نموذج إسلامي ـ للتنمية فإنه سوف ينافس النموذج الغربي والأسيوي ويتنبأ بظهور حركة إيديولوجية ذات طابع قومي متطرّف يعقب أفول الصحوة الإسلامية، ويرى أنها لا تكون على وفاق مع الغرب لأنها ستضع على عاتق دول الحضارة الغربية مسؤولية إفشال الحل الإسلامي وبمعنى آخر فإن طبيعة العلاقة الهدّامة قد تزداد حدّة أو تقل بحسب بعض المتغيّرات المرتبطة بالمجتمعات الإسلامية لكنها تبقى ذات طابع متناقض وأكّد هذا الكاتب العنصري ـ في سياق اعتقاده بتصاعد الصدام بين الإسلام والغرب ـ على إزاحة أو غياب الدولة القوية القائدة في العالم الإسلامي، لأنَّ هذا الغياب سوف يسهل قيام الصدام الحضاري، ويسوق مثالاً على ذلك من تجربة الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفييتي التي مارست كدولتين قائدتين في إطار حضارتهما دوراً أساسياً في توجيه سلوك الدول التابعة لهما، وهذا يمنع تصعيد أي صراع إلى درجة المواجهة العالمية، وفي غياب الدولة القائدة في المجتمعات الإسلامية تتعدّد الجبهات التي ستفتحها الدول الإسلامية مع باقي الحضارات فضلاً عن التنافس على دور الدولة القائدة في العالم الإسلامي الذي سيقود إلى صراع بين الدول الإسلامية( ). وكذلك اختلال التوازن السكاني والتنمية الاقتصادية والتغيّر الثقافي ودرجة الالتزام الديني وأن حالة العداء هذه ستتزايد حدّتها بسبب عدّة عوامل أهمها: ازدياد هجرة المسلمين إلى الغرب بسبب النمو السكاني المتصاعد وعدم كفاية الموارد ولهذا نبّه إلى خطر الصحوة الإسلامية التي عززت من ثقة المسلمين بأنفسهم وأظهرت تميّز هويتهم الثقافية عن غيرهم على حد قوله. أمَّا فكرة العولمة فهي تقوم لديه على ترويج فكرة عالمية ثقافة الغرب، وفرض تفوقه العسكري والاقتصادي على العالم كأن المعسكر الشيوعي العدو المشترك للإسلام والغرب ممَّا دفع كل طرف لفرض هيمنته على الآخر. وهذا لا يستثني الدول الإسلامية التي تؤيّد واشنطن، وتعتمد عليها عسكرياً أو اقتصادياً لأنَّ الغرب يستشعر مخاطر الإسلام الكثيرة وأهمها انتشار أسلحة الدمار الشامل فيها والإرهاب وموضوع الهجرة غير المرغوب فيها، وقد زادت أحداث 11 سبتمبر 2001 مخاوف الغرب والولايات المتحدة الأمريكية التي وجدت الذرائع المناسبة (بل المفتعلة والتي تقف وراءها سي أي ايه والموساد) في إعلان مواقفها السياسية المعادية للعرب والمسلمين صراحة وتحت يافطة محاربة ما تسميه الإرهاب معتبرة ما حدث يمثل تحدياً وإعلان حرب ضدهم، متجاهلة ومتغافلة عن سبب ودوافع هذه الأفعال وهو السياسة الأمريكية الظالمة تجاه العرب والمسلمين والمجتمعات النامية بشكل عام، وقد كان الغرب وأمريكا ولم يزالا سبباً رئيساً في تخلّف هذه المجتمعات وفقرها ويقومان الآن بتصدير ثقافتهما وطرائق أنظمتها السياسية والاقتصادية والإعلامية عبر العولمة، التي تعالت أصواتها في السنوات الأخيرة وبخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتفرّد القطب الواحد والمتوحش في السياسة الدولية. ويشير هنتينغتون إلى أن حضارة الغرب ستبقى الأكثر قوة محتفظة بحالة جيدة وهي تدخل الألفية الثالثة. وأن الحضارة الغربية هي الوحيدة بين الحضارات التي كان لها تأثير هائل وتصفوي على كل حضارة نتيجة للعلاقة بين قوة وثقافة الغرب وقوة وثقافات الحضارات الأخرى، لذا فإن فكرة قوة الحضارة الغربية هي التي تؤهلها لأن تكون أكثر انتشاراً بين حضارات العالم والعكس بالعكس... لذا فإن القضية الأساسية بين الغرب وباقي العالم هو التنافر بين جهود الغرب لتكريس عالمية الثقافة الغربية وبخاصة أمريكا (ص28)، وبين الحضارات الأخرى التي تؤكد على خصوصيتها الثقافية والحضارية.
وتدور فكرة هنتينغتون حول مستقبل الصراع على اعتبار أن الصراع آت لا ريب فيه، وسيكون صراعاً ثقافياً وليس إيديولوجياً أو طبقياً هذه المرّة، ويأخذ طرقاً مختلفة من أبرزها الغزو الثقافي عن طريق العولمة دون الاكتراث بحركة التاريخ وأحداثه وبخاصة تاريخ الثورات والانتفاضات الشعبية على غرار ثورة الصين وثورة فيتنام والجزائر وكوبا وانتفاضة الأقصى ومقاومة الشعب العراقية المتصاعدة... ولم يكتف هنتينغتون بتجاهل هذه الثورات والحراك التاريخي للشعوب (ولعل هذا ما لا يؤمن به الأمريكان على الإطلاق لأنَّ رب الجند يحميهم دوماً من أعدائهم: العرب والمسلمين) بل زاد أكثر بنكرانه حقائق التقسيم الطبقي وأكثر منه رأى أن الهوية الثقافية تشكّل نماذج التماسك والتفكك والصراع في عالم ما بعد الحرب الباردة (ص30).
لقد قدّم هنتينغتون الإسلام على أنه العدو الأول للغرب، وهذا لا يعود لأسباب ذاتية ولا لأنه ينتمي إلى معسكر المتوجسين من خطر الإسلام كما رأى البعض، بل لأنَّ الموجه الإيديولوجي ـ الأمريكي ـ قد قرر تنفيذ خطط أمريكا التوسعية أو الجيوبوليتيكية فهيأ لها منظرين على شاكلة ص. هنتينغتون هذا. وقد أعطى مبرّراً مباشراً أو عيانياً كما ابتدع، ظاهرة الصحوة الإسلامية لدى العالم الإسلامي والعربي تحديداً حيث يعتز هؤلاء بحضارتهم وثقافتهم الأمر الذي سيقود إلى صدام حضاري ولذلك راح يهاجم الإسلام معتبراً إياه ديناً عدوانياً بطبعه انتشر بحد السيف ويحاول فرض ثقافته على الآخرين بالقوة...
العولمة والانهيار العربي:
دأب دعاة هذه الأفكار على ترويج هذا المصطلح في الساحة العربية وهم يدركون أنها لا تمثل همومنا وتطلعاتنا، ولا تمس قضايانا، بل إنها تشغل ساحاتنا الثقافية بما لا يخصّها وتستهلك مصطلحات فصّلت على مقاس واقعنا وكذلك الأحداث المأساوية المتشابكة، لتفصلنا عنها أو لتحيدنا عن الانشغال بهذه القضايا والأحداث، لنستمر بالرقص على إيقاع الآخرين، ونلهو عمّا يدمّر بنياتنا الاقتصادية والأخلاقية، بمفاهيم وأفكار لا تعنى بما يخصّنا ويؤرقنا وقد وجدت هذه الملهاة من يدعو لها على الساحة الثقافية العربية، في هذا الوقت الذي يتعاظم فيه دور الإعلام الأسود عبر قنوات الإعلام العربية المتكاثرة والمموّلة من جهات عولمية وضعت خدماتها في حسابات الآخرين مثلما وضعت أيديها في جيوب أصحاب مراكز الجذب الكبرى... لتقدّم لنا ثقافة البطن وما تحته بشعارات ومسميات تجترحها هذه الأوساط، من مثل الرأي والرأي الآخر، والانفتاح والاتجاه المعاكس، وثقافة المطبخ والسرير (على غرار برامج السوبر ستار ـ أو ستار أكاديمي) التي أوجدت لتهدّم جدار الحياء والأخلاق في التعامل ما بين الشاب والفتاة فتزربهم في ماخور واحد شهوراً يتدربون على الغناء أو الرقص أو التمثيل وتزيل الحواجز بين غرف نوم الفتيات والشباب بحجة التدريب أو بين المطبخ والفراش والفن بقصد البحث عن الجمالية في هذا الماخور الذي تقف وراءه جهات موجهة وممولة لا تمتّ إلى أخلاق الشرق قاطبة وأخلاق وقيم هذه الأمة على وجه التحديد... في الوقت الذي لا تبدي فيه المؤسسات الأخرى الثقافية أو الأكاديمية قدرة على المواجهة المفاهيمية والفكرية أو الإنتاج المعرفي في هذه المرحلة من الاضطراب المركب الذي تحتاجه أمتنا في حسابات السوق... وبعد رضوخ المتلقي العربي للحشد الهائل من الإعلام الأسود، دون سلاح مقاوم، اجتماعي وثقافي، تحدث الآن حالات التشيؤ والانهيار، وذلك بغياب القيم التي تخترقها أجهزة الإعلام الأسود وثقافته، غياب الأخلاق القيمية، لتجزئ المجتمعات العربية وبالتالي إقامة فجوة بين الأعلى والأدنى من فئات المجتمع، وانتشار حالات الفساد والإفساد، سواء بالسيولة المالية الهائلة المتاحة في عدد من المؤسسات العربية، أم بالتقنيات المستجلبة دون ضبط لعملية الاستفادة منها واستخدامها... كل ذلك من أجل إسقاط الرهانات التاريخية أو البدائل التاريخية التي عناها فوكوياما، واستهداف الفكر القومي المجدّد كيلا يكون بنية اجتماعية وسياسية وهو العدو رقم واحد بالنسبة للقطب العالمي المتوحش... هنا برزت حالة القاع العربي، الذي تصدع بعد تحول كثير من الدول من راعية إلى تابعة...
*عولمة الهوية الثقافية:
التخلّف الثقافي واللغوي والنفسي تخلّف مسكوت عنه ولا يخضع للتحليل والنقاش والبحث كما هو الحال بشأن معنى التخلّف الآخر، وهو التخلّف اللغوي والثقافي الذي يتجسّد على شكل نظام نفساني وثقافي تتداخل في تشكيله مجموعة من العوامل، منها ما هو متعلّق بالماضي والتاريخ، ومنها ما يتعلّق بالحاضر وبعقد النقص التي يستشعرها كثير من أبناء العالم الثالث، في حين أن بعضاً آخر منها يتعلّق بالضغوط والتأثيرات الغربية والمركزية المعرفية المرافقة لها. وأهم ملامح هذا التخلّف هو: 1ـ تقليد الغرب، الطرف الغالب في التوزيع الحضاري الراهن ـ حسب نظرية ابن خلدون التي تصف تقليد الطرف المغلوب للطرف الغالب في دورات الحضارة. 2ـ اللغة العربية وهي لغة القرآن الكريم الكتاب المقدّس عند المسلمين، وقوة اللغة العربية أنها أثبتت متانتها عبر التاريخ والحضارات، فقد ترجمت إليها العلوم الإغريقية والرومانية، وهي ليست باللغة الهشة التي يمكن اقتلاعها من الجذور عن طريق الغزو الثقافي ـ وهو أخطر أنواع الغزو لأنه يمسّ جوهر حياة الناس التي اعتادوا عليها تاريخياً ـ وتشكل محور الوجدان والانتماء عندهم. 3ـ وعلى صعيد التخلّف النفسي فيتم بتطور عقدة النقص واحتقار الذات، وخاصة عندما ينظر أفراد هذه المجتمعات إلى الغرب باعتباره النموذج الحضاري الناجح. وإن التخلّف السيكولوجي يعبر عن نفسه لغوياً عبر تبنّي لغة الطرف القوي المتغلب ومحاولة تقليده. 4ـ الرأسمالية وأثرها على التنمية البشرية وخلق أنماط التخلّف الأخرى، وهو يرى أن سيطرة النمط الرأسمالي على عالم اليوم سواء بدولـه المتقدّمة أو المتخلّفة تعني تكريس الغنى والتقدّم للدول المتقدمة وتكريس الفقر والتخلّف للدول المتخلّفة. 5ـ التجربة التنموية في العالم الثالث، والنظريات التي تطرح هنا سواء تلك المتعلقة بردم الفجوة التنموية مع العالم المتقدّم والسير على خطاه، أو تلك التي تنظر إلى التخلّف في العالم الثالث نظرة بنيوية وعلى اعتبار أن اللحاق بالغرب أمر صعب المنال في ظل إشكالية الاعتماد الكلي عليه. والأثر العميق الذي خلّفته الرأسمالية في التطور الذي يخلو من أي مضمون أخلاقي وتحديداً البعد ديني والركض وراء الربح بأية وسيلة والطمع وعدم الاهتمام بأي أبعاد إنسانية خلال عملية اللهاث خلف تكديس المنافع المالية بما يشوّه التكوين الأصلي للثقافة والهوية، وهو منشأ مصطلح "الرموز الثقافية" سواء الحقيقية المحلية، أو المصنعة أي التي يصنعها الاستعمار ويفرضها على الثقافة الوطنية. وقد ذكر السوسيولوجي الأمريكي وليام أوغبيرن في أواسط القرن العشرين الفجوة الثقافية في التطور الإنساني حيث امتاز بتباطؤ التطور الثقافي والقيمي عن التطور الاقتصادي والتكنولوجي. ففي كل مرحلة من المراحل، وفي كل منطقة من المناطق نرى أن المجموعات البشرية تتقدّم بسرعة معينة في المسارات التقنية والاقتصادية، في حين تكون سرعتها في المسارات الثقافية والقيمية أبطأ بكثير. ومن هنا فإن ما نراه في العالم الراهن، يتساوق في أكثر من جانب منه مع فكرة أوغبيرن... إنَّ الأوساط الحداثوية ـ وتلك المرتبطة بفرنسا سواء اقتصادياً أو ثقافياً ـ لم تتحمّس للتعريب في دول المغرب العربي وأبقت على استخدام الفرنسية في حياتها اليومية، في حين وقفت شرائح التقليديين والمتدينين مع التعريب بكل قوة. لكن تظل القوة الأساسية في قيادة لواء التعريب وإنجاحه في أيدي النخبة السياسية الحاكمة كما أن تسلّط بعض النخب العلمانية والمتفرنسة في الكثير من مراحل الحكم السياسي ـ خاصة في مجال التعليم والتعليم العالي والثقافية ـ أثرت على عملية التعريب. أمَّا في مرحلة لاحقة فقد بهت هذا التميّز خاصة مع الأجيال الجديدة التي نشأت بينها وبين الفرنسية علاقة تختلف عن تلك التي نشأت بين آبائهم وأجدادهم ولغة المستعمر.
من كل هذه المعطيات التي تكوّن صورة قاتمة للحالة العربية الراهنة، نقول إن هذه الحالة لم تزل مقصورة على البنى الفوقية للمجتمعات، وعلى ذوي المناعة الرخوة والضعيفة، وإذا كان الفجر نهاية الظلام، فإن الليل عمره قصير، ولن يكون بقدر أطماع الحرامي... وإن في هذه الأمة، وبين حناياها لحظات تاريخية حاسمة مهما اشتدت الأزمات أو هزلت... وفي هذا المجال تلعب وسائط الإعلام والوسائط المعلوماتية، دوراً فظيعاً في هذا السياق خاصة إذا علمنا أن وسائل الإعلام الغربية، المقروءة والمسموعة والمرئية، تضخ على مدار الساعة ما معدله 75% من ساعات البث الموجهة إلى عالمنا العربي، برامج هادفة ومركزه بدقة من أجل تعميم هذه الثقافة المنافية للقيم والأخلاق والهوية والمنجز التاريخي القومي...
وقد ارتبطت وسائط إعلامية عربية عديدة بهذه السياسة الإعلامية وتكيّفت معها ببرامج مماثلة، وساعات بث تخدم اقتصاد السوق وتقوم على منهجية عولمية متكاملة وخاصة في مجال الدعاية والإعلان ـ التي تستخدم المرأة مسوقة ومسَوقة ـ وبنفس النهج العولمي آنف الذكر... ولا نجاوز الحقيقة إذا قلنا بأن طغيان الإعلام الأسود في مجتمعاتنا واقتحامه المستور والمكشوف، وخرقه الحدود الجغرافية دون جواز سفر، قد دخل إلى بيوتنا دون استئذان، ويقدّم برامج انشدت إليها الأجيال الشابة الرخوة، أو المهيأة من قبل لتقبل صرعات (الكيتش) العولمية الراهنة، وأداء سلوك السوق المنتشرة... إنَّ هذه الثقافة وأهلها أشبه ببذرة الرمال في الصحراء، عندما تهب رياح التاريخ تعود إلى منبتها الأول وحياة البداوة... وهنا تصيح صيحة ابن خلدون تطرق الأذان( )...
*من خراب الروح إلى خراب العقل:
ما دمنا نبحث عن مصير الثقافة الإنسانية بعد التشوهات التي حاقت بها يمكننا صياغة هذه المسألة وإعادة النظر في بحث الثقافة العربية المعاصرة ـ والثقافة الجماهيرية على ضوء المستجد الحاصل والتبدل الجديد... أي الانتقال من روح العصر أو عقل الزمن إلى تسليع الثقافة وتصنيعها على ضوء التطور الحاصل في جسم هذه الظاهرة منذ نصف قرن حتَّى الآن... أي من هيروشيما إلى ما نحن عليه الآن من تحولات مأساوية وأحداث دامية جرت على رؤوس أبناء هذه الأمة منذ صعود الولايات المتحدة الأمريكية إلى المسرح السياسي الدولي حتَّى احتلال العراق...
كان أدغار مورين قد استخدم عبارة روح العصر في كتابه الذي حمل نفس العنوان ـ تعبيراً عن الهروب من المعضلات الأساسية، واختصاراً للتفاصيل دون الغوص في جوهر الحقائق وملامستها للجانب العقلي، وكي لا يضطر الكاتب إلى الغوص في المشكلات التي تفضي إلى عالم معقّد ومليء بالمشكلات العديدة والطاغية، وخصوصاً تلك التي تعني الدول المسماة بالنامية أو العالم الثالث، فيما شملت المساهمات السابقة المذكورة الحالة الثقافية المسيطرة في الغرب الرأسمالي... وبالرغم من أنها لا تعبر عن فكر غيبي أو عن الزمان بمعناه الطبيعي وجغرافية المكان لاشتمالها على معطيات إنسانية تجاوزت حدود وجودها (إلى الروح البشرية بعامة) وهذا صحيح إلا أن هذا المصطلح لا يتطابق وظاهرة الثقافة الجماهيرية ومعالجتها التي تمّت حتَّى الآن والتي ليست إلا مقدمة لفهم الثقافة الجماهيرية من منظورها الاجتماعي والسيكيولوجي ـ المعرفي.
وبهذا لم تتمكن هذه المعالجات من فصل الثقافة الجماهيرية عن المصطلح والظاهرة، لأنها لم تخرق الحدود إلى الروح فقط بل إلى العقل البشري... وعليه لابدَّ من إكمال العملية بالبحث، لسد الفراغ الذي تركته المعالجات السابقة دون غوص عميق... فمثلاً إن مصطلح "الثقافة الصناعية" لا يصلح لكل زمان ومكان، في حين أن الثقافة الجماهيرية كسحت حدود العالم ولم تتوقف على الغرب فقط، فقد صدَّرت إلى كل أصقاع الدنيا، أو استوردت إليها (لطبيعة الأنظمة ووسائل الاتصال) كما تصدّر، أو تستورد السلع لسد حاجة اقتصادية اجتماعية (وتسد هنا، هذه البضاعة الثقافية، حاجة روح تواقة أو عقل مستعد لقبولها والتعامل معها)... حتَّى أصبحت هذه الثقافة المنافس الرئيس في المجتمعات المعاصرة لتمكنها من معالجة قضايا العقل وهمومه، ومسائل الروح ونزعاتها، عبر الدولة كميسّر أول لانتشار هذه الثقافة، لأنَّ الدولة ـ هي السيّد المطلق ـ في مثل هذه الأنظمة والمراقب والمشجع والمنتج...
وعليه فإن إيديولوجية الدولة تلعب دور الرأسمالي نظراً لأنَّ سياسة الدولة الثقافية لا تعطي فرصة للمرونة... وهكذا يستدعي لجوء القارئ (المستهلك) إلى الثقافات الأخرى ولعل هذه المشكلة تواجه كل الدول من اشتراكية ورأسمالية على حد سواء. وعندما تتوازى الإيديولوجيات، التي تشترك جميعها في عملية تسييس الثقافة في المجتمع، يضعف تأثير الدولة في فهم الوضع الثقافي المعاصر... بمعنى أن الدولة التي رآها مورين سيداً مطلقاً، ليست أو لم تعد بالضرورة المسيطر الأكبر على ثقافة المجتمع. ذلك لأنَّ تأثير المجتمع ورأيه، السائد والكامن، هما أكبر دوماً وأشد توسعاً وانتشاراً، فيما أن تأثير الدولة أشد رفضاً وأكثر انغلاقاً في إطار الثقافة المتاحة لمجتمع ما. وفي هذا السياق عنى السوسيولوجيون بعاملين أساسيين في معالجة هذه المسألة: الأول: النقد الذي يفهم منه امتحان الثقافة الجماهيرية ليس كظاهرة خارجية، بل كاختبار أفق الإنسان كمراقب ومتلق ومستهلك لها، أي من ناحية تركيبه الإنتروبولوجي والنظام الاجتماعي الذي يؤطره. لذا فإن الثقافة الجماهيرية ليست فقط موضوع الرؤية، بل مختبرها ومجال البصيرة بقدر ممَّا تقوم على العامل الإنتروبولوجي ـ الاجتماعي.
الثاني: النزعة أو الطموح، نحو الكمال والتكامل. فهي تشمل الطابع الوقائي لأنها تعالج الأمور الصغيرة والدقيقة وصولاً إلى غاية كبرى وهي الربح وغزو الثقافات القومية والوطنية بصورة أساسية. وقد يكون هذا صحيحاً ومعبراً عن واقع حال الثقافة في الغرب، إلا أنه مختلف تماماً عندما تسحب هذه الحالات عن إنسان العالم الثالث... ذلك لأنَّ معالجتها النفس البشرية بدقائقها وسلوكها في مجتمع الغرب الرأسمالي معتمدة على آخر معطيات علم النفس والتقنية السيكولوجية، ليس المحاكاة، وبالتالي، تخريب البشرية في الغرب، لأنَّ إنسانها ـ مواطنها ـ واقع تحت نظام كامل، وتشكل الثقافة (هذه) فيه أحد أعمدته...
أمَّا بالنسبة لإنسان العالم الثالث البعيد عن التكنولوجيا والرخاء الرأسمالي ـ وإن كان تحت تأثير الطابع الاستهلاكي الخاص بالرأسمالية ـ فإنه مستهدف لغزو الثقافة الجماهيرية له دون أن يكون اقتصاده متطوراً ونامياً، كما هو حال المجتمعات العربية، في الوقت الذي تسود فيه الخرافة والأسطورة، وقد دُعمتا بعناصر التكنولوجيا الغربية لتتسيّد وتسيطر على ساحة الثقافة والعقل المعاصر وهذا يعني أن الإنسان هو المقصود بالتخريب...
من هنا وجدنا أن نكمل البحث في الثقافة الجماهيرية وظاهراتها المختلفة المسيطرة في العالم الراهن وتأثيرها على المجتمعات الفقيرة التي تنعكس في سياسة حضارة الغرب تجاه مجتمعات العالم الفقير بعد طغيان النزعة الاستهلاكية فيه، ومحاولات التخريب الروحية والعقلية البادية في توسع وانتشار "الثقافة الجماهيرية" في مجتمعاتنا الفقيرة/ أو دول العالم الثالث/. والتي اتخذت شكلاً عسكرياً عدوانياً لم يبتدئ في أفغانستان ولم ينته في العراق...