المبحث الرابع
في المحرمات من النساء
1 - أدلَّة التحريم.
2 - حِكمه بصفة عامة.
3 - تقسيم.
سَبَق أنْ أشرْنا إلى أنَّه من شروط انعقاد الزواج: ألاَّ تكون المرأة محرَّمة على الرجل تحريمًا مؤبَّدًا، ومهدنا هنالك بأنَّنا سوف نقوم بدراسة هذا الشَّرْط في موضعه المناسِب، وهو المبحث الخاص بدِراسة المحرَّمات من النساء.
أدلة التحريم:
الدليل الرئيس في هذا الموضوع هو نصُّ القرآن الكريم، حيث يقول الله - تبارك وتعالى -: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 23].
هذا هو النصُّ الرئيس الوارد في هذا الموضوع، وهنالك نصوصٌ أخرى وردتْ في بعض المحرَّمات؛ بيانًا لنصوص القرآن الكريم، سوف نُشير إليها أثناء دراستنا لكلِّ نوع من أنواع المحرَّمات.
حكمة التحريم بصفة عامة:
وعلى الرغم مِن أنَّ النصوص الكريمة لم تُشِرْ إلى الحكمة من التحريم، فإنَّ المؤمن الحق عليه أن يُسلِّم بأن اختيار الله - تعالى - وراءَه حِكمة، ولا بدَّ فيه من مصلحة، وسواء علِمْنا أو جهلنا، فإنَّ هذا لا يؤثِّر في الأمر شيئًا، ولا ينقص من وجوب الطاعة والتنفيذ، مع الرِّضا والقَبول.
ومع ذلك فإنَّ العقول البشرية إذ تبحث عن هذه الحِكم، فإنها قد تصل إلى بعضها في عصْر من العصور، وقد يتوصل العلم التجريبي إلى حِكم وعِلل أخرى، فلا تزال آياتُ الله تخاطب البشرية في كلِّ عصر وجيل.
والذي يمكن أن يقال - بصفة عامَّة - في هذا المقام: أنَّ صِلة الإنسان بهؤلاء المحرَّمات - من الأمهات والبنات والأخوات، ومَن ذكرن في النص المبارك - صلته بهنَّ صِلة الرِّعاية والعطف، والمودَّة والاحترام والتوقير، "فلا تتعرض لما قد يجدُّ في الحياة الزوجية مِن خلافات، تؤدِّي إلى الطلاق والانفصال، مع رواسب هذا الانفصال، فتخدش المشاعرَ التي يُراد لها الدوام.
أو يقال: إنَّ بعض هذه الطبقات كالربائب في الحُجور، والأخت مع الأخت، وأم الزَّوجة، وزوجة الأب.. لا يُراد خدش المشاعر البنوية، أو الأخوية فيها، فالأمُّ التي تحسُّ أن ابنتها قد تزاحمها في زوجها، والبنت والأخت كذلك، لا تستبقي عاطفتَها البريئة تُجاهَ بنتها التي تشاركها حياتها، أو أختها التي تتصل بها أو أمها، وهي أمها.
وكذلك الأب الذي قد يشعر أنَّ ابنَه قد يخلفه على زوجته، والابن الذي يشعر أنَّ أباه الراحل أو المطلق غريمٌ له؛ لأنه سبقه على زوجته، ومثل ذلك يُقال في حلائل الأبناء الذين هم مِن الأصلاب؛ لما بيْن الابن والأب من علاقة لا يجوز أن تُشاب"[1].
وبالنظر إلى الفِطرة التي فَطَر الله الناس عليها، فإنَّنا تؤكد أنَّ النفس البشرية لا تستسيغ حتى مجرَّد التفكير في الزواج بواحدة مِن هؤلاء المحرَّمات، وبهذا نصل إلى وضوح الحِكمة التشريعية من التحريم، وضوحًا لا نحتاج معه إلى مزيدٍ من البيان، كما هو بيِّن بذاته وطبعه، الأمر الذي يجعلنا نكتفي بهذه الإشارة العامَّة، باستثناء ما نحاول الإشارةَ إليه بإيجاز عندَ دراسة كلِّ نوع من المحرمات.
تقسم المحرَّمات من النساء: منهن المحرَّمات تحريمًا مؤبدًا، ومنهنَّ المحرَّمات تحريمًا مؤقتًا، ولذلك فإنَّنا نقسم الدراسة في هذا المبحث إلى المطلبين الآتيين:
المطلب الأول: المحرمات على التأبيد.
المطلب الثاني: المحرمات على التأقيت.
المطلب الأول
في
المحرمات على التأبيد
1 - أنواع هؤلاء المحرَّمات.
2 - تقسيم.
المحرَّماتُ على التأبيد هنَّ اللائي يرجع تحريمُ الزواج بهنَّ إلى وصْف أبديٍّ دائم لا يزول، مثل البُنوة والأُخوة، ونحوهما من الأوصاف الأبدية الدائمة، وهؤلاء المحرَّمات أنواع ثلاثة:
النوع الأول: محرَّمات بسبب قرابة الدَّم وصِلة النَّسب.
النوع الثاني: محرَّمات بسبب الرَّضاع.
النوع الثالث: محرَّمات بسبب المصاهرة.
وفي ثلاثة فروع متوالية نتناول كلَّ نوع من هذه الأنواع على الترتيب السابق.
الفرع الأول في المحرمات بسبب قرابة الدم وصلة النسب:
1 - دليل التحريم.
2 - أصناف المحرَّمات.
حدَّد النصُّ القرآني المشار إليه هؤلاء المحرَّماتِ، وذلك في قول الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ﴾ [النساء: 23]، فتحرم على الرجل أُمُّه وجَدَّاته مِن أيِّ جهة كنَّ، سواء في ذلك الجَدَّات من جهة الأب أو الجَدَّات من جهة الأم، فالأم والجَدَّات من أيِّ جهة محرَّمات عليه تحريمًا مؤبدًا، مهما عَلَتْ درجة هؤلاء الجَدَّات.
الصنف الثاني: فروع الرجل من النساء:
وفروع الرَّجل من النِّساء هنَّ: بناته، وبنات أبنائه، وبنات بناته، مهما نزلَتْ درجتهنَّ، المنصوص على تحريم الزواج بهنَّ في قوله تعالى: ﴿ وَبَنَاتُكُمْ ﴾، فتحرم عليه بنتُه، وبنتُ ابنه، وبنت بنته، وهكذا مهما نَزَلتْ درجة هذه البنت.
الصنف الثالث: فروع الأبوين من النساء:
والمقصود بهذا الصِّنف فروع أبوي الرَّجل من النِّساء؛ أي: أخواته وبنات أخواته، مهما نزَلَتْ درجة هؤلاء الفروع.
وقد أشار الله - سبحانه وتعالى - إلى تحريم هذا الصِّنف بقوله سبحانه: ﴿ وَأَخَوَاتُكُمْ ﴾، ولفظ "الأخوات" يصدُق على الأخوات الشقيقات، وعلى الأخوات لأبٍ، وعلى الأخوات لأم، ويدخل في هذا التحريم حتمًا كلُّ فروع هؤلاء الأخوات، مهما نزلتْ درجتهن، حيث تحرم عليه بنتُ الأخت الشقيقة، وبنت الأخت لأب، وبنت الأخت لأم، وهكذا مهما نزلتْ درجة بنت الأخت.
وكذلك تحرم عليه حتمًا كلُّ فروع الإخوة الأشقَّاء، والإخوة لأب، فتحرم عليه بنت الأخ الشقيق، وبنت الأخ لأب، وبنت الأخ لأم، مهما نزلت درجتهنَّ، وفي كل ذلك يقول الله تعالى: ﴿ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ ﴾.
الصنف الرابع: فروع الأجداد والجَدَّات المنفصلات بدرجة واحدة:
أمَّا فروع الأجداد، فالمراد بهنَّ العمات.
وأمَّا فروع الجَدَّات، فالمراد بهنَّ الخالات.
وقد حرَّم الله - عزَّ وجلَّ - هذا الصِّنف بقوله تعالى: ﴿ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ ﴾، فيحرم عليه التزوُّج بعمَّته وخالته، وكذلك عمَّة أبيه وعمَّة جدِّه لأبيه أو أمه، وعمَّة أمِّه وعمَّة جَدَّته لأبيه وأمه، ومثل ذلك يُقال في تحريم الخالات [2].
بقى معنا بخصوص هذا الصِّنف بيان المقصود من عبارة المنفصِلات بدرجة واحدة، وبيان ذلك أنَّ العمَّة محرَّمة، ولكن بنتها غيرُ محرَّمة.
فالمحرَّم هو فقط الفَرْع الأول مِن فروع الأجداد والجدَّات؛ أي: العمَّات والخالات، أما الفروع غير المباشِرة للأجداد والجدات؛ أي: بنات العمَّة وبنات الخالة، فيَحِلُّ التزوُّج بهنَّ. وهو ما أباحه الله - عزَّ وجلَّ - بنصوصٍ صريحة، حيث يقول - تبارك وتعالى -: ﴿ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ ﴾[3] [الأحزاب: 50].
الفرع الثاني في المحرمات بسبب الرضاع:
1 - دليل التحريم.
2 - الحِكمة منه.
3 - أصناف هؤلاء المحرَّمات.
4 - آراء العلماء.
5 - شروط الرَّضاع المحرِّم.
6 - مقدار الرَّضاع المحرِّم.
7 - وقت الرَّضاع المحرِّم.
الأصل في تحريم الزواج بسبب الرَّضاع: قول الله - تبارك وتعالى -: ﴿ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ ﴾ [النساء: 23]، وفي الحديث الصحيح: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ الله حرَّم مِن الرَّضاع ما حَرَّم من النَّسب))[4].
حكمة التحريم بسبب الرضاع:
مما لا شكَّ فيه أن التي ترضع طفلاً تكون بمنزلة أمِّه التي وضعتْه، فهذه قد حملتْه في بطنها، وتلك قد غذتْه بلبنها، وضمتْه إلى صدرها في وقت النشأة والتكوين، فصار كأنَّه جزءٌ منها؛ ولذلك فقد سمَّاها القرآن أُمًّا، وجعل بناتِها أخوات لهذا الطفل؛ إذ الجميع تغذى بلبن واحد، يحمل السِّرَّ الإلهي الذي اختصَّ به لبن الأم مِن العطف والحنان والمودَّة، فصارتِ الرابطة بينهم رابطةً عضوية غير قابلة للانفكاك، فكان لا بدَّ من المحافظة عليها مِن أي طارئ يؤثِّر فيها، أو ينقص من شأنها؛ توقيرًا واحترامًا وإجلالاً، وحرَّم كذلك الأخت من الرَّضاعة إبقاءً للمودة، ومحافظةً على الرابطة العضوية الدائمة بينهما.
وقد انفردتِ الشريعةُ الإسلامية دون غيرِها من الشرائع السماوية الأخرى بإعطاء هذه المنزلِة لرابطة الرَّضاع؛ تحقيقًا لهدف إنساني آخَر.
"فقد نزل القرآن الكريم، وعادة الإرضاع فاشيةٌ عند العرب، تقوم به طائفةٌ من النِّسوة نظيرَ أجْر تأكل منه، بينما يمتنع عنه الحرائرُ أنفةً وترفُّعًا، حتى جرى في أمثالهم: "تجوع الحُرَّة ولا تأكل بثدييها"، فأراد الشارِع القضاءَ على تلك العادة مبينًا للمترفِّعات عنه منهنَّ أنَّ الإرضاع ليس مهانة للمرأة، وإنما هو تكريمٌ لها، وتوسيع لدائرة أمومتها، التي هي أسْمَى ما تعتز به المرأة"[5].
أصناف المحرَّمات من الرَّضاع:
وهؤلاء المحرَّمات بسبب الرَّضاع ثمانية أقسام، بيانهنَّ على الوجه التالي:
1 - الأصول من الرَّضاعة:
نصَّ الله - تبارك وتعالى - على تحريم أصول الشخْص من الرَّضاعة في قوله سبحانه: ﴿ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ ﴾، وقد قال المفسِّرون: إنَّ المراد من ذلك على العموم أصولُ الشخص من الرَّضاعة، سواء كنَّ من جهة الأب، أو من جهة الأم، وتبدأ الحلقة الأولى في أصول الشَّخْص من الرَّضاع بالأم المرضعة، فهي محرَّمة عليه؛ لأنَّها قامت بالإرضاع مباشرة، كما تحرم عليه أمُّها، وأمُّ أمِّها، وأمُّ أبيها، وهكذا تحرم على الشخص أصولُه من الرَّضاعة مهما علتْ درجتهن.
2 - الفروع من الرضاعة:
وفروع الشخْص من الرَّضاعة هم الأطفال الذين رضعوا من زوجته، فبناتُه من الرَّضاعة يحرمن عليه، بمعنى: لو أنَّ زوجته أرضعتْ بنتًا أجنبية[6]، فإنَّ هذه البنت كما أنها تصير بنتًا لزوجته من الرَّضاعة، فإنها تصير بنتًا له هو من الرَّضاعة، فلا تحل له، مثلها في ذلك مثل ابنته مِن الولادة، وهذا أوَّل تطبيق نراه أمامنا لقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يحرم مِن الرَّضاعِ ما يحرم من النَّسَب))، فكما تحرم عليه ابنتُه التي هي من صُلْبه، تحرم عليه أيضًا بنته الرَّضاعيَّة؛ أي: التي أرضعتْها زوجته، وكذلك بنت هذه البنت، وهكذا.
ومِن ناحية أخرى، فإنَّ هذه المرأة لو أرضعتْ ابنًا لغيرها، فإنَّ هذا الابن يصبح ابنًا لها من الرَّضاعة، فتحرم عليه لأنَّها أمُّه، ويصبح هذا الطفل أيضًا ابنًا رضاعيًّا لزوج المرأة التي أرضعتْه، وبالتالي لو شبَّ هذا الابن ثم تزوَّج وأنجب بنتًا، فإنَّ هذه البنت تصير بنتَ ابنٍ لزوج المرأة المرضِعة المشار إليها، فهي - أي: بنت الابن من الرَّضاعة - بمنزلة بنت الابن مِن النَّسب في هذا المعنى[7].
3 - الأخوات من الرَّضاعة:
وهذا الصِّنف قد نصَّ الله - سبحانه - على تحريمه صراحةً في قوله - تعالى -: ﴿ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ ﴾ [النساء: 23]، وقد عبَّر العلماء عن ذلك بصِفة عامة، فقالوا: فروع أبويه من الرَّضاع، وإن نزلتْ هذه الفروع، بمعنى أنَّه يحرم على الرجل أن يتزوَّج أخته من الرَّضاعة، وكذلك بنت هذه البنت، وبنت بنتها، وبنت أبنها، مهما نزلت درجة البنت.
4 - فروع جَديَّة من الرَّضاعة في الدرجة الأولى فقط:
والمقصود من هؤلاء المحرَّمات: عماته وخالاته من الرَّضاعة، فإذا وضع الطفل مِن امرأة معيَّنة، فإن هذه المرأة تصير أمًّا لهذا الطفل - كما بينَّا - وتصير أخواتُ هذه المرأة خالاتٍ من الرَّضاع لهذا الطفل، فيحرمن عليه، كما أنَّ أخوات زوجها[8] يُصبحنَ عمَّاتٍ له من الرَّضاعة، فيحرم عليه الزواج بواحدة منهنَّ، كما يحرم عليه التزوُّج بالعمَّات والخالات من النَّسب، غير أنَّ هذا التحريم مقصورٌ على الطبقة الأولى فقط مِن هذا الصنف.
كما هو الحال بالنِّسبة للخالات والعمَّات من النسب، فتحرم عليه خالاته وعماته من النسب، ومن الرَّضاع، ولكن يحل له التزوج من بنت عمته، أو مِن بنت خالته من النسب، ومن الرَّضاع - كما سبق لنا البيان.
5 - أصول زوجة الشخص من الرَّضاع:
وبيان ذلك: أنَّ الله - تعالى - حرَّم على الرجل أمَّ زوجته - كما سيأتي - ويترتب على هذا التحريم أن تحرم على الرجل الأم الرضاعية لزوجته، فلو أنَّ امرأة كان قد أرضعتْ زوجته، فإنَّ هذه المرأة تكون محرَّمة عليه؛ باعتبارها أمًّا رضاعية لزوجته.
6 - الفروع الرَّضاعيُّون لزوجته:
فلو أنَّ رجلاً تزوَّج امرأةً كانت متزوِّجة من قبل من رجل آخر، وقد سبَق لها أن أرضعت بنتًا، فإنَّ هذه البنت تحرم على زوج هذه المرأة على الرغم من أنَّه لا صلة له بها، وسبب التحريم أنَّها بنتٌ رَضاعية لزوجته، ولو أنها أرضعتْها قبل أن يتزوَّج بها، ولكن شرْط التحريم في هذه الحالة أن يدخل ذلك الرجل بهذه المرأة، فإذا عقد عليها، ثم طلَّقها قبلَ أن يدخل بها، فإنَّ بنتها الرَّضاعية لا تحرم عليه [9].
7 - زوجة أصله من الرَّضاع:
وبيان ذلك أنَّ زوج المرأة التي أرضعتِ الطفل يعتبر - كما بينَّا - أبًا له من الرَّضاع، وعلى ذلك فلو أنَّ هذا الرجل قد تزوَّج بامرأة أخرى غير المرضعة، فإنَّها تُعتبر - هي الأخرى - محرَّمة على الرضيع، لا باعتبارها أمًّا من الرَّضاعة[10]، ولكن باعتبارها زوجةً لأصله الرَّضاعي.
8 - زوجة فرْعه من الرَّضاع:
وهذه الصورة بيانها كالآتي: طفل رَضَع من امرأة، فإن المرأة تعتبر أُمًّا رضاعية، وزوجها أبًا رضاعيًّا، فإذا ما تزوَّج هذا الابن الرَّضاعي، فإنَّ امرأته تحرم على زوْج المرضِعة باعتبارها زوجةً للابن الرَّضاعي[11].
تلك هي الأصناف الثانية من المحرَّمات من الرَّضاع، ومعظمها كما هو بيِّن واضح من المحرَّمات اللاتي أجمع العلماء على تحريم الزواج منهنَّ، فالأقسام الأربعة الأولى تشملها النصوص صراحةً أو دلالة، فقوله تعالى: ﴿ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ ﴾ شاملٌ كلَّ الأصول الرَّضاعية، وقوله تعالى: ﴿ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ ﴾، يفيد تحريم جوانب الرابطة الرَّضاعية وحواشيها؛ فإذا كانتِ الأخت الرَّضاعيَّة محرَّمة بنص القرآن، فمِن باب أولى البنت الرَّضاعية، ومع ذلك فقد زادنا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بيانًا وتوضيحًا، فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((يحرم مِن الرَّضاع ما يحرم مِن النسب)).
وقد روى الإمامُ البخاري - رحمه الله - عن جابر بن زيد، عن ابن عباس - رضي الله عنهم - قال: "قيل للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "ألاَ تتزوَّج ابنةَ حمزة؟ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّها ابنة أخي مِن الرَّضاعة))[12].
وفي صحيح البخاري أيضًا: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أمر عائشة - رضي الله عنها - بعدَ نزول آية الحِجاب ألاَّ تحتجبَ مِن عمِّها من الرَّضاعة[13].
وهكذا ثبت بلا أدْنى شكٍّ أنَّ رابطة الرَّضاع تأخذ حُكم رابطة النَّسب مِن حيث تحريم الزواج[14].
وعلى ذلك فلا خلافَ مطلقًا حولَ تحريم الزواج مِن الأقسام الأربعة الأولى، وهنَّ الأصول من الرَّضاعة، والفروع من الرَّضاعة، والأخوات من الرَّضاعة وفروعهنَّ[15]، وفروع الأجداد والجَدَّات من الرَّضاعة في الدرجة الأولى فقط[16].
وأيضًا لا خلاف على ما يبدو بالنسبة للقِسم الخامس، حتى على ما حكاه العلاَّمة ابن القيم، فقد قال - رحمه الله -: "إنَّ الله حرَّم أمهاتِ النساء، فدخل في ذلك أُمُّ المرأة، وإن علتْ مِن نَسب أو رَضاع... لصدق الاسم على هؤلاء كلهنَّ"[17].
أما الأقسام الثلاثة الأخيرة، فقد قال جمهورُ العلماء بتحريم الزواج منهنَّ على النحو الذي فصَّلْنا، ولكن خالف في ذلك بعضُ العلماء على ما حكاه العلاَّمة ابن القيم في كتابه "زاد المعاد"، حيث جاء فيه أنهم قالوا: "إنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد قصر تحريم الرَّضاع على نظيره من النَّسب، لا على شقيقه من الصِّهر، فيجب الاقتصارُ بالتحريم على مورد النص.
قالوا: والتحريم بالرَّضاع فرْعٌ على تحريم النسب، لا تحريم المصاهرة، فتحريم المصاهرة أصلٌ قائم بذاته، والله - سبحانه - لم ينصَّ في كتابه على تحريم الرَّضاع إلاَّ مِن جهة النَّسب، ولم ينبه على التحريم به مِن جهة الصهر البتة، لا بنصٍّ ولا إيماء، ولا إشارة، والنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أَمَر أن يحرم به ما يحرم من النَّسَب.
وفي ذلك إرشادٌ وإشارة إلى أنَّه لا يحرم به الصهر، ولولا أنه أراد الاقتصارَ على ذلك لقال: يحرم مِن الرَّضاع ما يحرم من النسب والصهر...
قالوا: وأيضًا فالرَّضاع مشبه بالنَّسب؛ ولهذا أخذ منه بعض أحكامه، وهو الحُرْمة والمحرميَّة فقط دون التوارث والإنفاق، وسائر أحكام النَّسب، فهو نَسبٌ ضعيف، فأَخذ بحسب ضعْفه بعضَ أحكام النسب، أو لم يقوَ على سائر أحكام النَّسب، وهو ألْصَق به من المصاهرة، فكيف يقوى على أخْذ أحكام المصاهرة، مع قصوره عن أحكام مشبهه وشقيقه؟!
وأمَّا المصاهرة والرَّضاع، فإنَّه لا نسبَ بينهما، ولا شبهةَ نَسب... قالوا: ولو كان تحريم الصهريَّة ثابتًا، لبيَّنه الله ورسولُه بيانًا شافيًا، يقيم الحُجة، ويقطع العُذر، فمِن الله البيان وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم والانقياد.
فهذا منتهى النظر في هذه المسألة، فمَن ظَفِر فيها بحُجَّة فليرشدْ إليها، وليدلَّ عليها، فإنَّا له منقادون، وبها معتصمون، والله الموفِّق للصواب" [18].
شروط الرضاع المحرم:
هنالك شرْطان تكلَّم الفقهاء على ضرورة مراعاتهما، بالرغم مِن أنهما من الأمور المسلَّمة بداهةً؛ لأنَّهما شرطان يتعلَّقان بطبيعة اللَّبن المرتضَع، وبضرورة وصوله إلى معدة الطفل، ولكنَّهم من ناحية أخرى اختلفوا في شَرْطين أساسين اختلافًا جوهريًّا؛ لأنَّهما شرْطان يتعلقان بكمية اللبن الذي يترتَّب عليه التحريم، وبالوقت الذي يتمُّ فيه الرَّضاع.
وتفصيل هذا الإجمال على النحو التالي:
الشرط الأول: أن يكون المرتضَع هو لبن امرأة:
فإذا اشترك طفلٌ وطفلة في رَضاع أو في شَرْب لبن غير الآدمية، فإنَّ هذا الاشتراك لا أثَر له مطلقًا في تحريم الزواج بينهما؛ ذلك أنَّ معنى الأمومة لا يتحقَّق في غير لبن الأم على الأقلِّ بالنسبة لأطفال بني الإنسان [19].
الشرْط الثاني: أن يتحقَّق وصول اللبن إلى مَعِدة الرضيع:
اشترط الفقهاءُ في لبن الرَّضاعة الذي يترتَّب عليه تحريم الزواج: أن يصل هذا اللَّبَنُ بالفعل إلى مَعِدة الرضيع، فإذا لم يكن ذلك محقَّقًا فلا تحريم، فلو أنَّ الرضيع قد الْتقم ثديَ المرأة دون أن يمتصَّ اللبن بالفعل، ولم يحصلِ اليقين بوصول اللبن إلى مَعِدة الطفل، فلا يثبت التحريمُ في مثل هذه الحالة، فالأصل هو الحِلّ، ولا يترك هذا الأصل إلاَّ إذا ثبت خلافُه ثبوتًا يقينيًّا؛ تطبيقًا لقاعدة: اليقين لا يزول بالشك[20].
مقدار الرَّضاعة التي يثبت بها التحريم:
اختلف الفقهاءُ في مقدار الرَّضاعة التي يثبت بها تحريمُ الزواج بواحدةٍ مِن الأصناف الثمانية التي ذكرْنا قبلاً.
ويمكننا تلخيص آراء العلماء في هذه المسألة إلى ثلاثة مذاهبَ رئيسة[21]، وفيما يلي بيان كلِّ مذهب وأدلته:
المذهب الأول: مذهب طائفة كبيرة مِن الصحابة والتابعين، وهو أيضًا مذهب الحنفية والمالكية، والثوري والأوزاعي، وحماد، وهو رواية عن أحمد.
وخلاصة هذا المذهب: أنَّ الرَّضاعة المحرِّمة لا يُشترط في ثبوت التحريم بها مقدارٌ معيَّن، ولا عدد محدَّد من الرَّضعات، وحجتهم في ذلك:
أولاً: أنَّ النصوص الدالَّة على تحريم الزواج بسبب الرَّضاعة جاءتْ من العموم، بحيث تصدق على قليلِ الرَّضاعة وكثيرها، يظهر ذلك جليًّا في نص الآية القرآنية، والأحاديث النبوية، التي ذكرْناها فيما تقدَّم.
ثانيًا: روى الإمام البخاريُّ وغيره من أئمَّة الحديث - رضي الله عنهم -: (أنَّ رجلاً[22]) قال: "تزوجتُ امرأة، فجاءتْنا امرأةٌ سوداء، فقالت: أرضعتُكما، فأتيتُ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقلت: تزوجتُ فلانة بنت فلان، فجاءتْنا امرأةٌ سوداء، فقالت: إني قد أرضعتُكما، وهي كاذِبة، فأعرض عنه[23]، فأتيتُه من قِبل وجهه، قلت: إنَّها كاذبة، قال[24]: ((كيف، وقد زعمتْ أنَّها أرضعتكما؟! دعْها عنك))[25].
وهذا أمرٌ بمفارقة تلك المرأة دون استفسار عن عدد الرضعات، وتَرْك الرسولِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - الاستفسارَ دليلٌ على أنَّه لا يُشترط في الرَّضاعة المحرِّمة مقدارٌ معيَّن، ولا عدد محدَّد من الرضعات.
المذهب الثاني: مذهب الشافعية والحنابلة في أرْجح أقوالهم، وهو: أنَّ التحريم لا يثبت إلاَّ بخَمْس مشبعات في أوقات متفرِّقة.
وأدلَّة هذا المذهب تتلخَّص فيما يأتي:
أولاً: ما رُوي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان فيما نَزَل من القرآن: "عشر رضعات معلومات يحرمن"، ثم نُسِخْنَ بخمس معلومات، فتُوفِّي رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهنَّ فيما يقرأ مِن القرآن" [26].
وقد علَّق الإمام النوويُّ[27] على ذلك فقال: "معناه أنَّ نسخ عبارة "خمس رضعات" تأخَّر إنزالُه جدًّا، حتى إنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - توفِّي.
وبعضُ الناس يقرأ "خمس رضعات"، ويجعلها قرآنًا؛ لكونه لم يبلغْه النسخُ لقُرْب عهده، فلمَّا بلَغهم النَّسْخُ بعد ذلك رجعوا عن ذلك، وأجمعوا على أنَّ ذلك لا يُتلَى[28].
ثانيًا: أنَّ عِلَّة تحريم الزواج بسبب الرَّضاع: أنَّ جسم الطِّفل قد تكوَّن من لبن المرضِعة، فصارت أمًّا له؛ لأنَّه جزء منها، يؤيد ذلك قولُه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا يحرم مِن الرضاع إلا ما أنبتَ اللحمَ، وأنشزَ العظم))، وهذا لا يتمُّ حقيقة إلا برَضاع يوم كامل، وما يحتاج إليه الطِّفل على امتداد هذا اليوم هو خمس رَضعات.
المذهب الثالث: مذهب الشِّيعة الإمامية، وهو أنَّ مقدار الرَّضاعة التي يثبُتُ بها التحريم هو رَضاع يوم وليلة، أو خمس عشرة رَضْعة.
فهم على هذا يتَّفقون مع أصحاب الرأي الثاني في المبدأ، وهو ضرورةُ تحديد مقدار معيَّن من اللبن المرتضَع؛ حتى يترتب عليه التحريم، ولكنَّهم يختلفون معهم في تحديد عدد الرَّضعات، حيث حدَّدوها برَضاع يوم وليلة، أو بخمس عشرة رضعة كاملة، لا يفصل بينها رَضاعٌ آخَرُ[29].
ودليل هذا الرأي: أنَّ الرضاع المحرِّم هو ما أنبتَ اللحم، وأنشأ العظم، وهو لا يتمُّ إلا برَضاع يوم وليلة، أو بما قدَّروه بخمس عشرة رَضعة.
وبأدْنى تأمُّل في هذه المذاهب الثلاثة يبدو لنا رجحانُ المذهب الأوَّل؛ لضعفِ أدلَّة كلٍّ من المذهبين...
فاعتماد أصحاب المذهب الثاني على ما رُوي عن عائشة لا ينتج ما ذهبوا إليه، بل هو - كما نُقِل عن ابن العربي - أضعف الأدلَّة؛ لأنها قالت:
"كان فيما نَزَل من القرآن، ولم يثبت أصلُه، فكيف يثبت فرعُه؟!"؛ أي: لم يثبت أنَّ هذا القول من القرآن، وحيث إنَّه ليس قرآنًا، فلا يصح أن يُثبت به حُكم، فضلاً عن أنه رُوي برِوايات مضطربة، فلا يمكن الاعتمادُ عليه[30].
وأما القول بأنَّ الذي يحتاج إليه الطِّفل هو عشر رضعات، وما قاله أصحاب الرأي الثالث خمس عشرة رضعة، أو طعام يوم وليلة، فكلُّ ذلك في نظرنا مِن قبيل التحكُّم الذي لا تنبني عليه أحكامٌ شرعيَّة.
وعلى ذلك، فالراجِح في نظرنا: هو الرأي الأول، القائل بأنَّ قليلَ الرَّضاع، أو كثيرَه يترتَّب عليه التحريم[31].
وسنرى فيما بعد أنَّ المراد مِن قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا يحرم مِن الرَّضاع إلا ما أنبتَ اللحمَ، وأنشز العظم)) - المراد من هذا الحديث: أنَّ اللبن الذي يترتَّب عليه التحريم هو الذي تناوله الطِّفل في الفترة مِن حياته التي لا يعتمد فيها إلاَّ على لبن الرَّضاعة، وهو ما نقوم ببحثه تفصيلاً في الفِقرات التالية.
وقت الرَّضاعة الذي يثبُت فيه التحريم:
وتعدَّدت الأقوال في تحديد الوقْت الذي إذا حصلتْ فيه الرَّضاعة، ترتَّب عليه تحريمُ الزواج.
ونظرًا لأنَّ الغالبية الغالبة مِن علماء الصحابة والتابعين، والأئمَّة المجتهدين اتَّفقوا على حُكمٍ يكاد يكون واحدًا، فقد آثرْنا الاكتفاء بعَرْض هذا الحُكم، وبيان الأدلَّة الشرعية التي يستند إليها.
وخلاصة هذا الحكم: أنَّ الرَّضاعة التي يترتَّب عليها تحريم الزواج على النحو السابق تفصيلُه هي تلك التي تتمُّ وقتَ الطفولة، حيث يكون الصغير معتمدًا على لَبَن المرضعة، وهذا القول مرويٌّ عن عمر بن الخطَّاب، وعبدالله بن مسعود، وعبدالله بن عمرن، وعبدالله بن عباس، وأبي هريرة، وأمَّهات المؤمنين، ما خلا عائشة - رضي الله عنهم - جميعًا.
وهو كذلك مذهب سعيد بن المسيّب، والشعبي وابن شبرمة، وإسحاق وأبي عبيد، وابن المنذر والحسن، والزهري والأوزاعي، وعكرمة وقتادة، وأبي حنيفة ومالك، والشافعي وأحمد، والعِترة[32]، وزفر وأبي يوسف ومحمَّد[33].
فهُم جميعًا يقولون بأنَّ الرَّضاعَ المحرِّم هو الذي يكون في الصِّغر، وقد حدَّد معظمُ هؤلاء الأئمَّة - رحمة الله عليهم - الصِّغَر بفترة ما قبل الفَطام، وهي حَوْلان.
والبعض الآخَرُ قد حدَّد أكثر من الحَوْلين بقليل، والبعض الثاني لم يحدِّد للصغر فترةً بعينها.
وهذا القول - في جملته - يستند إلى أدلَّة من الكتاب والسُّنة:
أما الكتاب: فقول الله - تعالى -: ﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ﴾ [البقرة: 233]، وقوله - سبحانه -:﴿ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ﴾ [لقمان: 14].
فالأولى صريحةٌ في أنَّ مدة الحولين هي أقْصى مدَّة الرَّضاع بنصِّ الآية الكريمة ﴿ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ﴾، فإذا أتم الرَّضيعُ هذه المدة، فقد بلغ النهاية منها، والزيادة بعدَ ذلك لا تُعتبر مِن مدَّة الرَّضاع التي حدَّدها الله سبحانه.
والآية الثانية معناها: أنَّ فِصال الطفل - وهو فطامه - يكون بعدَ عامين مِن ولادته، فهي تؤكِّد الآية الأولى في أنَّ ما بعد الفطام لا أثَرَ له.
وأمَّا السُّنة: فقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّما الرَّضاعة مِن المجاعة))[34]، وقوله - عليه الصلاة والسلام -: ((لا يحرم مِن الرَّضاع إلا ما فَتَق الأمعاء في الثَّدي، وكان قبل الفطام))[35]، وما رُوي أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لا رَضاعَ إلا ما كان في الحَوْلين))[36].
وخلاصة القول في هذه المسألة: أنَّ الرَّضاع الذي يترتَّب عليه التحريمُ هو ذلك الذي يكون في الحَوْلين الأُوليين مِن حياة الطفل، فهذان الحولان هما الفترة التي حدَّد الله - تعالى - فيها تمامَ الرَّضاعة، وهو ما قال به جمهورُ الصحابة والتابعين، والأئمَّة المجتهدين.
ومع ذلك فلو صادَف أنَّ طفلاً استمر في رَضاعته معتمدًا فقط على اللَّبن المرتضَع مِن ثدي الأم، أو ظلَّ هذا اللبن هو غذاءَه الرئيس فترةً تزيد عن الحولَيْن، فإنَّنا نرى - والله أعلم - أنَّ مِثل هذا الرَّضاع يترتَّب عليه تحريمُ الزواج؛ لأنَّ الطفل في هذه الفترة ما زال يعتمد على لبن النِّساء، ومثل هذا اللبن ينبت لحمَ الطفل، وينشز عظمَه، وقد ثبت في الحديث عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - - أنه قال: ((لا يحرم مِن الرَّضاع إلا ما أنبتَ اللحمَ، وأنشز العظم))؛ أي: ما كان في زَمن الطفولة، بحيث يكون اللَّبن هو الأساسَ الذي يعتمد عليه نموُّ الطفل، وتكوينه جسميًّا.
الفرع الثالث في المحرمات بسبب المصاهرة:
1 - بيان المقصود بهنَّ.
2 - أصناف هؤلاء المحرَّمات.
3 - حِكمة التحريم.
يُقصد بهؤلاء المحرَّمات: أولئك النِّسوة اللائي ينتسب الشخصُ إليهنَّ بسبب المصاهَرة؛ أي: قرابة الزواج، التي بينه وبينهن، فالصلة بينه وبيْن أمِّ زوجته هي صِلة مصاهرة؛ أي: إنَّ عقد الزواج هو السبب في نشأتها، وهكذا.
وقد حرَّمت النصوصُ القرآنية هؤلاء النِّسوةَ تحريمًا صريحًا[37].
أصناف المحرَّمات بسبب المصاهرة:
وهؤلاء المحرَّمات أصنافٌ أربعة، بيانهنَّ على النحو التالي:
الصنف الأول: أصول الزَّوجة مِن النِّساء وإن علون:
والمقصود بأصول الزَّوجة مِن النساء أُمُّ الزوجة وجَدَّاتها مِن أيِّ جهة كُنَّ، سواء من جهة الأب، أو جهة الأم، والأصل في هذا التحريم قولُ الله - تعالى -: ﴿ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ ﴾ [النساء: 23]، وهو معطوفٌ على قوله - تعالى -: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ﴾ [النساء: 23].
وهذا التحريم إذ يصدُقُ على أُمِّ الزوجة، فإنَّه يصدق على أمِّ أمِّها، وأُمِّ أبيها، وسائر جَدَّاتها مهما عَلَتْ درجتهنَّ، فكلمة "أمهات" تصدُق على الأم مباشرةً، وتصدق على الجَدَّات؛ لأنهنَّ أمهات غير مباشرات.
ويلاحظ أنَّ تحريم أمِّ الزوجة ومَن معها يثبت بمجرَّد العقد على هذه الزوجة، بغضِّ النظر عن الدخول، فسواء دخَل أو لم يدخل، فإنَّ أصول زوجته من النِّساء يُحرمنَ عليه بمجرَّد إتمام العقد.
الصنف الثاني: فروع الزَّوْجة من النِّساء، وإن نزلْن:
ويُقصد بهذا الصِّنف بناتُ الزوجة، وبنات بناتها، وبنات ابنها، وهكذا مهما نزلَتْ درجتُهنَّ، ولكن لا يحرم عليه فروعُ زوجته إلا بشَرْط أساسي، هو أن يدخل بزوجته.
والأصْل في تحريم هذا الصِّنف قول الله - تعالى -: ﴿ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ﴾ [النساء: 23].
وهذا النصُّ الكريم معطوف على قوله - تعالى -: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ﴾ [النساء: 23] والمعنى: وحرِّمت عليكم ربائبكم، و"الربيبة" هي بنت الزَّوجة من رجل آخَرَ تحرم عليه ابنتها، فإن كان قد عقد عليها، ثم طلَّقها قبل أن يدخل بها، فإنَّ بنتها لا تحرم عليه؛ أي: إن البنت لا تحرم بمجرَّد العقد، بمعنى: أنَّ العقد فقط لا يحرِّمها، وإنما الذي يحرِّمها هو الدخول بعدَ عقد صحيح.
وهنا نلمس الفارقَ الواضح بين هذه الحالة والتي قبله، ففي الحالة السابقة رأيْنا أنَّ الأم تحرم بمجرَّد العقد على البنت دون اشتراط دخول، وأما في هذه الحالة فقد اشترط القرآنُ الدخول بالمرأة حتى تحرمَ عليه بنتُها، وهذا بالنص القرآني الصريح: ﴿ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ﴾[38][النساء: 23].
ومن ناحية أخرى، فإنَّ بنت الزوجة المدخول بها تحرم، سواء كانتِ البنت في حجر الزوج - أي: في بيته - أو كانت في بيت آخَر، أو في مكان آخَر، فالوصف المذكور في الآية ليس شرطًا، بل جاء على مقتضى الغالِب من الأحوال [39].
الصنف الثالث: زوجات أصول الرجل:
المقصود بهؤلاء المحرَّمات زوجة الأب، وزوجة الجَد، وإن علا، فالأم محرَّمة بقوله - تعالى -: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ﴾ [النساء: 23]، وزوجة الأب بمنزلة الأم، فهي داخلةٌ في التحريم بحُكم هذه الآية - كما أشرنا.
ولكن نظرًا إلى أنَّ عادة العرب في الجاهلية أنَّهم كانوا لا يحرِّمون زوجة الأب، فأنزل الله - تبارك وتعالى - تحريمَ هذه العادة القبيحة، ونصَّ عليها بذاتها في آية مخصوصة، هي قوله تعالى: ﴿ وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلاً ﴾[40] [النساء: 22].
الصنف الرابع: زوجات فروعه وإن نزلوا:
ويُقصد بهؤلاء المحرَّمات زوجة الابن، وزوجة ابن الابن، مهما نزلَتْ درجة الابن؛ ذلك أنَّ زوجة الابن تنزل منزلةَ البنت، فلا تَحِلُّ للأب الذي هو والد الزوج.
والأصل في التحريم قولُ الله سبحانه: ﴿ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ ﴾ [النساء: 23]، وهو معطوف على قوله تعالى: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ﴾ [النساء: 23].
والمعنى: وحرِّمت عليكم حلائلُ أبنائكم الذين من أصلابكم، فالتحريم يشمل زوجةَ الابن وزوجةَ ابن الابن مهما نزلَتْ درجةُ الابن، وكذلك يصدق عل زوجة ابن البنت، وهكذا تحرم على الشخص زوجاتِ فروعه، وإن نزلوا "ولا يقال: إنَّ التقييد بكونهم من الأصلاب يقصر التحريم على زوجاتِ أبنائه فقط دون زوجاتِ أبناء أبنائه وأبناء بناته؛ لأنَّ لفظ الأبناء يشمل هؤلاء، إذ يُراد به كلُّ مَن يتصل به بصِلة الولادة من الذكور"[41]، وإنَّما المقصود مِن قوله - تعالى -: ﴿ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ ﴾ إخراج زوجة الابن بالتبنِّي؛ ذلك النظام الذي كان سائدًا عند العرب في جاهليتهم، فأبطله الله - سبحانه - بقوله: ﴿ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 4 - 5].
وقد سَبق أن تكلَّمْنا عن تحريم زوجة الابن من الرَّضاعة على ما قرَّره جمهور الفقهاء، وأشرْنا هنا لك إلى أنَّ بعض العلماء قد خالَف في ذلك تمسُّكًا بقوله - تعالى -: ﴿ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ ﴾، فقد قالوا: إنَّ الابن من الرَّضاعة ليس ابنًا من الصلب؛ ولذلك فلا تحرم زوجة هذا الابن.
حكمة التحريم بسبب المصاهرة:
وتحريم الزَّواج بإحْدى هؤلاء المحرَّمات أمرٌ تقتضيه الفطرة التي فَطَر اللهُ الناسَ عليها، وتستوجبه الحِكمة العقلية حيث لا يتردَّد عاقل في قَبول هذا التحريم بمقتضى فِطرته السليمة.
ولذلك اتَّفقت الشرائع السماوية السابقة مع شريعة الإسلام في القَوْل بتحريم الزَّواج بسبب المصاهرة؛ ذلك أنَّ الذي يتزوَّج فتاة مِن أسرة معينة، فإنَّه يصير واحدًا من تلك الأسرة، وتكون الفتاةُ واحدةً من أسرة الرجل، وبذلك تتقارب الأُسرتان ويتوادَّان، فكان مما يتَّفق مع الطبع السليم أن تكون أمُّ الزوج، بمنزلة أمِّه فتحرم عليه، ويكون أبُ الزوج أبًا للزوجة، أو كأبيها فتحرم عليه؛ إذ هي بنت له، أو بمنزلة بنته، ومِن هنا اتَّفقتِ الشرائعُ السماوية على تحريم الزَّواج بسبب المصاهرة على النحو الذي بينَّا.
♦ ♦ ♦
المطلب الثاني
في المحرَّمات تحريمًا مؤقتًا
1 - بيان المقصود بهنَّ.
2 - أقسام هؤلاء المحرَّمات.
3 - من تعلَّق بها حقُّ الغَيْر - احالة.
4 - تقسيم.
المحرَّمات تحريمًا مؤقتًا هنَّ اللائي قام بإحداهن وصْفٌ مؤقَّت، يترتب عليه تحريمُ الزواج طالَمَا كان هذا الوصف موجودًا؛ بمعنى: أنَّ التحريم ليس راجعًا إلى وجود وصْف أبديٍّ دائم، وإنَّما يرجع إلى وجود وَصْف مؤقَّت قد يزول يومًا ما. وبزوال هذا الوصْف يزول التحريم.
أقسام هؤلاء المحرمات:
والوصْف الذي يكون سببًا في التحريم قد يَرجع إلى أنَّ حق الغير تعلَّق بهذه المرأة، أو إلى أنَّه لا يجوز للرجل أن يجمع في عِصمته بيْن امرأتين تربطهما قرابةٌ قريبة، أو قد يكون الوصْف هو طلاقَ هذه المرأة ثلاثًا، وقد يكون التحريم راجعًا إلى عقيدة المرأة وأنها لا تَدين بدِين سماوي، وأخيرًا قد يكون التحريم بسبب لا يرجع إلى امرأةٍ بعينها، وإنما إلى أنَّ الرجل في عصمته أربعُ زوجات.
مَن تعلق بها حق الغير:
أما من تعلَّق بها حقُّ الغير، فقد سبق أن قلنا: إنَّه من الطبيعي تحريمُ حتى مجرَّد التفكير في خِطبتها، فما بالك بالتزوُّج، حيث لا يُقبل مثلُ هذا التفكير شرعًا ولا عقلاً، فزوجة الغَيْر ومعتدَّتُه - وخاصَّة المعتدة من طلاق رجعيٍّ - محرَّمة تحريمًا لا شكَّ فيه؛ لأنَّها لا تزال في عصمة هذا الغَيْر.
ونكتفي بهذه، ونحيل في هذا إلى ما سَبَق أن قلناها في هذا الموضوع أثناءَ كلامنا عن الخِطبة وشروطها.
تقسيم:
وفيما عدَا مَن تعلَّق بها حقُّ الغير، فإنَّنا نبحث بقية المحرَّمات تحريمًا مؤقتًا في أربعة فروع، على النحو التالي:
الفرع الأول: في تحريم الجمع بين المحارم.
الفرع الثاني: في المطلَّقة ثلاثًا.
الفرع الثالث: في مَن لا تَدين بدِين سماوي.
الفرع الرابع: في تحريم الجمْع بين أكثر من أربع زوجات.
الفرع الأول في تحريم الجمع بين المحارم:
1 - معنى القرابة المحرميَّة.
2 - معنى الجمْع بين المحارم.
3 - أدلَّة التحريم.
4 - الحِكمة التشريعيَّة منه.
المحارم هم الأقارب من الجنسيْن الذين تربط بينهم القرابةُ المحرميَّة.
والقرابة المحرميَّة هي القرابة القريبة التي يترتَّب عليها تحريم الزواج، فالقرابة بيْن الأخ وأخته قرابةٌ محرميَّة؛ لأنها تحرِّم الزواج بين الأخ وأخته، وبين الأخ وبنت أخيه، وبنت أخته، وهكذا.
ومعنى ذلك أنَّ المحرَّمات على التأييد اللاتي تكلَّمْنا عنهنَّ في المطلب السابق، هنَّ قريبات للشخص قرابة محرميَّة: إما نسبًا وإما رَضاعًا، وإما مصاهرة.
وتحريم الجمْع بيْن المحارم هنا معناه: أنَّ كل امرأتين بينهما قرابةٌ محرميَّة، فإنَّه لا يجوز لرجلٍ واحدٍ أن يجمعَ بينهما في عِصمته، فلا يجوز لرجل أن يتزوَّجَ أختين في وقتٍ واحدٍ؛ لأنَّ القرابة بيْن الأختين قرابةٌ محرميَّة.
وضابط هذه القرابة: أنه لو فرضت إحداهما ذكرًا حرمتْ عليه الأخرى، فمتى وُجدتْ هذه القرابة بيْن امرأتين، فإنَّه يحرم على الرجل أن يجمعَ بينهما في عِصمته، فكما لا يجوز له أن يجمعَ بيْن الأختين، لا يجوز له أيضًا أن يجمع بيْن المرأة وعمَّتِها، ولا بين المرأة وخالتها.
أدلة التحريم:
والأصل في هذا التحريم الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب: فقول الله - تعالى -: ﴿ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ﴾ [النساء: 23]، جاء هذا النص الكريم في سياق المحرَّمات معطوفًا على قوله - تعالى -: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ﴾؛ أي: إنَّ الله - عزَّ وجلَّ - حرَّم عليكم أن تجمعوا بين الأُختين.
فهذا النص الكريم يُحرِّم صراحةً على الشخص أن يجمعَ في عِصمته بيْن أختين، ويحرم دلالةَ الجمع بين امرأتين بينهما قرابةٌ محرميَّة على نحوِ ما بينَّا.
ومع ذلك، فإنَّ السُّنة النبوية قد زادتِ الأمر بيانًا ووضوحًا، فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لا يجوز الجمْعُ بيْن المرأة وعمَّتها، ولا بيْن المرأة وخالتها))[42]، وهو حديث متَّفق عليه، رواه البخاري ومسلم[43]، وأبو داود، [44]، وغيرهم[45] من أئمَّة الحديث.
وقد ساقَه مسلم من طريق آخَرَ[46] عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: نهى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يَجمع الرجلُ بيْن المرأة وعمَّتها، وبيْن المرأة وخالتها"، قال ابن شهاب: فنرى خالةَ أبيها، وعمَّة أبيها بتلك المنزِلة"[47].
وقد انعقدَ إجماعُ العلماء على تحريم الجمْع بيْن الأختين. والجمْع بين الباقيات من المحارِم"[48].
وهذا التحريم شاملٌ لكلِّ أنواع القرابة المحرميَّة؛ أي: سواء كانت القرابة سببها النَّسَب، أو كان سببها الرَّضاع، والنوع الأول هو الذي أجمع العلماء على اعتباره محرمًا للزواج، أما النوع الثاني فهو محرَّم في مذهب جمهور الفقهاء؛ عملاً بقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يحرم من الرَّضاع، ما يحرم مِن النَّسَب))، فكما يحرم عليه أن يجمعَ بيْن الأختين نسبًا، فإنَّه يحرم عليه أيضًا أن يجمع بيْن الأختين رضاعًا، فلو أنَّ فتاتين رضعتَا مِن امرأة واحدة، ثم جاء رجل فتزوَّج إحدى هاتين الفتاتين، فإنَّه يحرم عليه بعدَ ذلك أن يتزوَّج بالفتاة الأخرى؛ لأنَّها أخت زوجته من الرَّضاعة، ولا يجوز له شرعًا أن يجمع الأختين نسبًا أو رَضاعًا في عِصمة واحدة[49].
غير أنَّ هذا التحريم - أي: تحريم الجمْع بين المحارم - تحريمٌ مؤقَّت، بمعنى أنَّه يظلُّ ثابتًا، طالما أنَّ الزوجية قائمة، فإذا ما انتهتْ رابطة الزوجية بطلاق بائِن أو بوفاة، فإنَّ التحريم يزول، ويعود الحِلُّ إلى ما كان عليه قبلَ الزواج، وذلك بعدَ انتهاء عِدَّة الطلاق، أو عِدَّة الوفاة، فإنَّ الزوجية قد تكون قائمةً حقيقةً، كما هو الحال بالنسبة للزوجيَّة الموجودة بالفِعْل دون أن يعتريَها أي عارض، ولا تنقطع رابطةُ الزوجية إلاَّ بعد انتهاء عِدَّة الطلاق، أو عدة الوفاة.
وبناءً على ما تقدَّم: لو أنَّه تزوَّج امرأة وفي عِصمته أختها أو عَمَّتها أو إحدى محارمها، فإنَّ زواجه بالثانية باطل[50]، ولكن هذا التحريم: تحريم مؤقَّت - كما بينا.
فإذا ما طلَّق التي في عِصمته، وانقضتْ عِدَّتُها، زال التحريم، وصحَّ له الزواج بإحْدى هؤلاء القريبات، حيث زال الوصْف الموجِب للتحريم.
الحكمة التشريعية من هذا التحريم:
والحِكمة مِن تحريم الجمْع بيْن المحارم واضحة جليَّة، بل لقد صرَّحتْ بعضُ الروايات بهذه الحِكمة، وذلك في قول رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّكم إن فعلتُم ذلك قطعتُم أرحامكم)).
وهكذا ثَبَت بما لا يدع مجالاً لشكٍّ أو تردُّد أنَّ تحريم الجمْع بيْن المحارم له حِكمة بالغة، هي المحافظةُ على صِلة الأرحام التي أمَر الله - تعالى - أن تُوصَل.
الفرع الثاني في المطلَّقة ثلاثًا:
1 - تحريم المطلقة ثلاثًا.
2 - إمكان العودة بعدَ التزوُّج بآخَرَ.
3 - الحِكمة من ذلك.
سوف نقوم بدِراسة الطلاق دراسةً تفصيلية في القسم الثاني - إن شاء الله تعالى - وسنتكلَّم في هذا القِسم عن الأسباب التي تدعو له، والقيود والضوابط التي تحدُّ مِن سوء استعماله.
ولكنَّنا هنا نتكلَّم عن جزئية صغيرة منه، ألا وهي: إنَّ المطلَّقة ثلاثًا تحرُم على زوجها الذي طلَّقها، بحيث لا تَحِلُّ له إلا بعدَ تتزوَّج مرةً أخرى، زواجًا بنية الدوام والاستقرار، فإذا ما طلَّقها الآخر بعدَ ذلك، فإنَّه يجوز للأوَّل أن يتزوَّجها مرَّة أخرى، بعَقْد ومهْر جديدين بطبيعة الحال؛ "لأنَّه عسى أن يكون الانقطاع لغيرِه، أو به أثَرٌ في نفسه إنْ كانت الإساءة مِن جانبه، وعسى أن تكون عِشرتُها لغيره جعلتْها تعرف قيمةَ الحياة الزوجيَّة معه، فتحسن معاملته إنْ كانت الإساءة من جانبها، وفي الجملة يُرجَى لهذه الحياة الجديدة شيءٌ من القرار والاطمئنان بعدَ الاضطراب فيما قبلها"[51].
والأصْل في هذا قول الله - تعالى -: ﴿ الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 229].
فالطلاق الثلاث يُنهي العِصمة الزوجيَّة بحيثُ لا تحلُّ هذه المطلَّقة لزوجها مرَّةً أخرى في هذه العِصمة، ولكن هذا التحريم ليس تحريمًا مؤبدًا، وإنما يزول هذا التحريمُ إذا تزوَّجتْ هذه المطلَّقة رجلاً آخَرَ زواجًا حقيقيًّا لا صوريًّا، بنية الدوام والاستمرار.
ولا بدَّ في هذا الزواج من الدُّخول الفعلي، بحيثُ ينال منها ما ينال الرجلُ من زوجته عادة، ولقد ورد في الحديث ما يؤكِّد هذا المعنى[52]، فإذا نشب نزاعٌ بينها وبين هذا الزوج وطلَّقها، فإنَّه يَحِلُّ للأوَّل أن يتزوَّجها، فتعود إليه بعِصمة جديدة، وبناء عقد جديد - كما سبق أن بينَّا.
ويلحق بالمطلَّقة ثلاثًا المرأةُ التي لاعَنها زوجُها؛ أي: اتَّهمها بجريمة الزِّنا، ولكنه لم يأتِ بأربعة شهداء، حتى يقامَ عليها حدُّ الزنا - وهو الرجم - فإنَّه يلاعنها[53]، ومثل ذلك يقال فيمَن نفى نَسبَ ولده مِن زوجته، فإذا ما تمَّ لِعانُها فرَّق القاضي بينهما.
وذهب جمهورُ الفقهاء إلى أنَّ اللعان فسخ لعَقْد الزواج، يترتَّب عليه تحريمها على زوجها تحريمًا مؤبدًا[54]، فلا تحلُّ له مطلقًا بعدَ ذلك، حتى ولو كذَّب نفسه فيما اتَّهمها به، فقد روى أبو داود عن سهْل بن سعد في خبر المتلاعِنين، قال: "فطلقها[55] ثلاثَ تطليقاتٍ عند رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأنْفذَه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
وكان ما صُنِع عند النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - سُنَّة، قال سهل: حضرتُ هذه عند رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فمضتِ السُّنَّة بعدُ في المتلاعنين أن يُفرَّق بينهما، ثم لا يجتمعانِ أبدًا"[56].
وسببُ التحريم المؤبَّد هو زوال الثِّقة بينهما كليَّة، حتى ولو كذَّب نفسه بعدَ ذلك، فإنَّ هذه منه أدْعى إلى عدم عودتها إليه، فكيف تعيش معه بعدَ أن قال فيها قولاً عظيمًا، ثم يعترف أنَّه كان كذَّابًا فيما قال؟!
وذهب أبو حنيفة ومحمَّد إلى أنَّ التحريم مؤقَّت إلى أن يكذب نفسه، فإذا أعلن أنَّه كان كاذبًا في قوله، فإنَّ ذلك يبيح لهما العودةَ إلى الحياة الزو