محاولات أولى لفهم بعض النصوص الدستورية
- مسطرة التشريع-
لو حاولنا التوقف عند مجال القانون الذي يختص به البرلمان بمجلسيه، سنجد أن العملية التشريعية في إطاره لا تبتدئ من فراغ، إذ لا بد من وجود عملية الاقتراح التي تساهم بشكل كبير في تحديد القاعدة القانونية، وبدونها يتعذر وجود إضافات جديدة إلى الترسانة القانونية للدولة.
وبعد عملية الاقتراح التي يختص بها كل من رئيس الحكومة وأعضاء البرلمان على السواء (الفصل 78)، تأتي مرحلة المناقشة والتصويت، كأهم المراحل في وضع التشريعات، حيث بتحققها تتقرر القوة الإلزامية للقوانين نظرا لكون البرلمان يكون قد أبدى مبدئيا موافقته على مشاريع ومقترحات القوانين.
ومباشرة بعد انتهاء هذه المرحلة يكون البرلمان قد استنفذ عمله التشريعي، لتبدأ مراحل أخرى هي التي تسمح للقانون بأن يكون منتجا لآثاره القانونية.
وبالتمعن في الفصل 84 من دستور المملكة لسنة 2011، المتعلق بالمسطرة التشريعية، التي يجب أن يتقيد بها البرلمان وقت ممارسته للسلطة التشريعية، سنجد أن المشرع الدستوري، اعتمد فيها نوعا من الصياغة الغامضة التي بإمكانها ان تثير العديد من الارتباكات اثناء الممارسة البرلمانية، لإنعدام الوضوح في النص من جهة، ولغياب أية إشارات لباقي الفصول الدستورية الأخرى المرتبطة بذات الفصل من جهة أخرى.
ولتكون الصورة أكثر وضوحا، سنحاول قراءة الفصل 84 من الدستور بفقرتيه، في ضوء باقي الفصول الدستورية الأخرى، وسنستعين في بعض الأحيان بما كان مقررا في دستور المملكة لسنة 1996 في هذا الخصوص من أجل إجراء نوع من المقارنة وتسليط الضوء على ما استجد من المساطر. وتفصيل ذلك سيكون على الشكل التالي:
_ الفقرة الأولى من الفصل 84
"يتداول مجلسا البرلمان بالتتابع في كل مشروع او مقترح قانون بغية التوصل إلى المصادقة على نص واحد، ويتداول مجلس النواب بالأسبقية، وعلى التوالي، في مشاريع القوانين، وفي مقترحات القوانين التي قدمت بمبادرة من أعضاءه، ويتداول مجلس المستشارين بدوره بالأسبقية، وعلى التوالي، في مشاريع القوانين، وكذا في مقترحات القوانين التي هي بمبادرة من أعضاءه، ويتداول كل مجلس في النص الذي صوت عليه المجلس الآخر في الصيغة التي أحيل بها عليه."
إن قراءة أولية في مقتضيات هذه الفقرة، يمكن أن تفيد بأن كل مشروع أو مقترح قانون، يتداول المجلس المعروض عليه الأمر أولا في نص مشروع القانون المقدم من الحكومة، ثم في نص مقترح القانون المسجل في جدول أعماله، وتبعا لهذا فقد يكون مجلس النواب هو الأول في التداول، كما قد يكون مجلس المستشارين. فإذا كانت الأسبقية لمجلس النواب، فإن هذا المجلس يستمر في دراسة النص حتى يتوصل إلى إقراره عن طريق التصويت عليه، ثم بعد ذلك ينتقل الأمر إلى مجلس المستشارين، ويتبع في ذلك ذات المسطرة من حيث المناقشة والتصويت، وهكذا دواليك حتى يتوصلوا إلى الاتفاق على نص واحد، ليتوجب آنذاك على الحكومة إحالته على جلالة الملك من أجل إصدار الأمر بتنفيذه.
ولكن كل هذا يبقى حبيس القراءة الأولية لمضمون هذه الفقرة، والتي تعتبر محدودة نظرا لعدم تعديها إلى مقتضيات أخرى من الدستور والمرتبطة بذات الفصل، ويتعلق الأمر بالفقرة الثانية من الفصل 78، التي تنص على:
"تودع مشاريع القوانين بالأسبقية لدى مكتب مجلس النواب، غير أن مشاريع القوانين المتعلقة على وجه الخصوص، بالجماعات الترابية وبالتنمية الجهوية وبالقضايا الاجتماعية تودع لدى مجلس المستشارين".
وهو ما يفيد أن الحكومة أثناء لجوءها إلى تفعيل مسطرة إيداع مشاريع القوانين، تكون ملزمة بإيداعها لدى مكتب مجلس النواب، ما عدا تلك المنصوص عليها في الفقرة الثانية من الفصل 78 من الدستور، بحيث تودع إجباريا لدى مكتب مجلس المستشارين، وهو الأمر الذي لم يتم إدراجه في الفقرة الأولى من الفصل 84، بغية تدقيق الصياغة وتوضيحها، مادام هذا الفصل هو المرجع الأساسي في المسطرة التشريعية، وحتى إذا تعذر ذلك تفاديا لتكرار المقتضيات كان يتوجب على المشرع الدستوري الإحالة على الفقرة الثانية من الفصل 78.
فلما كانت المسطرة التشريعية ذات أهمية بالغة في مجال إنتاج القانون، كان على المشرع الدستوري أن يفصل ويدقق المقتضيات المسطرية المتعلقة بها، وبذلك تكون الصياغة الأكثر وضوحا وسلامة على الشكل التالي:
" ويتداول مجلس المستشارين بدوره بالأسبقية، وعلى التوالي، في مشاريع القوانين المتعلقة بالجماعات الترابية وبالتنمية الجهوية وبالقضايا الاجتماعية، وكذا في مقترحات القوانين التي هي بمبادرة من أعضاءه".
هذا من جهة ، ومن حهة أخرى نجد أن الجزء الأول من الفقرة الأولى من الفصل 84، جاءنا بنوع من الصياغة قد تثير إشكالات يستعصي الجواب عنها إلا من خلال معاينة الممارسة البرلمانية لنرى ما ستفرزه لنا بهذا الخصوص، مما جاء فيه:
"يتداول مجلسا البرلمان بالتتابع في كل مشروع أو مقترح قانون بغية التوصل إلى المصادقة على نص واحد".
وهو ما يفيد استمرار التبادل المكوكي لمشاريع ومقترحات القوانين ما بين المجلسين حتى يتم التوصل إلى المصادقة على نص واحد، دون أية إشارة إلى إمكانية رفض المصادقة على النص، أو حالة عدم التوصل إلى الاتفاق ما بين المجلسين حول نص واحد.
وعلى العكس من هذا تماما، كانت مقتضيات الدستور السابق للملكة لسنة 1996 واضحة في هذا الخصوص، حيث نص في الفصل 58 منه على أنه إذا تعذر إقرار مشروع قانون أو مقترح قانون، بعد مناقشته مرتين في كلا المجلسين أو مرة واحدة في كل منهما، إذا أعلنت الحكومة الاستعجال، فإن الحكومة يجوز لها أن تعمل على اجتماع لجنة ثنائية مختلطة من أعضاء المجلسين تكون مهمتها محددة في اقتراح نص يتعلق بالأحكام التي مازالت محل خلاف، وحتى في حالة عدم التوصل إلى اتفاق من داخل اللجنة المختلطة، فالفصل 58 يحيلنا على مساطر استثنائية يمكن للحكومة أن تلتجئ إليها من أجل استكمال أطوار المسطرة التشريعية.
أما الدستور الحالي فلقد جاء غامضا في هذا الخصوص عن نظيره السابق من جهتين معا:
أولا: لعدم التنصيص على عدد المرات التي يسمح بها لمجلسي البرلمان بالتداول في مشاريع ومقترحات القوانين.
ثانيا: لعدم التطرق بتفصيل وتدقيق للمساطر التي يمكن اتباعها في حالة عدم الاتفاق على نص واحد ما بين المجلسين، أو في حالة التصويت بالرفض على النصوص القانونية.
ولكي لا نتسرع في إنتاج بعض الاستنتاجات الأخرى، سنحاول قراءة مدلول الفقرة الثانية من الفصل 84، لعلها تقودنا إلى نتائج أخرى، تزيل بعض الغموض الذي يتولد لدينا من خلال قراءة الفقرة الأولى من ذات الفصل.
_ الفقرة الثانية من الفصل 84
"ويعود لمجلس النواب التصويت النهائي على النص الذي تم البت فيه، ولا يقع هذا التصويت إلا بالأغلبية المطلقة لأعضاءه الحاضرين إذا تعلق الأمر بنص يخص الجماعات الترابية، والمجالات ذات الصلة بالتنمية الجهوية والشؤون الاجتماعية".
بتمعننا في هذه الفقرة سنجد أنها لا تنفصل على الفقرة الأولى، إذ يحاول المشرع الدستوري من خلالها إبراز المكانة المتميزة التي يحتلها مجلس النواب في مجال التشريع، عبر إسناده صلاحية البت النهائي في مشاريع ومقترحات القوانين التي تكون موضوع التداول ما بين المجلسين.
فالتصويت النهائي الذي ورد في هذه الفقرة لا يفيد الانتقال من المسطرة العادية إلى المسطرة الاستثنائية، كما كان معمولا به في ظل دستور المملكة لسنة 1996، إنما يراد به استكمال أطوار المسطرة التشريعية العادية، حيث نجد أن النص جاء واضحا في شأن عرض النصوص التي تم البت فيها (أي المصادقة عليها)، على مجلس النواب من أجل التصويت النهائي عليها، مع الأخذ بعين الاعتبار الفارق البسيط في النصاب القانوني المحدد في عملية التصويت النهائي، بحيث نجد أن النصوص التي تخص الجماعات الترابية والمجالات ذات الصلة بالتنمية الجهوية والشؤون الاجتماعية، تستوجب التصويت بالأغلبية المطلقة للأعضاء الحاضرين، أما فيما عدا ذلك من النصوص فهي تتقرر عن طريق التصويت بالأغلبية العادية.
ومن كل ما سبق، يتضح أن المشرع الدستوري لم يعمد إلى التنصيص على مساطر استثنائية في حالة عدم التوصل إلى اتفاق ما بين المجلسين على نص واحد، متفاديا بذلك التنصيص على بعض الآليات الدستورية التي يمكن أن تتخذها الحكومة منفذا لممارسة نوع من الهيمنة على العملية التشريعية، تاركا بذلك المجال واسعا لمجلس النواب كي يتبوأ مكانة متميزة في العملية التشريعية.
إن عدم التنصيص على مآل النصوص القانونية، وعن الحالات التي لا يتم فيها الاتفاق ما بين المجلسين على نص واحد، هي التي تقودنا إلى مثل هذه النتائج. إذ أن الحكومة في ظل دستور المملكة لسنة 1996، كانت تمارس هيمنة واضحة على العمل التشريعي، إما عن طريق لجوءها إلى مجلس النواب من أجل تفعيل مسطرة التصويت النهائي، وإما إلى عرض النص على مجلس النواب عملا بمقتضيات الفقرة الثانية من الفصل 75 من دستور المملكة لسنة 1996، أي عن طريق ربط التصويت على النص يالمسؤولية السياسية للحكومة.
أما في الدستور الحالي فلا نجد أي مقتضى يمكن أن يفيد تمكين الحكومة من اللجوء إلى تفعيل مثل هذه المساطر الاستثنائية، فالتصويت النهائي الذي يمارسه مجلس النواب عملا بالفقرة الثانية من الفصل 84، يعتبر جزء من مسطرة التداول العادية التي يعتبر فيها البرلمان هو الفاعل الرئيسي، إلا أنه بملاحظة الفصل 103 من الدستور الحالي في الفقرة الثالثة منه التي تنص على:
" لا يمكن سحب الثقة من الحكومة أو رفض النص، إلا بالأغلبية المطلقة للأعضاء الذين يتألف منهم مجلس النواب" سنجد أن الصيغة المعتمدة هي نفس الصيغة التي كانت مقررة في الفقرة الثانية من الفصل 75 في دستور المملكة لسنة 1996، وهو الأمر الذي يطرح سؤال الجدوى من الاحتفاظ بنفس الصيغة؟ مع العلم أنه حاليا لا توجد أية علاقة ما بين التصويت على مشاريع ومقترحات القوانين، وما بين المسؤولية السياسية للحكومة ، وذلك لسبب وحيد هو كون المساطر الاستثنائية التي كانت بيد الحكومة في الدستور السابق لم تعد متاحة، بل الأكثر من ذلك تم الحد من التدخل الحكومي أثناء العملية التشريعية.
ومن خلال كل ما سبق، يتضح أن المشرع الدستوري حاول أن يبوأ البرلمان مكانة متميزة في التشريع، إلا أنه تبقى مع ذلك المقتضيات التي تنص على ذلك متسمة بالغموض، يصعب الحسم في مدلولها من خارج الممارسة البرلمانية، نظرا لبقاء العديد من الأسئلة المرتبطة بالفصل 84 عالقة، والتي يمكن صياغتها على الشكل التالي:
1_ ما هو عدد المرات التي يحق فيها للمجلسين التبادل فيها مشاريع ومقترحات القوانين؟
2_ما هو مصير النصوص القانونية التي لم يتم التوصل بشأنها لاتفاق واحد ما بين المجلسين؟
3_ما هو مصير النصوص القانونية التي يصوت عليها مجلسي البرلمان بالرفض؟
4_لماذا تم ربط التصويت النهائي بالنصوص التي تم البت فيها –أي التي تمت المصادقة عليها- دون النصوص الأخرى؟
من إعداد سليمان التجريني طالب باحث في سلك دكتوراه