الطالبانيون العمانيون
ثورة الإصلاح الأخيرة التي أشعلها الشارع وتوّجها السلطان قابوس بحكمة لا تُضاهى طالت بعدين مهمين جدًا من أبعاد عمان: الاقتصاد والسياسة. بقي بعدٌ ثالث لا يقل عنهما أهمية ألا وهو البعد الثقافي: اللغة والدين والعادات والتقاليد والقيم وغيرها من النواحي الثقافية المادية وغير المادية. هذا مشروع إصلاحي أشد ولكن أبقى، وسأركز هنا على المنظومة الدينية عمومًا والمنظومة الرسمية خصوصًا.
هذه المنظومة لا تحاول فقط أن تقصي الديانات والمعتقدات الأخرى، ولا تحاول فقط أن تقصي المذاهب الإسلامية الأخرى، بل حاولت ونجحت إلى حدٍ كبير في إقصاء العقول المفكرة الحرة من أبناء جلدتها وأتباع مذهبها، لقد أقصتهم عن دوائر اتخاذ القرار وعن مراكز الوعظ والإرشاد وحجبت كتاباتهم وحاربت أفكارهم واتهمتهم بتهم خطيرة كالإلحاد وتعطيل السنة والأمركة والعمالة الصهيونية وغيرها من التهم الخطيرة التي كادت أن تؤدي إلى مقتلهم غيلة على أيدي متعصبين من أتباع المنظومة المهيمنة.
هذه المنظومة صادرت المذهب الإباضي بتاريخه التسامحي وتعدداته الفكرية، لتختصره في شكليات عقيمة كاللحية والإسبال والخمار ومصافحة المرأة وتحريم الموسيقى والنخامة وحلق العانة. هذه المنظومة "وهبنت"، إذا صح التعبير، المذهب الإباضي وجعلته تابعًا يمشي مغمض العينين إلى بؤر التخلف والقمع والكبت والرجعية.
هذه المنظومة، لو قُدر لها، ستحوّل عمان إلى طالبان أخرى: ستغلق البنوك والفنادق والمنتجعات السياحية وشركات التأمين والأسواق المالية والقنوات الفضائية، وستنادي بـ "محرم" مع كل ممرضة ومع كل طالبة ومعلمة وستحوّل النساء إلى أكياس قمامة متحركة لا تعرف قبلها من دبرها وستحول الرجال إلى لحي متهدلة وعقول منكفئة يأكلها الشك في كل شيء.
هذه المنظومة تريدها علمانية من حيث لا تدري ولكن بطريقتها هي: تريد أن تفصل الدين عن الدنيا؛ تريد أن تكون لها بنوكها الخاصة ومحطاتها الإعلامية الخاصة، وتريد أزياء مخصصة لها وحدها، وجامعات وأسواق وحتى مساجد لها بعيدًا عن مساجد "الضرار" التي تبنيها الدولة. وتريد أن تخرج "الكفار" والملحدين والمجوس والبوذيين من عمان ومن جزيرة العرب، وستُقصي، لو استطاعت، كل من يفكر في خلاف ما تفكر هي فيه.
من المؤسف أن هذه الفئات استقوت أكثر بعد أن ركبت موجة الإصلاح الأخيرة، فأصبح لها إصلاحها الذي لا يتجاوز ما ذكرته أعلاه، وأصبح لها دستورها وقياداتها التنظيمية. ومن أراد أن يشاهد تطاولهم فليذهب إلى ميدان الاعتصام أمام "الشورى" ويسمع خطبهم العصماء.
إذا كانت هذه الفئة مخلصة لوطنها محبة لسلطانها فعلى قياداتها العليا أن تخرج اليوم، وليس غدا، إلى وسائل الإعلام لا لتبث أجنداتها الإصلاحية الواهمة والأحادية التوّجه، ولكن لتقدم الشكر والولاء للسلطان على ما أنجز أولًا، ولتأمر المتحدثين باسمها والراكبين على موجاتها بالرجوع إلى بيوتهم وأعمالهم قبل أن تدخل البلاد في سلسلة صراعات لن تخرج منها قبل أجيال: صراعات مذهبية ومناطقية وقبلية ودينية-إلحادية.
أنا أشك بأنها ستخرج، فإذا كان ما نسمعه هو ما يقولونه في العلن، فالله وحده يعلم ما يقولون ويفعلون في السر.