في الرق ودولة المؤسسات
لو لم تكن هذه مجرد مدونة، ولو كان لي شغف علماء الإحصاء، لحصرت عدد "السادة" و"الشيوخ" الذين تعينوا في مناصب حكومية في الدولة العمانية؛ ولحددت نسبتهم المئوية بين المسئولين من فئتهم (بلغة السيارات)، وكذلك نسبتهم من عدد السكان المهيئين والمؤهلين لشغل هذه المناصب.
لكني أترك ذلك لعلماء السياسة والاحتمالات والإحصاء.
مفاهيم مثل "السيد" و"الشيخ"، لو تأملناها جيداً، هي مفاهيم ذات صلة وثيقة بمفهوم الرق والطبقية الاجتماعية الحتمية المتوارثة.. ولكن لا نشعر بها جيداً ما لم نُسقطها على مفاهيم حديثة كالمؤسسات والعدالة الاجتماعية وسيادة القانون وتساوي الفرص.
أريد هنا قول شيئين:
أولاً: اللقب الاجتماعي السياسي كالشيخ أو السيد يفرض سلطةً حتمية مسبقة وغير قابلة للمجادلة أو التساؤل،. ودخوله (اللقب) إلى المؤسسة يُربك فكرتها ويخلخل هرميتها ومبادئها الإدارية والعدلية والاقتصادية.
ثانياً: معايير التلقيب (إعطاء اللقب) الاجتماعي لا تتماشى مع معايير التنصيب المؤسساتي. بالتالي يصبح التوفيق بينهما نوعاً من المقامرة.
مفهوم الشيخ أو السيد مفهومٌ جامد متوارث وغير قابل اجتماعياً للتغيير أو الحذف أو التحريك (علواً أو انخفاضاً). ومعاييره لا تخضع لمعايير اللقب المؤسساتي كمنصب الوزير أو الوكيل. وبالتالي يُصبح إسقاط اللقب الاجتماعي على المؤسساتي إسقاطاً لمعايير اجتماعية بعيدة كل البعد عن معايير العدل والمساواة والمؤسسة وسيادة القانون.
المنصب، وفق المفهوم المؤسساتي يأتي (وقد لا يأتي) بعد سنوات من الكد والكدح والمنافسة الشريفة والتدرج والتضحيات في سبيل المؤسسة.
على النقيض من ذلك، اللقب الاجتماعي: دائماً وأبداً يأتي لصاحبه جاهزاً على طبق من الطبقية الجامدة والهرمية الجوفاء والإقصائية وربما الظلم. بالتالي يُصبح التزاوج بين اللقبين (كمعالي الشيخ الوزير مثلاً) ما هو إلا هجمة قبلية على المؤسسة، وترسيخ للطبقية الاجتماعية، وقبول ضمني لمبادئها، وتمكين مباشر لها للنيل من موارد المؤسسة/الدولة البشرية والمالية والطبيعية، وتمرير لأجندات ذات طابع عرقي قبلي مذهبي جهوي إقصائي.
ما يدلل على خلخلة المفهومين الاجتماعي والمؤسساتي وانتصار القبيلة على المؤسسة هو أن الألقاب التي تمنحها المؤسسة اتخذت صفة التخليد والجمود تماماً كالألقاب الاجتماعية: قلما يخرج وزيرٌ من وزارته/قبيلته إلا ليدخل إلى وزارة/قبيلة أخرى، وإن خرج منها فإنه سوف يحمل معه لقب "معالي" إلى كل مثاويه الأخرى والأخيرة: وربما كان من بينهم من يفكر بتوريث اللقب إلى أبناءه.
حتى وإن قبل مجتمعٌ ما بالحكم السيادي المتوارث لاعتبارات تاريخية وثقافية وحتى عاطفية ونفسية، كيف تقبل السيادة نفسها بنشأة سلطنات داخل السلطنة ومملكات داخل المملكة؟ المسألة إما أن تكون حسابات وتوازنات اجتماعية على حساب المؤسسة، وإما أن تكون انفلات مركزي وخروج الأشياء عن التحكم والسيطرة، وإما أن تكون الأولى ومن ثم آلت إلى الأخرى. وفي كل الأحوال جاءت النتائج سلباً على حساب الجميع: السلطة والمؤسسة والمجتمع والفرد.
مفهوم الشيخ أو السيد هو امتداد ثقافي لمفهوم الرب..بيد أن الرب يستمد شرعيته بين عباده من كونه هو الخالق والمنظم والمسير للكون. الشيخ أو السيد في السياق المؤسساتي لا شرعية لسلطته ولا مبرر لتحركاته بكل هذه الحرية في أروقة المؤسسات. وإذا كانت المجتمعات قد قبلت بذلك لاعتباراتٍ ما، فعلى المؤسسة أن ترفض ذلك لاعتبارات أهم، خصوصاً في هذه المرحلة من التاريخ.