حياكم الله ُ جميعا ً
لكم يسعدني أن أكون من بين المشاركين والمساهمين في اثراء محاور مواضيع شؤون قانونية حول مواضيعه ِ الهادفة
باعتبارها تشكل منطلقا ؛
لتحديث منظومتنا القضائية وتحظى بتتبع واهتمام بالغين من لدن الفاعلين والمهتمين بهذا المجال
لاشك في أن إرساء دعائم دولة الحق والقانون يستلزم توفير الآليات الكفيلة بتحقيق العدالة والمساواة واحترام الحقوق
والحريات.
ومن بين الآليات المطروحة في هذا السياق، الآليات القانونية التي تنظم العلاقات الاجتماعية بين الأفراد من جهة وبين الأفراد
والمؤسسات ؛
من جهة أخرى. ولعل أهمها وأكثرها جدلا، القانون الجنائي في مفهومه الواسع باعتباره القانون الأكثر مساسا بالحريات التي تشكل محورا
ًأساسيا
لضمان حقوق الإنسان وتمكينه من ممارسة هذه الحقوق. من هنا تأتي أهمية مناقشة بعض جوانب هذا القانون
وملاءمته مع المستجدات الطارئة،
لإحاطته بالضمانات الكفيلة بتفعيله على نحو يضمن تحقيق مصلحة الفرد والمجتمع على السواء.
وثمة تساؤل ظل يفرض نفسه في سياق إثارة المناقشة بشأن هذا القانون حول ما إذا كانت بنوده تتضمن مقتضيات
تناسب التوجه القائم بشأن الحد من تفاقم الجريمة وفق أسلوب يروم إصلاح الجاني وتوفير سبل إعادة إدماجه.
وفي هذا الصدد، وفي ظل الصعوبة التي تطرح على مستوى تحديد معدل الجريمة كأحد المؤشرات القوية عن مدى
فعالية السياسة العقابية ؛
الراهنة بفعل تنوع وتداخل الأسباب المؤدية للجريمة واختلاف وتباين الوسائل والآليات المتبعة لرصدها، كما تدل على
ذلك الأبحاث العلمية التي أجريت بطروحاتي السابقة .
موضوع ُ اليوم بمشيئة الله متجددا ً بحيث ُ محتواه
تقبوا فائق َ تقديري واحترامي
سيادة القانون وإقامة العدل وترسيخ دولة المؤسسات، إلا بإحكام استقلاله ونزاهته من خلال عدم تدخل السلطة التنفيذية في اختصاصه وعدم
توجيه أو تعطيل مساره، فإنه على أرض الواقع المعيش غير ذلك. إذ أن القضاء مازال لم يرق بعد لتشكيل سلطة ثالثة، اعتبارا للوصاية المعلنة
أحيانا والمستترة تارة أخرى، والتي ما زالت تجعله قاصرا ليرسخ استقلاله كاملا غير منقوص؛ فحتى الدساتير المغربية لم تنص، ولو شكليا
على أن القضاء سلطة على نفس الدرجة من السلطتين التشريعية والتنفيذية. وبذلك كان من السهل بمكان أن يستعمل الجهاز القضائي كآلية
قمع، وليس كسلطة تتوخى اعتماد العدل والإنصاف خصوصا في سنوات الجمر والرصاص.
لقد نص الدستور المغربي على مجموعة من المقتضيات المرتبطة بتحقيق النزاهة والاستقلالية لكنها ظلت مجرد عبارات جاءت في ديباجة لما
يعتبر أسمى قانون. على أرض الواقع الفعلي ظل القضاء بعيدا عن تحقيق الغايات المتوخاة منه في إقامة العدل النزيه الضامن لحقوق
المواطنين، وبعيدا عن ضمان قوته ومناعته وترسيخ قناعته. وفي هذا الصدد لا زال الكثير من العارفين بحقائق الأمور، يقرون بسيادة الخوف
في صفوف القضاة المغاربة.
بالرجوع إلى نص الدستور نلاحظ التنصيص على أن القضاء مستقل عن الجهاز التشريعي والتنفيذي. لكن عندما نمحص الأمر على أرض
الواقع، نعاين أن المجلس الأعلى للقضاء يترأسه الملك، وفي حالة عدم حضور الملك يترأسه وزير العدل. بذلك تكون السلطة التنفيذية هي التي
تترأس الجهاز الذي أنيطت به مسؤولية الحرص على استقلالية القضاء وضمانتها. هذا علاوة على صلاحيات الوزير في مجال التحكم في
مشوار القضاة الوظيفي، وهو وضع ينال من مبدأ استقلال القضاء. وفي نظر جمعية "ترانسبرانسي"، لا زال القضاء المغربي غير مستقل في
الواقع رغم حديث الدستور عن استقلال هذا القطاع الحيوي الحساس. فكيف للقضاء أن يكون مستقلا وليس له ميزانية مستقلة، حيث أن
ميزانيته جزء من ميزانية وزارة العدل؟ كما أن القضاة المغاربة هم موظفون تابعون لوزارة العدل يرتبطون بها ارتباطا تسلسليا وعضويا،
والقضاء المغربي لا زال يشكو من غياب قانون خاص بالأخلاقيات القضائية. ولازالت التعليمات تفعل فعلها في قضائنا، وهذا أمر قائم لا يمكن
إخفاؤه، كما أن هناك بعض القضاة الذين لا تصلهم تعليمات واضحة، وإنما مجرد إشارات يؤولونها ويفهمونها بشكل يؤدي بهم إلى الانحياز
إلى الجهة الصادرة عنها.
ومن الأمور التي تبين عدم استقلال القضاء المغربي، كون قضاة النيابة العامة يخضعون للتعليمات، أما قضاة التحقيق فلا يتوفرون على أدنى
استقلالية بقوة النصوص الجاري بها العمل. كما أن تعيينهم وإعفاءهم يتم بقرار من وزير العدل، بدل المجلس الأعلى للقضاء. بل أكثر من
هذا فإن النيابة العامة هي التي تعين من يحقق في كل قضية، فكيف للقضاء المغربي أن يكون مستقلا وقضاة النيابة العامة وقضاة التحقيق
مُتَحَكّم فيهم وغير مستقلين؟ إذ في نهاية المطاف يعملون كآلة لتنفيذ التعليمات، وهو ما يمكن ملاحظته في الكثير من القضايا.
ومهما يكن من أمر، وبالرغم من ظروف العمل غير المناسبة وقلة الإمكانات وتراكم الملفات، وبالرغم من تدخل جهات وصدور تعليمات مباشرة
وغير مباشرة، وبالرغم من الضغوطات، هناك بعض القضاة، وهم قلة، حاولوا أن يظلوا نزهاء ومستقلين نسبيا، وإن دل هذا على شيء فإنه
يدل على أن استقلال القضاء يظل مرتبطا أولا بالضمير وبالقناعة الذاتية للقاضي.
وفي انتظار تحقيق استقلال القضاء، سيظل القضاة خاضعين لرحمة السلطة التنفيذية، وأقصى ما يمكن أن يقوموا به هو محاولة تصريف
مشاكلهم بطريقة سلمية والبحث عن حلول هامشية، وهذا أمر أقره بعضهم.
نزاهة القضاء المغربي والثقة به
هناك جملة من الأصوات من مختلف الأوساط، بما فيها أوساط القضاة والمحامين، تشكك بوضوح في نزاهة قضائنا، إذ أعلنت عن عدم ثقتها
بجملة من القضاة، مما يستوجب طرح السؤال:هل يمكن شراء الأحكام في المغرب؟ سؤال أجاب عنه المغاربة بدون تردد انطلاقا من معاينتهم
للواقع المعيش؛ فالكل يعلم أن الرشوة والفساد متفشيان في جسم القضاء المغربي بدءا بالمرافق الإدارية والقضائية، بما في ذلك الشرطة
القضائية وغيرها من المحطات وصولا إلى القضاء الجالس، حيث أضحى الفساد عموما ظاهرة جوهرية ومركزية في
أزمة القضاء المغربي، أراد من أراد وكره من كره.
كيف يمكن ترسيخ نزاهة القضاء المغربي وإعادة الثقة به، والبلاد لا تزال تشكو من غياب تعميم الأخلاق المهنية، وأجواء الوضوح والشفافية،
بدءا بقواعد التعامل والمسؤوليات ومتابعة تناسق القوانين وملاءمتها للمحيط الاجتماعي والاقتصادي والثقافي؟
إن ثقة المواطنين بالقضاء لا يمكنها أن تتحقق إلا من خلال برهنة القضاة أنفسهم على تجردهم ونزاهتهم واستقامتهم واستقلالهم عن أي تدخل
أو تأثير وتعاليهم عن الرشوة وبيع الذمم. وحين يفقد المواطن ثقته بالعدالة يتعرض جهاز الدولة كما تتعرض آليات النظام، لمختلف الأهوال
والأخطار. وفي هذا الصدد قيل يوما لونستون تشيرشيل، رئيس وزراء بريطانيا، بأن الفساد ضرب أطنابه في أجهزة الحكومة والإدارة
البريطانية، فسأل: وكيف حال القضاء عندنا؟ فقيل له: القضاء البريطاني ممتاز جدا، فقال: إذن لا خوف على بريطانيا. وفعلا فلا خوف على
بلاد بها قضاء نزيه ومستقل. فهل يعني هذا أن نتخوف نحن المغاربة اعتبارا للحالة التي وصل إليها القضاء عندنا؟
إن القضاء لا يمكنه أن يحقق المكانة الجديرة به، إن هو لم يحظ بثقة المواطنين عامة وثقة المتقاضين خاصة. وثقة هؤلاء وأولئك لن تتحقق
إلا من خلال برهنة القضاة أنفسهم على استقامتهم ونزاهتهم. ومن أجل معرفة الرأي السائد بين المتقاضين، حاولنا استقصاء بعض الآراء
بجملة من المحاكم سواء الابتدائية أو محاكم الاستئناف، وقد قادتنا المغامرة إلى مساءلة متقاضين بمحاكم الدار البيضاء والرباط والقنيطرة
ومراكش وفاس ومكناس وسلا وطنجة وتطوان وسيدي سليمان وسوق الأربعاء الغرب، وكان السؤال الإشكالية : هل تثق بالقاضي الذي يشرف
على قضيتك؟ وكانت الحصيلة أن أكثر من 82 بالمائة من الأجوبة تفيد أن الحسم في الملفات يتم خارج الجلسات وعبر وسائط، وأن الأحكام
تباع لمن يدفع أكثر، كما أن أكثر من 73 في المائة من المستجوبين أكدوا أن فحوى ما يدور بالجلسات العلنية، غير مقنع ولا يشجع على
الإقرار بالثقة في القضاء المغربي. في حين أكد ما يناهز 60 في المائة أن المرء يشعر بالخوف أمام القاضي، لأنه يرهبه ويقمعه ولا يوفر له
الفرصة للدفاع عن نفسه، ومهما قال فلن يغير في الأمر شيئا. "المغرق" (النيابة العامة) هو صاحب كلمة الفصل، فمهما تكلم المحامي ودافع
وتدخل، تبقى كلمة "المغرق" هي العليا على الدوام، وهذا أمر كاد أن يجمع عليه المستجوبون.
تلك بعض آراء المتقاضين، بخصوص ثقتهم بالقضاء، وقد لا تعكس كل الحقيقة، لكنها تسير على درب اعتقاد العموم السائد في صفوف أغلبية
المغاربة.
القضاء والرشوة
لا جدال حول وجوب تمكين القاضي من جميع الإمكانات التي تصون كرامته، لكن لا جدال كذلك في كون أن داء الرشوة متفشي بشكل مهول في
الجسم القضائي ومدى الابتذال الذي وصلت إليه. فالقاضي يسهر على تطبيق القانون وتفعيله. وهو إنسان يعيش في بيئة سياسية اجتماعية
وثقافية واقتصادية معينة، وفي مجتمع لازال فيه نفوذ السلطة والثروة يفعل فعله في مختلف المجالات، ومن ضمنها القضاء. وبالرغم أنه لا
يمكن التعميم، إلا أن القاضي بالمغرب، كموظف، مازال مرتبطا في ذهن أغلب المغاربة بالرشوة، وظل سائدا أن "التدويرة" هي سيدة الموقف في
مراحل المحاكمة وصولا إلى إصدار الحكم؛ وهذا أمر جرى به العمل على أكثر من مستوى حسب القضايا المعروضة والحالات، إلى درجة أن
هناك جملة من الأشخاص، رغم أن الحق، كل الحق معهم، أكرهوا على أداء رشاوي حتى لا يضيع حقهم، وهذا أمر أخطر من حالة أداء
الرشوة للتخفيف من العقاب أو الإفلات منه.
وعموما فإن تفشي الرشوة في مختلف ميادين القضاء بلغ درجة مخيفة، أضحت معها الرشوة ممارسة معروفة ومعمول بها، بل لغة يومية
للتواصل في رحاب المحاكم المغربية.
ومن السهل بمكان الوقوف على ظاهرة رشوة القضاة إن حضرت الإرادة والرغبة في ذلك. فقد يكفي تتبع مسار حياتهم وتقييم ثرواتهم، على
اعتبار أن لا حق لهم في ممارسة أي نشاط بأجر أو بدونه (باستثناء التعليم لكن برخصة وبعلم الإدارة). كما أنه إذا كان زوج القاضي يمارس
نشاطا خاصا بمقابل، وجب عليه التصريح بما تملكه الزوجة والأبناء القاصرين والإعلام بكل جديد ومستجد بخصوص وضعيته المالية.
لكن مع الأسف ظلت هذه الإجراءات، حبرا على ورق لم يسبق تفعيلها إلا في حالات نادرة جدا على الرغم من العلم بأمر الثروات الهائلة
والثراء الفاحش لبعض القضاة، الذين لم يكونوا يملكون شيئا قبل مزاولة هذه المهنة، وأصبحوا بين عشية وضحاها من أصحاب الضيعات
والعمارات والعقارات والحسابات البنكية الممتلئة حد التخمة.
وما دامت الرشوة تنخر جسم جهازنا القضائي، فلا يمكن أن يكون محط ثقة المواطنين، ولا يمكن أن يكون نزيها ومستقلا وذي مصداقية حتى
ولو كانت بعض أحكامه عادلة ومنصفة. لأن سيادة الرشوة تعني شيئا واحدا لا ثاني له، الحكم دائما لصالح من له القدرة على منح المزيد من
المال، علما، وهذا أمر لا داعي لبرهنته، أن البلاد تتوفر على قضاة نزيهين يشهد لهم الجميع بالاستقامة والنزاهة.
ففي سنة 2001 كان 62 بالمائة من المغاربة يقرون بأن الرشوة عملية عادية في القضاء المغربي، أما في سنة 2003 فقد قفزت هذه النسبة
إلى 73 بالمائة، وقاربت 80 بالمائة سنة 2005.
وكما أن هناك قضاة مرتشون، فهناك محامون يلعبون دورا كبيرا في تعميم آفة الرشوة وترسيخها، بل أكثر من ذلك إن منهم من دأب على نقل
هذه العدوى إلى بعض القضاة، الذين بدأوا عملهم بنزاهة. ويعتقد الكثيرون أن الرشوة في مجال القضاء ليست مرتبطة فقط بالعامل الاقتصادي
والاجتماعي، وإنما هي مرتبطة كذلك بالاستقامة الأخلاقية والعقلية السائدة في المجتمع.
وخلاصة القول، إن الرشوة ساهمت ولا تزال في الظلم والعدوان وهدر كرامة الإنسان، لما يترتب عليها من ضياع للحقوق وهضمها، تكفي
الإشارة للتنافس الغريب حول بعض القضاة وراء القضايا التي تذر عليهم الأموال الطائلة، حتى أضحى قانون المال هو السائد، ومن الطبيعي
إذن أن تستفحل الرشوة بشكل مهول في مجتمعنا، باعتبار أن الجهاز الموكول له محاربتها هو نفسه أكبر المرتشين بالبلاد.
وضعية القاضي
من المعروف أن استقامة ونزاهة واستقلالية القاضي، لا تلقن في المعهد العالي للقضاء، وإنما تكتسب يوما بعد يوم باتخاذ القرار العادل
باستقلالية تامة، يكون أثرها ملموسا على أرض الواقع ويعاينه المواطن ويشعر به، كما تظهر تلك الاستقامة والنزاهة في الاستقلالية في درجة
ثقة المغاربة بـ " قضائهم". لكن هل وضعية القاضي المغربي وظروفه تساعده على الاستقامة والنزاهة والاستقلالية؟
إن النظام الأساسي لرجال القضاء بالمغرب صيغ في مرحلة تميزت بظروف سياسية استثنائية عاشها المغرب بعد فشل المحاولتين الانقلابيتين،
وبالضبط بعد فشل مؤامرة 1973، آنذاك تم لجم القضاء المغربي، إذ أعطى قانون النظام الأساسي لرجال القضاء للسلطة التنفيذية، عبر وزير
العدل، سلطات واسعة للتحكم في القضاة، فيما يخص التنقيل والتوقيف والانتداب والعزل، أي التحكم في رقابهم؛ آنذاك تم الإقرار عمليا بإقبار
مبدأ استقلالية القضاء المغربي، وزاد الطين بلة عندما تحكم النظام الداخلي للمجلس الأعلى للقضاء في المشوار الوظيفي للقضاة وترقيتهم.
فوزير العدل بفعل قيامه بالنيابة عن الملك في رئاسة المجلس الأعلى للقضاء، يتحكم في رقاب القضاة، خصوصا وأن الترقية أو العقاب أو
النقل، كلها أمور تتخذ بظهير، فهل يمكن مناقشة ظهير؟ هنا تكمن قوة وزير العدل وهيمنته.
فالقاضي المغربي مطوق من جميع الجهات، حتى في حياته اليومية. فهناك جملة من الدوريات أعدها وزير العدل حذر فيها القضاة من مغبة
مشاركتهم في أي نشاط ثقافي أو فكري أو إعلامي أو إشعاعي دون إخبار الوزارة وأخذ إذن صريح منها، ويبدو أن وزير العدل ظل حريصا
على عدم استغلال أي منفذ لانفتاح القضاء على محيطه، لكي لا تكشف حقيقته من الداخل ومن طرف أهله، لا سيما أن هناك جهات لا تريد
للقضاء المغربي أن يستقل فعلا ويصبح سلطة قائمة بذاتها، خلافا لما يقال ويتم الترويج له، ومما جاء في ذلك حسب جملة من القضاة، أن
الترقية في صفوفهم ظلت خاضعة بالأساس لاستعدادهم إلى التعامل مع التعليمات وطريقة تصريفها، حسب ما تريد أن تؤكده مصادرها. وهذا
أمر لا يخفيه القضاة رغم ثورة وزير العدل بهذا الخصوص أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة، وهي حقيقة قائمة شاء من شاء وكره من كره.
ويرى البعض أن إمكانية تنقيط القضاة من طرف جهة تابعة للسلطة التنفيذية، يضرب في الصميم استقلال
القضاء. وحسب العارفين بخبايا الأمور أن رجل الظل الذي له أكبر التأثير في هذا المجال، هو مدير ديوان وزير العدل، الذي يسعى قضاة
المغرب كسب وده، لأنه الجسر الوحيد المؤدي إلى تحقيق هذا المنال. أما فيما يتعلق بأجور القضاة، فإنه لم يتم تعديلها إلا بمناسبة تعديل
الملك الحسن الثاني لأجور رجال السلطة الترابية، فبعدما كانت أجور القضاة تتراوح ما بين 4000 و 7000 درهما شهريا وصلت إلى ما بين
6000 و 17 ألف درهم، ويصل أجر القاضي من الدرجة الأولى الآن إلى 20 ألف درهم وقاضي الدرجة الاستثنائية إلى 30 ألف درهم شهريا،
وكل هذا يظل رهين التنقيط الذي تتحكم فيه الإدارة المركزية وبالاستجابة للتعليمات، وذلك بشهادة جملة من القضاة أنفسهم. وطبعا لا يمكن
وضع كل القضاة المغاربة في سلة واحدة، فأكثرهم غاضبون من هذا الوضع لكنهم خائفون؛ ومهما يكن من أمر، تبقى الوضعية المادية للقضاة
بيد السلطة التنفيذية وهو ما لا يتماشى مع ضمان الاستقلالية.
مازال القضاء لم يرق عندنا إلى سلطة
من الأمور التي تعرقل استقلالية القضاء بالمغرب، كونه مازال لم يرق إلى سلطة. فمازال المغرب لا يعتبر قضاءه سلطة وإنما مجرد وظيفة.
فالفصل 82 من الدستور يكتفي بالتنصيص على أن " القضاء مستقل عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية". وهذا بالرغم من أن ديباجة
الدستور المغربي، تؤكد على أن المملكة المغربية تتعهد بالتزام ما تقتضيه المواثيق الدولية من مبادئ وحقوق وواجبات. ومن هذه المبادئ أن
الدولة تكفل استقلال السلطة القضائية وضرورة تنصيص دستور البلاد على ذلك وكذا مختلف قوانينه. ولا زال المغاربة في انتظار التنصيص
على كون القضاء سلطة وليس مجرد وظيفة، أي سلطة قائمة الذات، علما أن هذا يستوجب تعديلا للدستور الحالي، الذي لا يتكلم سوى عن
السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، وعن قضاء لم يرق بعد إلى مستوى السلطة.
التدخل في شؤون القضاء
إن التدخل في شؤون القضاء مازال واردا، كما أن للتعليمات تأثير، وغالبا ما تمر عبر القائمين على مديريات وزارة العدل وبعض
المستشارين، وغالبا ما تكون شفوية عبر الهاتف أو في لقاءات مباشرة خاصة، وحجم التدخلات يكون حسب القضية وأطراف النزاع وطبيعة
القضية وصفة أحد طرفيها.
وعموما، هناك قاعدة قائمة لا يختلف حولها اثنان بالمغرب، أراد من أراد ورفض من رفض، وهي أن القضايا والملفات ذات الطبيعة السياسية
تسند إلى قضاة مقربين للسلطة ويحظون برضاها، ويكفي الرجوع إلى المحاكمات السياسية الرائجة للتيقن من الأمر بما لا يخامر المرء أدنى
شك، والقاعدة بالنسبة للقضايا الكبرى هي استحالة تكليف قاض- بقضية- لا يمكن التحكم فيه، هذا هو الرأي الغالب عند المحللين والمتتبعين
والمعنيين بتلك المحاكمات.
ومن أساليب التدخل المتداولة سحب ملف قضية من يد قاض لتسليمه لآخر، وهناك جملة من الأمثلة بهذا الخصوص، أهمها ملف أحداث 16
ماي الذي سحب من يد القاضي مصطفى فارس لتسليمه لآخر. ومما يسهل مثل هذه العمليات التدخلية أن السلطة التنفيذية تتحكم بيد من حديد
في المشوار الوظيفي للقاضي منذ اجتيازه لمباراة المعهد العالي للقضاء إلى تحديد أماكن الترفيه والاصطياف.
ومن الطرق المتبعة في الضغط، النقل والترقية، فإذا كان القضاة المصنفون بعدم ولائهم للإدارة تتم ترقيتهم بطريقة عادية، إن توفرت الفرصة
(أي بعد قضاء 10 سنوات داخل كل درجة)، فإن القضاة الموالين يترقون كل خمس سنوات، حسب ما أدلى به لنا أحد القضاة المتقاعدين.
الفصل والانتداب سلاح فتاك بيد وزير العدل
إذا كان الفصل 83 من الدستور المغربي، يقر بأنه لا يعزل قضاة الأحكام ولا ينقلون إلا بمقتضى القانون، وهذا ما يؤكده كذلك الفصل 69 من
النظام الأساسي لرجال القضاء، فإن المشرع المغربي أدخله بطريقة ذكية .