يأخذ المؤرخون العرب المعاصرون على أسلافهم من المؤرخين الأقدمين اقتصارهم في كتابتهم للتاريخ الإسلامي على سرد الأحداث، والاكتفاء بحشد الروايات حولها دون عناية بتعليق، ودون التعرض لتلك الروايات بالنقد، ودون بذل أي جهد يذكر للربط بين تلك الروايات والحوادث والأحداث بعضها ببعض. ويجعلون هذا من خصائص منهج المستشرقين في كتابة التاريخ.
ولا يوجد ما يمنع من الاستفادة من منهج المؤرخين غير المسلمين، إذا وجد فيه مميزات تفيد في كتابة التاريخ الإسلامي على نحو مثمر وبناء. ذلك أن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها.
ولكن الخطورة في الاعتماد على هذا المنهج، هي في المزالق الخطيرة، التي قد يقع فيها المؤرخ أو الباحث، لاسيما حين يجنح للاستطراد في التعليقات على الحوادث والأحداث، وفي تحليل الروايات اعتمادا على رأيه الشخصي، أو خلفيته الفكرية، أو انطباعاته المسبقة حول هذا الحادث أو ذاك أو حول هذا القائد أو ذاك، وبشكل ربما يخرج به عن الموضوعية، لاسيما بالنسبة للمؤرخين العرب، خريجي الجامعات الأجنبية، والمشبعين بالثقافة الغربية، والأفكار العلمانية.
أقول هذا وبين يدي كتاب ( فجر الأندلس ) تأليف الدكتور حسين مؤنس، وهو كتاب يتميز بالعمق والشمول، في تناوله لموضوعه. وموضوعه تحديدا هو – كما جاء في العنوان الفرعي للكتاب - "دراسة في تاريخ الأندلس من الفتح الإسلامي إلى قيام الدولة الأموية ( 711- 756م)" . وطبع هذا الكتاب في القاهرة سنة 1959. وهو كتاب فريد من نوعه، وأشاد به الكثيرون ووصفه البعض بأنه " أحسن ما كتب حول تاريخ فتح الأندلس".ووصفه آخرون بأنه " أهم ما ظهر من الكتب الحديثة حول فتح الأندلس".
وذلك بالنظر إلى خبرة الدكتور حسين مؤنس في التاريخ، أكاديميا وباحثا ومحققا، وتبحره فيه، وتشعب علاقاته به، واستيعابه لجل ما كتبه المؤرخون المسلمون والنصارى من كتب ورسائل وحوليات، حول تاريخ الأندلس، باللغات الثلاث: العربية والإسبانية والفرنسية، بما في ذلك، الذي لا يزال منها مخطوطا. وذلك انطلاقا من موقع الدكتور حسين مؤنس، كأستاذ للتاريخ الإسلامي، بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وكمدير لمعهد الدراسات الإسلامية بمدريد على مدى سنوات طويلة.
ولكن هذا الكتاب على سعته وعمقه وشموله، وعلى قدر مكانة مؤلفه الأكاديمية والعلمية ومركزه ، يحفل بما يمكن أن أسميه " تجاوزات وشبهات وشطحات"، تسيء للتاريخ الإسلامي، ولبعض القادة الفاتحين. ولعلها تعتبر انعكاسا لأراء المستشرقين، حول طبيعة الفتح الإسلامي، وحول أخلاق وشخصيات القادة المسلمين، الذين قادوا الجيوش في هذا الفتح. ولعل ذلك مرده إلى خلفية الدكتور مؤنس، القريبة إلى العلمانية، منها إلى الإسلامية، وتأثره بالثقافة الغربية – الفرنسية تحديدا كونه تخرج من إحدى جامعاتها- ثم علاقاته الوثيقة بكبار المستشرقين، في عهده، وما يمكن أن يكون قد تسرب إلى ذهنه، من أفكارهم حول هذه الفتوحات من حيث، قد يظن أو لا يظن.
ولكل تلك الأسباب وغيرها ربما جاء كتابه حافلا بالأخطاء والعيوب والمواقف السلبية، التي تمس سمعة الفتح الإسلامي، وسمعة القادة المسلمين الفاتحين. وأقل ما يمكن أن أقوله في كتاب الدكتور حسين مؤنس (فجر الأندلس)، أنه بحاجة ماسة لإعادة النظر، من قبل مؤرخ مسلم متمكن، أو بالأحرى، لجنة من المؤرخين الأكفاء، للإطلاع على ما تضمنه هذا الكتاب من أخطاء وعيوب وشطحات، والوقوف على الأماكن التي خرج فيها المؤلف عن الموضوعية، وجنح خلالها إلى الإساءة لتاريخنا الإسلامي، ولبعض قادتنا الفاتحين، دون سبب وجيه، اللهم إلا التحليل والرأي والاعتماد على الروايات المتهافتة. ومن ثم إعادة نشره محققا ومدققا ومزودا بالشروح والتعليقات التي تضع النقاط على الحروف، بشأن التاريخ الإسلامي، وبما يزيد من أهمية هذا الكتاب، ويجعل القارئ لهذا الكتاب، أو الباحث الذي يعتمد عليه، على بينة من أمره.
أقول هذا نظرا للانتشار الواسع لهذا الكتاب، وصيته الذائع، بين المؤرخين والأكاديميين في مختلف الدول العربية. فإن هذا الكتاب صار مرجعا أساسيا حول فتح الأندلس، لكل الكتاب العرب الذين جاءوا بعد الدكتور حسين مؤنس، والذين تصدوا لكتابة تاريخ هذا القطر، يشهد على ذلك ما تزخر به كتبهم من اقتباسات من هذا الكتاب، وإحالات عليه.
ولكي لا يكون الكلام مرسلا، ويكون الاتهام بدون دليل، فسأورد هاهنا بعض الفقرات، وذلك حول موضوع واحد، وهو مطاعن الدكتور حسين مؤنس في التابعي الجليل والقائد الكبير موسى بن نصير، أحد قادة فتح أفريقية والمغرب، وفاتح الأندلس.
يقول الدكتور حسين متحدثا عن سياسة موسى بن نصير، في فتوح المغرب: "وكان موسى يحسب أن المسألة مسألة حروب وغنائم وكفى. فكان همه منذ تولى منصرفا إلى القيام بغزوات يعود منها بالمغنم الوفير والسبي الكثير ولا يهتم بعد ذلك بما كانت تثيره هذه الضربات من الحفيظة وسوء الظن في نفوس أهل البلاد..[1]". وأما عن السبب وراء لجوء موسى بن نصير لهذه السياسة العنيفة، فهو، كما يقول الدكتور حسين مؤنس،: "ويبدو أن إسراف موسى في غزو القبائل البربرية دون سبب أو مبرر ظاهر، هو شعوره بأن عبد الملك بن مروان يسيء الظن به ويتوقع أن ينهب أموال الولاية الجديدة كما نهب أموال البصرة[2]". ولا يدري الإنسان ما علاقة إسراف موسى بن نصير في غزو القبائل البربرية.. بإساءة الظن به من قبل عبد الملك من مروان؟!
ثم لو كان عبد الملك بن مروان وهو الخليفة الأموي الإصلاحي العتيد، والمؤسس الثاني للدولة الأموية، يسيء الظن بموسى بن نصير فهل كان سيوافق أخاه عبد العزيز على تعيينه واليا على أفريقية؟! فما بالك إذا كان موسى بن نصير قد نهب أموال البصرة، كما قال الدكتور حسين مؤنس؟! وهل لو كان موسى بن نصير قد نهب حقا أموال البصرة كان سيلجأ إلى عبد العزيز بن مروان، والي مصر؟ ليستقبله هذا الأخير أحسن استقبال ويجعله مستشارا له، ثم يكافئه بعد ذلك فعينه واليا على أفريقية التي تمتد من برقة في حدود مصر إلى طنجة على ساحل المحيط الأطلسي؟!
ويسترسل الدكتور حسين في الكلام بعد ذلك حول سياسة موسى بن نصير في الفتح، إلى أن يصل إلى القول: ولم يكن موسى ليتوخى النواحي المضطربة أو القبائل الثائرة ليغازيها بل كان يتوخى المطمئنة فينزل بهم على غرة...[3]".
فهل هذا معقول؟! وهل كان الفتح الإسلامي يتم على هذا النحو؟ فأين علماء المسلمين؟ وأين التابعون الذين كانوا موجودين بالعشرات، إن لم يكونوا بالمئات، في جيش موسى بن نصير؟ وحتى لو كان الدكتور حسين مؤنس قد استقى هذه المعلومة من إحدى الروايات التاريخية. وهذا أمر وارد، فهل دوره،كمؤرخ ، يقتصر على الإثبات والإدانة فقط ؟! فأين هو التحقيق إذن؟!
وبعد ذلك يورد حسين مؤنس نصا – لم يذكر مصدره - حول إحدى غزوات موسى بن نصير لقبيلة صنهاجة ومبالغته في القتل والسبي. ثم يعلق عليه بالقول – رغم ما في النص من أخطاء -: " ولسنا نفهم سببا آخر لمثل هذه الغزوة غير الطمع في المغانم".
ويضيف قائلا: بل حدث أن غزا كتّامة واشتد في أذاها، فسارع رجالها يؤكدون له طاعتهم وحسن ولائهم، فأصر على أن يسيء الظن بهم، ومضى يواتر الغزو عليهم وأصر على قتل رهائنهم، حتى تكشفت له براءتهم على نحو لا يقبل الشك، فانصرف عنهم بمغنم وافر[4]".
ويقول في حديثه عن حملة موسى بن نصير على قبيلة تهوده التي سبق أن استشهد عندها التابعي الجليل، والفاتح الكبير، عقبة بن نافع الفهري، رضي الله عنه،: "ويبدو أن طوائف البربر التي اشتركت في حرب عقبة بن نافع سنة 87هـ (702م) –كذا؟!- وقتله عند تهوده كانت تسكن على مقربة من هذه المدينة البربرية وقد قاد هذه الحملة عياض وعثمان وأبو عبيدة من أبناء عقبة بن نافع، فانتقموا لمقتل أبيهم من أهل البلد ومن حوله انتقاما شديدا. ثم أعقب ذلك –أي موسى– بسلسلة من الحملات على هوارة وزناته وكتّامة، وقضى على ما عسى أن يكون قد اختلج في نفوسها من تفكير في الثورة... ولما كان موسى يهتم اهتماما عظيما بمسألة الأسرى والمغانم ، فقد كان أهل البلاد يسارعون بالإسلام افتداء لأنفسهم من الأسر، وبهذا جعلت أعداد عظيمة من أهل هذه القبائل تسلم وتقبل على القيروان طلبا للاشتراك في الفتوح والغزوات[5]".
ويقول في سياق حديثه عن مقدمة فتح الأندلس: "وقد كان موسى بن نصير يشغل قواه قبل ذلك – أي قبل فتح الأندلس - في مغازاة القبائل البربرية واجتياح أرضها والغنم منها، ولكن طارقا لم يكن ليستطيع أن يفعل ذلك، لأنه بربري الأصل، من جهة، ولأنه كان عميق الإيمان لا يرضى أن يضع السيف في قوم لم يعرض عليهم الإسلام بالحسنى..[6]" .
وهنا نجد الدكتور حسين مؤنس لا يزايد فقط على إيمان طارق بين زياد وحسن تفهمه لمبادئ الإسلام -وهو مولى موسى بن نصير وأحد قادته-.. وإنما هو يتهم موسى بن نصير ..بنشر الإسلام بالسيف ولا يعرضه بالحسنى على الناس..أي أنه لا يتقيد بشروط الحرب في الإسلام .
ويقول معبرا عن موقف موسى بن نصير بعدما سمع بما حققه طارق بن زياد من انتصارات وفتوحات في الأندلس: "وتذهب الرواية الإسلامية إلى أن موسى بن نصير لم يكد يسمع بأخبار ما وفق إليه مولاه طارق من الفتح حتى أكل قلبه الحسد وقرر أن يذهب إلى الأندلس بنفسه ليعاقبه وليفتح بنفسه فتوحا أعظم من فتوحه ".
وبدلا من أن يقوم بعرض وتمحيص هذه الروايات، والتحقق من مدى مصداقيتها نجده يقول بعد ذلك الكلام مباشرة: "وعلى الرغم من أن موسى لم يكن بعيدا عن الغرور والحسد والطمع، فإننا نستبعد أن يكون هذا الشعور أو ما يماثله هو الذي دفعه إلى العبور إلى الأندلس[7]".
ويورد رواية ابن حيان حول الطريق الذي سلكه موسى إلى الأندلس، ثم يعقب عليها بما يخدم فكرته وانطباعه السلبي حول هذا الفاتح الكبير، إذا أنه يقول: وهذه عبارة إن دلت على شيء فعلى بعد نظر موسى من ناحية، وعلى شرهه إلى الغنائم من ناحية أخرى...لأن موسى قد سره أن يسير به الإدلاء إلى مدن أغنى من مدن طارق وأكثر منها مالا[8].."
ويقول: "ويبدو أن ما لقيه المسلمون عند ماردة والسواقي وما دهمهم من ثورة أهل طليطلة مال بهم إلى الشدة ... فبينما كان طارق يحتل المواقع احتلالا سلميا فيؤمن أهلها ... نسمع من الآن فصاعدا عن نهب البلاد وإحراقها ورعب أهلها وخروجهم منها على وجوههم. ويبدو أن هذا كان نتيجة لسياسة موسى، وقد عرفناه شديدا قاسيا عظيم الميل إلى المغانم والأسرى والسبايا [9]." ..
مع أنه يقول واصفا موقف موسى بن نصير من رهبان سرقسطة الذين فروا عندما أشرف جيشه على المدينة: "فلم يلبث موسى أن أرسل إليهم رسولا يؤمنهم ويعطيهم عهده، فسكنت مخاوفهم واستقروا ..[10]
فهل هذا سلوك فاتح يتسم بالقسوة والشدة؟! وهل كان أولئك الرهبان سيأمنون، ويعودون أدراجهم إلى مدينتهم وكنائسهم التي فروا منها لو كان موسى قاسيا، كما وصفه الدكتور حسين مؤنس؟!
والحقيقة أن رواية نهب البلاد وإحراقها - والمقصود هاهنا مدينة سرقسطة في شمالي الأندلس -..هي مضمون رواية كنسية أحادية. إذا أن مصدرها هو الحولية المنسوبة للأسقف ايزودور الباجي، المعاصر للفتوحات، والذي لا تزال شخصيته مجهولة حتى اليوم ..ومعروف أن الحوليات الكنسية التي تعود إلى هذه الفترة مشحونة بالمبالغات وتطفح بالافتراءات حول المسلمين وفتوحاتهم.
ويقول: "وكان نفر من قادة الفتح بربرا زناتيين مثل أبي زرعة طريف بن مالك وطارق بن زياد ، فلم يحسن العرب جزاء هذين، بل أصاب موسى طارقا بشر كبير، ولم ينظر عرب الأندلس إلى بربرها نظر الند للند، فأنكر البربر ذلك وبدأت نفوسهم تتغير [11].." ويقول: "ذلك أن حكومة موسى بن نصير وابنيه عبد الله وعبد الملك من بعده، في المغرب أضاعت على المسلمين ثمرات حكومة حسّان بن النعمان وإصلاحاته، فقد اشتد موسى وبنوه على البربر شدة نفرتهم وبغضت العرب إليهم. وزاد الأمر سوءا أن آل موسى احتضنوا بعض القبائل واعتبروا أفرادها موالي لهم وفضلوهم على غيرهم، فأثار ذلك نفوس بقية القبائل، وأخذ كثير من البربر يشعرون بأن الحكم العربي الجديد ليس خيرا في كثير من الحكم البيزنطي المنقضي..[12]. قال ذلك وهو بصدد التمهيد لولاية إسماعيل بن عبيد الله، مولى بني مخزوم، والي المغرب للخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، والذي يثني عليه المؤرخون ويقولون أن كافة البربر قد أسلموا في أيامه.. وكأن إيجابيات هذا الوالي وسياسته الرشيدة في المغرب، لا تتضح إلا بتوجيه اللوم والتوبيخ لموسى بن نصير، والحط من شأن سياسته وتحميله مسئولية الخلل الذي شهدته المغرب، في ذلك الوقت.
ويقول: "ولا نزاع في أن العرب لم يمسوا النصارى الذين صالحوا على أنفسهم بسوء، فقد روى صاحب "فتح الأندلس" أن موسى بن نصير رأى النبي صلى الله عليه وسلم أثناء عبوره، إلى الأندلس فنصحه "بالرفق بالمشركين"، وهي رواية أسطورية في الغالب، ولكنها على أي حال تدل على اتجاه المسلمين حيال غير المسلمين أثناء الفتح وبعده بقليل[13]. وفي حديثه على الناحية المالية في الأندلس، قال: "والواقع الذي نستطيع استخلاصه من مجرى الحوادث هو أن هذه الناحية كانت مضطربة في الأندلس اضطرابا شديدا وأن ولاة الأندلس لم يستطيعوا أن يخضعوا أرض شبه الجزيرة وعقارها للقواعد التي تقررها الشريعة للأرضين والعقارات في البلاد المفتوحة، هذا على الرغم من أن موسى بن نصير قد حاول ذلك على أول الفتح ثم حاد عن النظم التي وضعها وأساء التصرف في الأموال، وكان هذا من أسباب نكبته، وكان كذلك من أسباب البلاء في الأندلس فيما بعد[14]..
هذه وقفة واحدة مع كتاب (فجر الأندلس) لمؤلفه الدكتور حسين مؤنس، اقتصرت فيها على تتبع مطاعنه في القائد الكبير موسى بن نصير، وفي الكتاب ما هو أخطر، من ذلك، وهو بالتالي يحتاج لمزيد من الوقفات من قبل المتخصصين في التاريخ الإسلامي.
هذا والله من وراء القصد!