استعارة المصير..مصير الاستعارة
في الرابع والعشرين من يونيو 2002 خرج جورج بوش على العالم باستعارة "خارطة الطريق" "Roadmap" التي أعدتها اللجنة الرباعية استنادًا إلى رؤيته هو، حلًا لما يُعرف بالصراع العربي الإسرائيلي الذي كان موعده العام 2005 حسب الخارطة...
من يومها انتشرت استعارة الخارطة في الإعلام العالمي وفي أروقة الأمم المتحدة وعلى طاولات المفاوضات انتشار النار في الهشيم، وكبرت واستعظمت. ولكن، بعد سنوات عجافٍ خبت واندحرت ولم يبق إلا رمادها الذي بعثرته المستوطنات ودبابات الغزاة والصراع الفلسطيني الفلسطيني والانحياز الأمريكي المطلق لإسرائيل والغيبوبة العربية و"عدم الانحياز" العربي في أزمنة الانحياز.
لماذا فشلت "استعارة" خارطة الطريق ولماذا فشلت "خارطة الطريق"؟
الأولى فشلت لأنها مجرد استعارة منزوعة من سياقها والثانية فشلت لأنه لا طريق ولا خارطة ولا أرض تٌبنى عليها طريق كي تكون لها خارطة.
كيف يسمونه "صراعًا" ثم يضعون له خارطة طريق؟ من سمع بخارطة طريق تُوضع لمتصارعيْن أو متحاربين؟ في الأصل: إذا كانا يستطيعان السير وفق خارطة طريق محددة سلفًا، فلن يكون هناك صراع.
من عاش يومًا في مدينة يدرك بأن خارطة الطريق ليست هي المدينة وليست المسافات وليست الاتجاهات وليست الوجهات أو الأماكن. الخارطة لا تخلق الأماكن والأبعاد من عدم كما حاولت خارطة الطريق الأمريكية: هي إسقاط لأبعاد وأماكن موجودة سلفًا. وحين لا تكون لك وجهة محددة فلن تنفعك أية خارطة في العالم.
ومن عاش يومًا في صحراء يدرك بأن ما كل يحتاجه للخروج منها هو بوصلة تحدد الاتجاهات، إذ لا خرائط طرق على رمال متحركة.
ما هي الاستعارة البديلة؟
لماذا لا نجرب استعارة الحبس أو السجن؟
عدوان لدودان وجدا نفسيهما سجينين في زنزانة واحدة. كلاهما يفكر بالانعتاق أو البحث عن وسائل للتعايش السلمي.
أرى استعارة الحبس من أقرب الاستعارات لتوصيف الوضع، لكنها من أصعبها في ظل غياب توازن القوى بين الطرفين وانحياز أطراف خارجية لأحدهما على حساب الآخر.
أهمية الاستعارة أنها تعمل على مستويين: الذهن واللغة. وتكمن مشكلتنا معها في عدم القدرة على استقراء الإسقاط الذي تحدثه حينما تنقل أشياء من المجال المصدر غلى المجال الهدف وتترك أشياء أخرى ورائها.
الاستعارة بطبيعتها مُضللّة ومبتورة ولا يستقيم استقرائها إلا بالولوج إلى عقلية قائلها ونفسيته واستحضار سياقها لفظًا ومعنىً. فلو قال لك قائل: "فلان ساعة رولكس"، فإنك سوف تستحضر معاني كثيرة منها الدقة والفخامة والانضباط والرقي وغيرها... ولكن ماذا لو أضاف القائل بعدها: "لا يُقدم ولا يؤخر"؟
مرسلة بواسطة التاريخ في 11:26 ص هناك تعليقان (2): روابط هذه الرسالة
السبت، مارس 12، 2011
الإسلام هو الحل
نعم. بهذه المقولة البديهية للبعض والمستحيلة للبعض الآخر أبدأ..
الإسلام، بخلاف الديانات الأخرى، من أكثر الأبعاد الثقافية حضورًا في المجتمع العماني، بل يمكن القول بأن الإسلام هو الأساس وهو الباني ومادة البناء الأهم إن لم يكن الأوحد لبقية الأبعاد الثقافية المادية وغير المادية. حول الإسلام تتمحور الهوية العمانية، والقيم والأخلاق والعادات والتقاليد. والإسلام ينسج اللغة ويعيد بناء قواعدها ودلالات ألفاظها، ويضع الموازين والمقاييس في قضاياها الشعرية والنثرية. وحول الإسلام يتشكل المعمار وتُخطط المدن. والإسلام ينسج أزياء الإنسان العماني ويلونها: ماذا يلبس وكيف يلبس ومتى يلبس. والإسلام يُعد مطاعم المسلمين ومشاربهم: ماذا ومتى وكيف وكم نأكل ونشرب. والإسلام هو الضابط الأمهر لساعة المسلم البيولوجية: فهو يحدد متى ينام المسلم وكيف وأين وكم ينام. والإسلام يضع المحددات الأخلاقية والزمانية والمكانية للأحوال المدنية وهو يحدد الكيف والكم في كافة العلاقات البشرية الأخرى. الإسلام، بخلاف الديانات الأخرى، يحدد كيف يمشى الإنسان وكيف يجلس وكيف يضاجع زوجه وكيف يدخل الخلاء ويخرج منه. باختصار: الإسلام يقرر كيف يولد الإنسان وكيف يعيش وكيف يموت وكيف يبعث حيا.
من هذا المنطلق وبهذا الاستعراض الموجز لتغلغل الإسلام في نسيج المجتمعات الإسلامية عمومًا، يمكن القول بأن الإسلام هو الحل، وإن إن ليمكن كذلك فإنه سيصبح هو المشكلة. لا مفر من الأمر، فالإسلام لا يمكن تجاهله كما لا يمكن كذلك تأبطه جزافًا ليستخدمه المرء متى وكيف شاء.
السؤال المهم هنا هو: عن أي إسلام نتحدث؟ هل عن إسلام القرون الأولى أم إسلام اليوم؟ هل عن النسخة الإباضية أم السنية أم الشيعية؟ وعن أي حلول نبحث؟ هل عن الحلول الطالبانية أو العراقية أو اللبنانية أو الماليزية مثلًا؟ نحن في أمس الحاجة في عمان للسؤال عن هذا الإسلام المتناثر بين الأمس واليوم وعن دمه المتفرق بين الطوائف والملل. ونحن في أمس الحاجة لهذه الأسئلة في هذه المرحلة العمانية الحرجة سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا.
لقد ساهمت القراءات المتعددة للإسلام والتباينات المذهبية في صنع سياسة عمان واقتصادها واجتماعها في الأربعين سنة المنصرمة. ومن أبز الأمثلة على ذلك أحداث 1994 وأحداث 2005 التي كانت تحت تأثير قراءات مغايرة للإسلام ونسخ متعددة له. ومن الأمثلة الاقتصادية والاجتماعية غير المباشرة، والأكثر خطورة ربما، تحريم بعض علماء المذهب الإباضي وعلى رأسهم المفتي العام لبعض التعاملات الاقتصادية. فعلى إثر فتوى كهذه عزف الكثير من العمانيين الإباضية عن الكثير من المعاملات الاقتصادية، وكانت المحصلة أن ثروة العديد من القطاعات تكدست في حسابات فئة من العمانيين من أهل المذاهب الأخرى التي لا تحرّم هذه التعاملات. من تلك القطاعات، مثلًا، قطاع البنوك والـتأمين والسياحة والاتصالات. هكذا وفي لحظة غفلة انقسمت عمان سياسيًا واقتصاديًا إلى قسمين: قسمُ يتولى المناصب التي تسمى تجاوزًا سياسية وأمنية، وقسم يتولى المناصب الاقتصادية والمالية، وانسحب ذلك الانقسام العبثي على كل القطاعات وحتى داخل المؤسسة الواحدة: لتجد بأن من يتولى المناصب الاقتصادية والمالية داخل معظم المؤسسات هم من أتباع مذهب دون آخر. ذلك بدوره فتح قنوات سرية تحت غفلة الرقابة المذهبية والسياسية بين الفئتين لتستنفع كل فئة من أختها، وخلخل البنية الاجتماعية والاقتصادية العمانية، واستشرى الفساد والحقد والغل بين الطوائف وقاد بدوره إلى ثورة الذين ثاروا على الجهازين في البلاد.
من منطلق "الإسلام هو الحل" شاء من شاء وأبى من أبى، أرى بأن الإصلاحات السياسية والاقتصادية الأخير لا تكفي، وبأنه قد آن الأوان لإعادة بناء المنظومة الدينية والاجتماعية في البلاد بناءً مغايرًا عما كانت عليه، فالبناء القديم ساهم مساهمة خفيّة ولكن فاعلة فيما آلت إليه الأوضاع في المرحلة المنصرمة، وسيبقى مساهمًا وفاعلًا في المراحل القادمة بخيرها وشرها. الغاية الرئيسة من البناء المقترح هي توحيد النسيج الاجتماعي والثقافي الذي ترتكز عليه البلاد، والأهم من ذلك استبدال دين مُسيّس علنًا بدين مسيس سرًا (علمًا بأن الباء تدخل على المتروك). وبالرغم من أن المقام لا يتسع هنا لطرح مشروع تغييري متكامل، أرى بأن تكون الخطوة الأولى لمشروع كهذا هي إعادة بناء منظومة الإفتاء في البلاد.
أرى أن تتشكل هيئة وطنية للإفتاء تضم نخبة منتقاة بعناية تمثل كل المذاهب الإسلامية في عمان بالإضافة، وهذا هو الأهم، إلى نخبة من العلماء المتخصصين في السياسة والاقتصاد والاجتماع والفلسفة وعلم النفس والعلوم الطبيعية كالطب والفيزياء والفلك، على أن تُبنى هذه الهيئة في إطار يمكنها من تحقيق حزمة من الاستراتيجيات على رأسها:
1. إيجاد صياغة دينية مشتركة للحراك الثقافي والسياسي والاقتصادي في عمان، والكف عن الحلول الرومانسية الحالمة المطروحة حاليًا في السياسة والاقتصاد من فئة كانت أول من استنفع واستقوى من الوضع السياسي والاجتماعي السابق، ليتركوا أتباعهم يحيون حياة الكبت والكفاف.
2. تعزيز دور القانون واحترام البنود والمواثيق والكف عن ممارسة دور الوصاية الأبوية تحت اسم الإسلام والحلال والحرام، والكف عن استخدام مقدرات الدولة المالية كالإعلام في تمرير أجندات مذهبية أيديولوجية غابرة.
3. إرجاع الدين من غيبته وغيبوبته إلى الواقع اليومي والمعاش الذي يمس الإنسان بشكل مباشر؛ على أعضاء هذه الهيئة الخروج بناء من سقيفة بني ساعدة وموقعة الجمل والنهروان، وعليهم الكف عن محاسبة الناس على ما فعله علي ومعاوية وفاطمة وعائشة، كما عليهم الكف عن القفز بنا فوق الآن وهنا إلى عذاب القبر وأهوال يوم القيامة.
4. إيجاد صياغة توافقية مع معطيات التقدم العلمي والتكنولوجي والتوقف عن الحلول المعلبة والأطروحات البايتة فيما يُسمى بالإعجاز العلمي في القرآن والسنة، واحترام العلم الحديث وتثمين منجزاته والاستفادة منها وفق إطار تربوي أخلاقي متفق عليه. فمثلًا عليهم محاربة الخرافات والبدع التي تحدث تحت مسميات دينية كالطب النبوي والعلاج وبالقرآن.
5. إيجاد صياغات توافقية تعاونية مع معطيات الحضارة العالمية وعلى رأسها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وكذلك مع معطيات الثقافات والأديان الأخرى، ونبذ العنصرية والجهوية والفئوية والتمييز ضد المرأة تحت شعارات الدين.
6. إعادة صياغة المواطن ومفهوم المواطَنة ولغة الوطن بعيدًا عن مظلة المذهب أو القبيلة، وتعزيز الفردانية والحرية الشخصية في المأكل والمشرب والملبس والعلاقات الاجتماعية.
7. تكريس حب العمل واحترامه والإعلاء من شأنه بعيدًا عن اللحية و الدشداشة والعمامة، وجعل الإنتاج بكمه ونوعه هو المقياس الأول لكفاءة الفرد ولما يستحقه من مكانة اقتصادية ومؤسساتية.
8. التوقف عن عزل الدين عن الدنيا بالدعوة إلى إعلام خاص بفئات دينية بعينها وأزياء وفنادق وبنوك وشركات تأمين ومنتجعات سياحية.
على الدولة أن تضع مثل هذه الاستراتيجيات بآجال متفق عليها وأن تتابع تطبيقها على أرض الواقع كما تتابع برامج وخطط أي مؤسسة حكومية أخرى مصروف عليها من موازنة الدولة.
على هذه الدولة أن تدرك بأن الإسلام إما أن يكون جزءًا من الحل أو جزءًا من المشكلة. وعليها أن تدرك بأن تغيير القوى الاقتصادية والأمنية والسياسية وحده لا يكفي. هناك قوى دينية ثقافية تعمل في الخفاء وفق أجندات خاصة ونوايا خاصة حتى لو لم نتفق على سوؤها فسنتفق على أنها لا تتوافق مع معطيات المرحلة. كما أن عليها أن تدرك بأن هناك طاقات دينية وثقافية قادرة على تنفيذ الاستراتيجيات أعلاه ولكنها معطلة ومهيمن عليها..